لم تترك حرب الإبادة الدائرة على غزة منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023 بشرًا أو حجرًا في القطاع، ولا حتى أثرًا، إلا وجاءت عليه. لقد اغتالت الحرب ذاكرةً بأكملها، بناها الغزيون على مدار أكثر من قرن، فيها ما فيها من ملمّاتٍ وتحولاتٍ وتضحياتٍ وتحديات، منذ أن كانت غزة مدينة مُزَنَّرة بأريافها في أواخر عُثمانيتها مطلع القرن الماضي، مرورًا ببَترها من أطرافها وتحولها إلى أكبر قطاعٍ للنازحين – اللاجئين على أثر نكبة عام 1948، وصولًا إلى حصارها وجعلها، مع مطلع القرن الحالي، أكبرِ سجنٍ محاطٍ بالسياج والجدران الذكية.
وليس النَّبشُ في كتب اليوميات والمذكرات والسِّيَر الغزية، التي كتبها غزيون أو كُتِبت من غزة وقطاعها، إلا محاولةً لاستعادة تلك الذاكرة، حيث توفر تلك الكتب مادةً للباحث في سيرة غزة وذاكرتها أكثر مما في ذاكرة وسيرة كاتبيها، بعضها كتبها غزيون من أبناء غزة المدينة نفسها، وبعضها كُتِب بأقلام أبناء المدن والبلدات المحيطة بها، مثل خان يونس، وأخرى كُتبت بحبر لاجئيها بعد عام 1948، ومنها ما كُتب من قِبَل بعض الموفدين إليها من خارجها، مثل عارف العارف في يومياته الغزية.
معظم أصحاب تلك اليوميات والمذكرات رجال، باستثناء مذكرات “عقد اللولو انفرط” للكاتبة الغزية عايدة سعد، والتي لم يتسنَّ لنا الحصول عليها، دون كل كتب المذكرات واليوميات والسِّيَر التي أتيحت لنا، بسبب الحرب وتعذُّر التواصل في ظلها.
ومن الأهمية بمكان التمييز بين اليوميات والمذكرات؛ فهذه الأخيرة تُكتب عادةً محكومةً بذاكرة صاحبها، الذي يعود إلى سرد الأحداث بأثرٍ رجعي، معتمدًا على ذاكرته، ومُضيفًا إليها ما دونه في أوراقه الخاصة، وكذلك بالنسبة للسِّيَر عادةً، أما اليوميات، فتُكتب بصرف النظر عن تاريخ نشرها، بناءً على معاينة الأحداث وتدوينها يوميًّا، مع تأريخها في حينها، لذا كانت أوراق “يوميات عارف العارف” من أبكر ما كُتب من يوميات ومذكراتٍ عن مدينة غزة، منها ما سبق النكبة.
مع العلم، لا تغطي هذه اليوميات المراحل الأقدم من تاريخ غزة، إذ إن بعض المذكرات التي كُتبت بعد أوراق عارف العارف تناولت مراحل أبكر من تلك التي أرّخ لها العارف في أوراقه أواخر ثلاثينيات القرن الماضي.
“يوميات عارف العارف”
آفتان أنهكتا غزة في الثلاثينيات
تعود كتابة عارف العارف ليومياته الغزية إلى عام 1939، وقد ظلت غير منشورة حتى يومنا هذا، ربما لأنها منقوصة وغير مكتملة، إذ يتوفر منها نحو 95 ورقة فقط، دوّنها صاحبها على شكل يوميات امتدت زمنيًا من 22 تموز/يونيو 1939 إلى 23 أيار/مايو 1940، مما يؤكد فقدان بعض تلك الأوراق.
ومع ذلك، فإن يعطي المتوفر من أوراق يوميات العارف صورة جلية عن حال مدينة غزة وأوضاع أهلها بين عامي 1939-1940. علمًا بأن عارف العارف قد ألّف لاحقًا، بعد نكبة عام 1948، كتابًا خاصًا في مدينة غزة وتاريخها بعنوان “تاريخ غزة”.

