كثير من الناس ربما لا يعرفون شيئًا عن جزر المالديف إلا المنطقة الشهيرة بشواطئها الساحرة وطبيعتها الخلابة التي تأسر المصطافين إليها من كل أنحاء العالم على مدار العام، وباتت قبلة العاشقين للطبيعة الباحثين عن الاسترخاء والاستجمام على أنغام اللآلئ والشعب المرجانية التي تخطف الأبصار والعقول.
لكن على الجانب الآخر، هناك زاوية ربما لم يطلع عليها البعض، فهذا المكان الشهير الذي يقع في قارة آسيا داخل المحيط الهندي، والمكون من سلسلة من 26 جزيرة من الجزر المرجانية، كان يحيا على مدار عقود طويلة مضت على المعتقدات الوثنية والأساطير الخرافية، لكن في وقت لا يساوي في حساب الزمن لحظات تحولت تلك الجزر إلى قبلة للإسلام، حتى إنه لم يعد هناك مواطن يقيم فوق هذه الأرض غير مسلم، وبات الإسلام شرطًا للمواطنة المالديفية، ويعود هذا الفضل إلى رحالة عربي يسمى أبو البركات يوسف البربري الذي أدخل الإسلام لتلك الجزر.. فمن هذا الرجل؟
العفريت يحكم الجزيرة
وقع أهالي الجزيرة لسنوات طويلة أسرى لعدد من الخرافات على رأسها ما سمي بـ”أسطورة العفريت” التي كان بسببها يضحي قاطنوها بامرأة كل شهر، استجابة لرغبة عفريت يأتيهم عن طريق البحر، وهو الأمر الذي أرهق الأهالي بصورة كبيرة، لكن خوفهم من عدم الاستجابة لهذا المعتقد كان حائلاً بينهم وبين الامتناع عن الانصياع لتلك الخرافة.
في كتابه “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” تحدث الرحالة المغربي محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة، عن هذه الخرافة بشيء من التفصيل وذلك خلال زيارته لجزر المالديف، حيث قال: “نساؤها لا يلبسن إلا فوطة واحدة وتسترها من السرة إلى أسفل، وسائر أجسادهن مكشوفة، وكذلك يمشين في الأسواق وغيرها، ولقد جهدت لما وليت القضاء بها أن أقطع تلك العادة وآمرهن باللباس، فلم أستطع ذلك، فكنت لا تدخل إلي منهن امرأة في خصومة إلا مسترة الجسد، وما عدا لم تكن عليه قدرة”.
ظلت الجزيرة على حالتها تلك حتى وصلها رحالة مغربي يدعى أبو البركات، جاء للعمل في التجارة، لكنه مع مرور الوقت اقترب أكثر وأكثر من الأهالي مستمعًا لتلك الخرافة التي خيمت على الأرجاء في ذلك الوقت، غير أنه استطاع أن يثبت لهم جميعًا كذب ما يؤمنون به
وبحسب ابن بطوطة فإن أهل هذه الجزر كانوا “كفارًا”، وكان يظهر لهم في كل شهر “عفريت من الجن، يأتي ناحية البحر، كأنه مركب مملوء بالقناديل. وكانت عادتهم إذا رأوه، أخذوا جارية بكرًا فزينوها وأدخلوها إلى “بدخانة”، وهي بيت الأصنام، وكان مبنيًا على ضفة البحر، وله طاق ينظر إليه، ويتركونها هنالك ليلة، ثم يأتون عند الصباح فيجدونها مفتضة ميتة، ولا يزالون في كل شهر يقترعون بينهم، فمن أصابته القرعة أعطى بنته”.
ظلت الجزيرة على حالتها تلك حتى وصلها رحالة مغربي، يدعى أبو البركات، جاء للعمل في التجارة، لكنه مع مرور الوقت اقترب أكثر وأكثر من الأهالي مستمعًا لتلك الخرافة التي خيمت على الأرجاء في ذلك الوقت، غير أنه استطاع أن يثبت لهم جميعًا كذب ما يؤمنون به، وذلك حين وجد سيدةً عجوزًا تبكي، فلما استفسرها قالت له إن القرعة وقعت على ابنتها، وهنا كانت البداية.
