أحدث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الجدل مرة أخرى، حين قال في تصريحات له، الأربعاء 12 مارس/آذار، إنه “لن يُطرد أي فلسطيني من قطاع غزة”، ما يعني من حيث الشكل تراجعًا ملحوظًا عن تصريحاته السابقة التي دعا فيها إلى تهجير سكان القطاع لبعض البلدان المجاورة من أجل تحويله إلى “ريفييرا الشرق الأوسط” بعد إعماره بأحدث طرق المعمار العصرية.
جاءت تلك التصريحات خلال مؤتمر صحفي عقده الرئيس الأمريكي داخل البيت الأبيض، مع رئيس الوزراء الأيرلندي، مايكل مارتن، مؤكدًا في الوقت ذاته أن واشنطن تعمل “بجد” بالتنسيق مع “إسرائيل” للتوصل إلى حل للوضع في غزة، ومضيفًا أن 7 تشرين الأول/أكتوبر – في إشارة لعملية طوفان الأقصى- كان “يومًا سيئًا للغاية”، وأن “إسرائيل” كانت “تحت الحصار” خلاله، على حد زعمه، بحسب ما أوردته شبكة يورونيوز الإخبارية الأوروبية.
في تراجع ملحوظ عن تصريحاته السابقة.. الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قال إنه "لن يُطرد أي فلسطيني من قطاع غزة"، مؤكدا في الوقت ذاته أن واشنطن تعمل "بجد" بالتنسيق مع إسرائيل للتوصل إلى حل للوضع في غزة
للمزيد: https://t.co/OZNGGW3zRx pic.twitter.com/0RkMZewbRG
— Aljazeera.net • الجزيرة نت (@AJArabicnet) March 12, 2025
ومنذ 25 كانون الثاني/يناير الماضي وترامب يروج لمخطط تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن، وسيطرة الولايات المتحدة على القطاع، أو على الأقل تدويله، وهو المقترح الذي قوبل بالرفض من الدولتين، وسط إدانة إقليمية ودولية بمثل هذا المقترح العنصري الذي لاقى ترحيبًا كبيرًا لدى الجانب الإسرائيلي، خاصة اليمين المتطرف، الذي طالب على الفور بالبدء في تنفيذ المخطط ميدانيًا.
وأثار حديث الرئيس الأمريكي الأخير عن قطاع غزة ومستقبل سكانه العديد من التساؤلات حول حقيقة ودوافع هذا التحول في الموقف، وما إذا كان تحولًا حقيقيًا أم مجرد مناورة سياسية تكتيكية تتزامن مع جولة المفاوضات الحالية -الإيجابية بحسب المؤشرات- في الدوحة، والتي تُجري فيها إدارة ترامب ولأول مرة مباحثات مباشرة مع حركة المقاومة الفلسطينية حماس، بمعزل عن الكيان المحتل.
تراجع عن مخطط التهجير
القراءة الأولية لتلك التصريحات تشير باتجاه التراجع عن الموقف السابق بشأن تهجير سكان القطاع، وهي الدعوات التي طالما رددها الرئيس الأمريكي طيلة الشهرين الماضيين، وأصر عليها بصورة جدلية، وهو ما رحبت به حماس على لسان المتحدث باسمها، حازم قاسم، داعية ترامب إلى “عدم الانسجام مع رؤية اليمين الصهيوني المتطرف”.
وفي تصريح مقتضب له بعد ساعات قليلة من حديث ترامب قال قاسم “في حال كانت تصريحات الرئيس الأميركي ترامب هي تراجع عن كل فكرة تهجير أهالي قطاع غزة، فهي تصريحات مرحب بها، وندعو لاستكمال هذا الموقف بإلزام الاحتلال بتطبيق كل اتفاق وقف إطلاق النار”.
الترحيب ذاته عبرت عنه القاهرة التي أعربت عن تقديرها لتصريحات الرئيس الأمريكي، مؤكدة في بيان لها نشرته وزارة الخارجية المصرية على صفحتها على فيسبوك أن هذا الموقف يعكس تفهمًا لأهمية تجنب تفاقم الأوضاع الإنسانية في القطاع، وضرورة العمل على إيجاد حلول عادلة ومستدامة للقضية الفلسطينية.