بدا صاحب اليوميات متحاملًا على مدينة غزة ومتذمرًا من أوضاعها، خصوصًا وأن العارف جرى نقله من بئر السبع إلى غزة بأمر مكرهًا من سلطات الانتداب البريطاني، حيث كان يشغل منصب قائمقام المدينة، إذ لم ترق لسلطات الانتداب علاقته الوثيقة بعربان بئر السبع، وفق ما يروي صاحب اليوميات، الذي لم يكن يخفي تعاطفه مع الثورة والثوار، ما أدى إلى إبعاده عن بئر السبع ونقله عقابًا له.
فضلًا، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار حالة الفوضى والفلتان اللذين عمّا غزة وباقي مدن وأرياف فلسطين في عام 1939، على أثر الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) وإجهاضها على يد قوات السلطات الاستعمارية البريطانية.
بحسب عارف العارف في يومياته، فقد دبّ الفلتان في مدينة غزة آنذاك، حيث تخللته أعمال نهب وسرقات، إضافة إلى نزاعات عائلية وصلت إلى حد القتل والتصفية الجسدية، وكل ذلك على مرأى ومسمع من سلطات الانتداب البريطاني، التي آثرت ترك الفوضى تستشري بدلًا من مواجهة التمرد ضدها.
كانت أيام غزة المدينة، وكذلك البلدات المحيطة بها مثل خان يونس ورفح، وحتى بلدة المجدل في ريف غزة الشمالي، وفق يوميات العارف لعام 1939، مليئة بملاحقات سلطات الانتداب للأهالي والمحسوبين على الثورة الكبرى، إذ تشير اليوميات إلى حملات المداهمات والاعتقالات شبه اليومية لشخصيات من أبناء المدينة والبلدات الأخرى.
وذلك في ظل انقسام غزة المدينة على نفسها بين مؤيدين للثورة والحسينيين – نسبة للحاج أمين الحسيني – وبين معارضين لهم ولخط الثورة عمومًا، مما انعكس سلبًا على غزة وأهلها، ليس سياسيًا فحسب، إنما اجتماعيًا وكذلك اقتصاديًا، الأمر الذي جعل المدينة لا تُطاق بحسب ما عبّر عنه العارف في غير ورقة من أوراق يومياته.
تفيد يوميات عارف العارف في التعرف إلى حال غزة في أواخر ثلاثينيات ومطلع أربعينيات القرن الماضي، في ظل آفتين كانتا تنخران جسدها السياسي والاجتماعي: الأولى، سياسة جرد الحساب التي اتبعتها سلطات الانتداب إزاء المدينة، من أعمال قمع وتأديب بطرق وأدواتٍ استعمارية مختلفة.
والثانية، آفة التحزب العائلي داخل نسيج المدينة الاجتماعي، وتحديدًا بين الحسيني والشوا، الأمر الذي انعكس سلبًا على الحركة الوطنية بشكل خاص، وعلى المدينة وريفها بشكل عام.
ولم يتردد صاحب اليوميات، بحكم موقعه كموظف إداري، في فضح مظاهر محاباة البعض لسلطات الانتداب، بل وتورط بعض كبار أفندية غزة، من كلا الطرفين، سواء المحسوبين على الثورة أو المعارضين لها، في تسريب أراضٍ للحركة الصهيونية، وقد أشار إليهم العارف بالاسم واللقب في أوراقه.
“دفاتر فلسطينية”
شهادة على النضال ضد مخططات التهجير
في أحد عشر دفترًا، جمعها الشاعر والمناضل الغزي معين بسيسو في كتابٍ صدر بطبعته الأولى عن دار الفارابي سنة 1978، ينبش بسيسو فيها تاريخ غزة المدينة بأحيائها والمخيمات المحيطة بها، ما بين مطلع الخمسينيات ومطلع ستينيات القرن الماضي، وقد غدت غزة قطاعًا يعج بالنازحين – اللاجئين، يتبع للحكم المصري.