دخول الإسلام
وبحسب ما جاء في كتاب ابن بطولة: “ثم إنه قدم عليهم مغربي يسمى بأبي البركات البربري، وكان حافظًا للقرآن العظيم، فنزل بدار عجوز منهم، فدخل عليها يومًا وقد جمعت أهلها وهن يبكين كأنهن في مأتم، فاستفهمهنّ عن شأنهن، فلم يفهمْنَ، فأُتـِيَ بترجمان فأخبره أن قرعة الشهر وقعت على العجوز، وليس لها إلا بنت واحدة يقتلها العفريت، فقال لها أبو البركات: أنا أتوجه عوضًا من بنتك بالليل، وكان أمرد الوجه، فاحتملوه تلك الليلة فأدخلوه إلى بيت الأصنام وهو متوضئ، وأقام يتلو القرآن، ثم ظهر له العفريت من النافذة، فاستمر يتلو، فلما اقترب منه وسمع القراءة، غاص في البحر، وأصبح المغربي وهو يتلو على حاله، فجاءت العجوز وأهلها وأهل الجزيرة ليستخرجوا البنت على عادتهم فيحرقوها (ظنًا منهم أن العجوز وضعت بنتها هناك)، فوجدوا المغربي يتلو القرآن، فمضوا به إلى مَلِكِهم، وكان يسمى (شنورازة)، وأعلموه بخبره، فعجب منه، وعرض عليه المغربي الإسلام ورغّبه فيه، فقال له الملك: أقم عندنا إلى الشهر الآخر فإن فعلت كذلك ونجوت من العفريت أسلمتُ!”.
وبالفعل مر الشهر ولم يحدث شيئًا، ولم تتعرض الفتاة لأي أذى، وهنا ما كان من الملك إلا أن أعلن إسلامه وتبعه مواطنوه الذين كانوا يدينون بالبوذية وبنى السلطان مساجد ومدارس لتعليم الناس دينهم الجديد الذي دخلوا فيه جميعًا، وبات البربري العلم الأبرز في الجزيرة لسنوات طويلة.
“ثم أقام عندهم وشرح الله صدر الملك للإسلام فأسلم قبل تمام الشهر، وأسلمَ أهله وأولاده وأهل دولته، ثم حُمِل المغربي لما دخل الشهر إلى بيت الأصنام، ولم يأتِ العفريت، وجعل يتلو حتى الصباح، وجاء السلطان والناس فوجدوه على حاله من التلاوة، فكسروا الأصنام، وهدموا بيتها، وأسلم أهلُ الجزيرة، وبعثو إلى سائر الجزر، فأسلم أهلها، وأقام المغربي عندهم معظَّما وتمذهبوا بمذهبه، مذهب الإمام مالك رحمه الله، وهم إلى هذا العهد يعظمون المغاربة بسببه، وبَنَى مسجدًا معروفًا باسمه، وقرأت على مقصورة الجامع منقوشًا في الخشب: أسلَم السلطان أحمد شنورازة على يد أبي البركات البربري المغربي، وجعل ذلك السلطان ثلثَ مجابي الجزر صدقة على أبناء السبيل إذْ كان إسلامه بسببهم”، كما ورد في كتاب “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”.
في مجلد “التاريخ الإسلامي: العهد العثماني” حكى العلامة محمود شاكر أن التجار المسلمين وصلوا إلى جزر المالديف عام 85 في خلافة عبد الملك بن مروان، وبدأ بعض الناس يدينون بالإسلام، لكن “ظهر أثر المسلمين واضحًا عام 545 بعد أن وصل الدعاة إلى تلك الجزر ومنهم أبو البركات البربري، فاستطاع بإذن الله أن يأخذ بأيدي السكان نحو الإسلام، وأسلم الناس جميعًا حتى لم يبق في الجزيرة غير مسلم، وأسلم الملك وتسمى محمد بن عبد الله”.
يذكر أن الجزر كانت تدين بالبوذية في وقت توسع الإمبراطور أشوكا الذي كان يروج وأسلافه لهذا المعتقد، فأصبح الدين السائد لأهل المالديف حتى القرن الـ12، ومن هذا التوقيت بدأ الإسلام يدخل الجزر كما هو مدون في مراسيم مكتوبة في لوحات النحاس على جدران البنايات الأثرية في الجزر التي ظلت شاهدة حتى الآن على أسلمة الجزيرة.