وشددت مصر في بيانها على “أهمية البناء على هذا التوجه الإيجابي لدفع جهود إحلال السلام في الشرق الأوسط” حيث ترى مصر أن “مبادرة الرئيس ترامب لإنهاء الصراعات الدولية وإحلال السلام بما في ذلك في الشرق الأوسط يمكن أن تمثل إطارًا عمليًا للبناء عليه والعمل المشترك لتحقيقه، وبما يراعي تطلعات الشعب الفلسطيني المشروعة، وعلى رأسها حقه في إقامة دولته المستقلة على حدود 4 يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية”.
تنطلق تلك الرؤية التي تميل إلى قراءة تصريحات الرئيس الأمريكي كتراجع عن موقفه السابق بشأن سكان القطاع استنادا إلى فوضوية وعفوية دعوات التهجير التي طالب بها، والتي تفتقد إلى أي استراتيجية عملية للتطبيق، فهي محض خيال وأمنيات تستهدف الضغط على المقاومة والوسطاء لا أكثر، ولم تكن مبنية على أي مرتكزات.
علاوة على ذلك فإن مثل تلك الرؤى تتعارض بشكل كبير مع رؤية دوائر صنع القرار في الداخل الأمريكي لملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فضلًا عن عدم الترحيب، العربي والدولي، بمثل تلك المخططات العنصرية التي تقوض الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط وتهدد مصالح أمريكا في تلك المنطقة وتضعها في مأزق سياسي وأخلاقي كبير وفي مرمى الانتقادات الدولية، علاوة على ما يمكن أن يترتب على الإصرار عليها وفرضها بالدبلوماسية الخشنة من خسارة واشنطن لحلفائها العرب مما يهدد حضورها الإقليمي ويقزم نفوذها في المعركة الأهم أمريكيًا أمام الصين وروسيا والمعسكر الشرقي.
مناورة سياسية
على الجانب الأخر فهناك قراءة ثانية تميل إلى أن تصريحات ترامب التي بدا من خلالها متراجعًا عن مواقفه السابقة ما هي إلا مناورة سياسية معتادة لا تعكس بأي حال من الأحوال أي تغير في المواقف، وذلك استنادًا إلى بعض المؤشرات يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط:
أولًا: ترامب لم يقل صراحة إنه تراجع عن فكرة تهجير الغزيين بشكل مطلق، لكنه قال إنه لن يٌطرد أحد من غزة، في إشارة إلى الهجرة القسرية، غير أنه لم يشر إلى مسألة الهجرة الطواعية، وهي النقطة التي كانت مثار خلاف بين بعض الدول العربية أثناء قمة الرياض المصغرة التي عقدت الشهر الماضي، وناقشت المقترح العربي الخاص بالرد على مقترح الرئيس الأمريكي.
فحين تكون الهجرة رغبة غزية مباشرة بعد قتل كل مقومات الحياة في القطاع، فهنا قد يكون الأمر مقبولًا، وسيتحقق المخطط ذاته لكن بطريقة مختلفة، وهو ما بدا يلوح في الأفق حاليًا، حيث حصار القطاع مجددًا وغلق المعابر ورفض إدخال المساعدات الإنسانية وقطع كل المرافق من مياه وكهرباء وخلافه.
ثانيًا: تصريح الرئيس الأمريكي جاء ردًا على سؤال كان موجهًا في الأساس إلى رئيس الوزراء الأيرلندي بشأن ما إذا كان يوافق أو يتفق مع ترامب فيما يتعلق بطرد الفلسطينيين من غزة، إذ يبدو أن صيغة السؤال بهذه الكيفية قد أثارت حفيظة ترامب الذي وجده نفسه في موقف حرج أمام ضيفه الأيرلندي – الذي تُعارض بلاده في الأساس الحرب الإسرائيلية على غزة- ما دفعه للرد هو نيابة عنه، نافيًا عن نفسه جريمة “طرد الفلسطينيين” من بيوتهم داخل القطاع، فما حدث رد فعل لنفي تهمة ما، أمام ضيف صاحب توجه مختلف، وليس شرطا أن يكون تعبيرًا عن تغير في المواقف.