“كتبوا مشروع سنا بالحبر… وسنمحو مشروع سينا بالدم…” كان هذا شعار المرحلة في غزة مطلع الخمسينيات، وتحديدًا شعار اليسار – الشيوعيين الغزيين الذين هيمنوا على المشهد السياسي في القطاع.
عمل بسيسو منذ عام 1953 مدرسًا في مدرسة البريج الإعدادية التابعة لوكالة تعليم اللاجئين الفلسطينيين، بعد عودته إلى غزة قادمًا من مصر، التي حاز فيها على شهادة ليسانس الآداب من الجامعة الأمريكية في القاهرة، بعد أن مرّ بالعراق حيث عمل هناك لمدة عام في سلك التدريس كذلك.
وبعد عودته، كانت غزة المدينة والمخيمات تستيقظ كل صباح على خبر العثور على جثة أحد اللاجئين الفلاحين ملقاة ومهشمة برصاص الصهاينة، على أثر محاولات التسلل التي كان يداوم عليها بعض اللاجئين إلى قراهم المهجرين منها في ريف غزة، وذلك في الوقت الذي بدا فيه مخطط تهجير لاجئي القطاع إلى الصحراء يلوح في الأفق، وفق ما يروي بسيسو في دفاتره.
كانت الصهيونية، بالتواطؤ مع وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) في القطاع، قد طرحت مشروعًا يقضي بنقل سكان بعض المخيمات الفلسطينية في القطاع إلى صحراء سيناء، بغرض التخفيف من الكثافة الديمغرافية في غزة، التي نزح إليها ما يزيد عن 220 ألف لاجئ فلسطيني.
كان حسني بلال، أول شهيد محسوب على الحزب الشيوعي في قطاع غزة، قد استشهد برصاص شرطة غزة – المصرية في تظاهرة خرجت فيها غزة عن بكرة أبيها في الأول من آذار/مارس سنة 1955، رفضًا لمؤامرة نقل لاجئي غزة وتوطينهم في الصحراء، وهو ما عُرف في الذاكرة الشعبية الغزية بمخطط “اللوريات”، أي “الشاحنات” التي كان يُفترض أن تنقل اللاجئين الغزيين إلى سيناء.
تُحيل دفاتر بسيسو قارئها إلى حجم المؤامرات التي كانت تُدبَّر للقطاع وسكانه خلال تلك المرحلة، ففضلًا عن مؤامرة ترحيل اللاجئين إلى صحراء سيناء، يشير صاحب الدفاتر إلى نضال الغزيين في المدينة والمخيمات ضد مشروع تدويل قطاع غزة عام 1956، وذلك على أثر حملة العدوان الثلاثي على مصر، إذ فرض الغزيون بالقوة إعادة ممثل الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر إلى القطاع، ورفضوا أي حكم بديل عن حكم مصر الناصرية، ثم نضالهم في مواجهة مشروع عام 1958، الذي اعتبره بسيسو مؤامرة، وكان يقضي بإلحاق قطاع غزة بنظام العرش الهاشمي وملكه الحسين بن طلال في الأردن.
كان قطاع غزة قد تعرض لحملة اعتداءات منظمة ومجازر حقيقية، لم يقرأها معين بسيسو في دفاتره إلا في سياق تمرير مخططات التهجير، منها مجزرة ليلة 28 شباط/فبراير 1955، عندما أغارت طائرات إسرائيلية، مستهدفةً محطة سكة حديد القطار في القطاع، حيث راح ضحيتها عشرات الجنود المصريين والسودانيين، وقد اعتبر بسيسو تلك المجزرة جزءًا من خطة تنفيذ مخطط التهجير.
كان شارع عمر المختار، الشارع الأبرز الذي يختزن ذاكرة غزة الاحتجاجية والنضالية في خمسينيات القرن الماضي، حيث شهد أكبر المسيرات والتظاهرات لسكان القطاع ضد الاعتداءات الإسرائيلية ومخططات الترحيل، بحسب ما يروي بسيسو، وفيه أُسقطت جميع تلك المخططات.