دور مؤثر
بلغ تأثير أبي البركات إلى آفاق عدة، فلم يتوقف عند حاجز نشر الإسلام في الجزيرة فحسب، بل أدخل تأثيرات عدة في اللغة المحلية المعروفة باسم السيلانية، منها إدخاله كلمات عربية على قاموسها اللغوي، وأصبح الأهالي يستخدمونها حتى اليوم، منها: الله – الرسول – القرآن – الملائكة – الآخرة – الثواب – العقاب وغيرها من الكلمات العربية التي أصبحت جزءًا من الحياة الجديدة.
بلغ تقدير المالديفيين للرحالة العربي حد التقديس، وفق ما ذهب إسلام المرشدي الباحث المتخصص في التاريخ الإسلامي، الذي أشار إلى أنه لم يكن هناك بيت واحد في جميع الجزر دون أن يذكر فيه اسم أبي البركات، حتى بين كبار القوم وعلية الناس، كان الحديث عنه وجبة دائمة لا يمل منها الناس، وأضاف في حديثه لـ”نون بوست” أن من صور تقدير المالديفيين له أن بنوا له قبرًا في قلب العاصمة المالديفية، ماليه، تحول مع مرور الوقت إلى مزار سياحي يرتاده العاشقون للتاريخ المحبون للشخصيات التاريخية ذات التأثير القوي في حياة الشعوب والمجتمعات.
ومن صور هذا التقدير أن أهالي المالديف تمذهبوا بمذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وهم إلى هذا العهد يعظمون المغاربة بسببه، هذا بخلاف بنائهم عدد من المساجد التي تحمل اسمه في مختلف الجزر، وتضمينه للمناهج الدراسية في المراحل كافة، تقديرًا لدوره في تخليص هذه البقعة من ظلم الوثنية إلى نور الإسلام.
صومالي أم مغربي؟
من المسائل الجدلية التاريخية التي أثيرت بشأن هوية الرحالة الذي أدخل الإسلام إلى المالديف كانت جنسيته، فبينما ذهبت معظم المصادر إلى أن أبي البركات البربري مغربي الجنسية، يرى بعض الباحثين غير ذلك، معتبرين أن ابن بطولة أخطأ بخصوص المالديف، وانحاز للسرد المغاربي في نسبته لأبي البركات البربري للأمازيغ (البربر)، بينما قد يكون منحدرًا من بربرة (ميناء تجاري قديم شمال الصومال).
أنصار هذا الرأي يعززون موقفهم بأن ابن بطوطة حينما زار الجزر كان حاكمها في هذا التوقيت صومالي الجنسية، وهو عبد العزيز المقديشوي (نسبة لمقديشو الصومالية)، وكان سلطانًا على الجزر من قبل سلطنة أجوران، وهي سلطنة إسلامية صومالية حكمت أجزاءً كبيرةً من منطقة القرن الإفريقي في العصور الوسطى، ومن ثم ووفق هذه الراوية فإن أبو بركات البربري هو نفسه يوسف بن أحمد الكونين الذي أسس أسرة الوشمة في القرن الإفريقي التي حكمت سلطنة عِفَت وسلطنة عدل في شرق إفريقيا، ساعد في ترويجها استخدام اللغة العربية في الحكم وهيمنة المذهب المالكي وهي ذات المبررات التي ساقها أنصار الميل إلى مغربية جنسية الرحالة.
وعلى المستوى المغربي، وتقديرًا للدور الذي قام به الرحالة العظيم، أطلقت الرباط اسم “أبو البركات البربري” على الباخرة العلمية التي استلمتها من الولايات المتحدة في إطار التعاون في مجال الدراسات المحيطية والبيولوجية، وفي نوفمبر 1993 أعلن العاهل المغربي ضم تلك الباخرة إلى إسطول البحرية الملكية المغربية، وأقيم حفل كبير بهذه المناسبة، حضره الأمير رشيد، النجل الأصغر للعاهل المغربي الملك الحسن الثاني، وعدد من قادة القوات المسلحة المغربية والقائمة بأعمال السفارة الأمريكية في الرباط خوان بليستد.