ثالثًا: تتزامن تلك التصريحات مع المفاوضات الجارية الآن في الدوحة، بشأن اتفاق وقف إطلاق النار مع حماس والتوصل لصيغة تضمن بها واشنطن إطلاق سراح الأسرى المحتجزين لدى المقاومة، وهي المفاوضات التي شهدت ولأول مرة مباحثات مباشرة بين الإدارة الأمريكية ومسؤولي الحركة، وهو ما أغضب تل أبيب.
ويحاول ترامب من خلال تلك التصريحات التي قرأتها حماس على أنها تراجع في الموقف، مغازلة الحركة والوسطاء العرب، لإبداء المزيد من المرونة بغية تقديم تنازلات إضافية، تٌفضي في النهاية إلى تحقيق انتصار سياسي يُحسب للرئيس الأمريكي وإدارته، خاصة بعد فشله في تحقيق هذا الانتصار بلغة التهديد والوعيد بالجحيم والقوة العسكرية، ما أجبره لاحقا على ابتلاع تلك التهديدات والعودة – مُرغما- للخطاب الدبلوماسي الهادئ نسبيًا.
رئيس وزراء أيرلندا يحرج ترامب ويدفعه للتراجع عن تصريحاته بشأن تهجير الفلسطينيين من غزة pic.twitter.com/n6npfciVcd
— شبكة رصد (@RassdNewsN) March 13, 2025
تنطلق تلك القراءة في الأساس من قاعدة الدعم المطلق الذي يقدمه ترامب لدولة الاحتلال، وارتداءه عباءة المخلص الأمين للصهيونية ومخططاتها التوسعية في الشرق الأوسط، وتوسلاته المستمرة للحصول على مباركة الإنجيليين البيض، غير أن الرجل يتحرك بشكل براغماتي بحت، معتنقًا الميكافيللية منهج حياة في إدارته السياسية، فما لم يتحقق بالتهديد ربما يأتي بالدبلوماسية.
ومن ثم فإن التصريحات الأخيرة الصادرة عن ترامب، تأت في سياق تبادل الأدوار بينه وبين الحليف الإسرائيلي، فبينما يحاول هو امتصاص الغضب العربي والدولي جراء دعواته بالتهجير، تترجم تل أبيب تلك الدعوات على أرض الواقع بشكل مكثف، سواء من خلال تدشين إدارة خاصة للتهجير الطوعي للغزيين أو قتل مقومات الحياة أمامهم ووضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الموت جوعًا وعطشًا وقصفًا داخل القطاع أو الخروج طواعية لأي مكان في العالم بمغريات عدة.
وأمام تلك الممارسات الإسرائيلية لتنفيذ مخطط التهجير، تقف إدارة ترامب خلف حكومة الاحتلال كقوة داعمة، إما بالتسليح والدعم اللوجستي بما يساعد المحتل على تنفيذ مخططه، أو عبر منحها الضوء الأخضر بغض الطرف والصمت إزاء الجرائم المرتكبة، وإشغال المجتمع العربي بحرب التصريحات وكرات النار المشتعلة التي يلقيها بين الحين والأخر.
على كل حال.. ما يجب أن يوضع في الاعتبار هنا الوضع الميداني في غزة، حيث الحصار المفروض على مليوني فلسطيني، في ظل العجز عن كسره أو حتى خلخلته، بما ينذر بوأد ما تبقى من مقومات الحياة داخل القطاع المُنهك، وعدم الانزواء خلف معارك ترامب الكلامية، والتعامل معها كمعركة فاصلة، فالواقع أبلغ وضوحًا من أي توضيح، والموقف العربي الموحد وتوظيف ما لدى العرب من أوراق ضغط، ولو بالإشهار فقط، كاف لتغيير المشهد، الأمر فقط يحتاج إلى إرادة حقيقية، إن توفرت ستنقلب المعادلة.