كما يلفت بسيسو في دفاتره إلى أن سكان غزة المدينة وقفوا كتفًا إلى كتف مع لاجئيها في المخيمات، في صف واحدٍ للنضال ضد ما كان يُحاك من مؤامرات على القطاع برمته.
“إسرائيل كما عرفتها”
حين تحولت مستشفيات غزة إلى ساحات حرب
تُعتبر شهادة الطبيب المصري أحمد الفنجري، التي دوّنها في كتاب مذكراته بعنوان “إسرائيل كما عرفتها”، والصادر بطبعته الأولى عن دار الأمين سنة 1960، والثانية سنة 1995، واحدة من أبرز الشهادات التي وثّقت أوضاع قطاع غزة وسكانه خلال أحداث العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، بل إن الفنجري يرى أن ذلك العدوان لم يكن “عدوانًا ثلاثيًا على مصر” وحدها، أو على مصر من خلال غزة، بل كان في حقيقته عدوانًا ثلاثيًا على مصر وغزة معًا، إذ انكشف له حقيقة “إسرائيل” من خلال تلك التجربة وتلك المرحلة معًا.
كان الفنجري قد وصل القطاع قادمًا وموفدًا من القاهرة كطبيب عبر القطار، وذلك في مطلع كانون الثاني/يناير عام 1953، وما إن حطت عصا رحاله في غزة المدينة، حتى استُدعي في الليلة التالية لوصوله إلى مستشفى الزهور، كما يروي في شهادته، من أجل إسعاف عائلة لاجئة من سكان مخيم البريج، استُهدفت بأكملها من قبل طائرات الاحتلال.
لم يكن الاستهداف عشوائيًا، كما تبين للفنجري لاحقًا، إذ اكتشف أنها عائلة أحد أكبر المتسللين المطاردين في القطاع آنذاك، جابر النبّاهين، أول متسلل تحوّل إلى العمل الفدائي، وأرق مستوطني مستوطنات غزة الجنوبية وقتها. لاحقًا، استهدفته قوات الاحتلال شخصيًا في أواخر ذلك العام، وقد خرجت في تشييعه، كما شاهد الفنجري، كل أهالي مدينة غزة ومخيماتها.
في شهادة الطبيب الفنجري، تفاصيل كثيرة عن أحوال قطاع غزة وأوضاعه خلال عقد الخمسينيات، غير أن أهم ما تضمنته شهادته، برأينا، هو ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في القطاع خلال حملة العدوان الثلاثي عام 1956، حيث احتل الجيش الإسرائيلي القطاع بالكامل ما بين 29 تشرين الأول/أكتوبر 1956 والسادس من آذار/مارس 1957، أي أن “إسرائيل” احتلت القطاع لأكثر من أربعة أشهر، حتى بعد انتهاء العدوان.
ويروي الفنجري، الذي عايش تلك الأيام في القطاع، عن أبشع الممارسات الصهيونية ضد سكانه، والتي طاولت البشر والحجر معًا، ومن بينها مجازر ارتكبها جيش الاحتلال، منها مذبحة “المورتر”، كما يسميها الفنجري، نسبةً إلى مدافع المورتر المصرية في القطاع، والتي سبقت العدوان الثلاثي، في شباط/فبراير 1955.
ووفق شهادته، فقد استُهدف موقعٌ في القطاع من قبل طائرات الاحتلال الإسرائيلي، راح ضحيته عددٍ من الأطفال الغزيين، الذين تحوّلت أجسادهم إلى أشلاء بفعل القصف، وبعد تجمع المسعفين والأهالي حول الضحايا في موقع القصف، سقطت قذيفة ثانية استهدفت المتجمعين، محوّلة الموقع إلى حمام دم، وفق ما عاينه الطبيب المصري بأمّ عينه.
تفيد شهادة الطبيب المصري في كشف قارئها، على جذور الوحشية الصهيونية ضد القطاع الصحي والمشافي في غزة، والذي يتبين أنها وحشية ممتدة تعود إلى أيام العدوان الثلاثي في الخمسينيات. بالتالي، فإن الممارسات العدوانية التي شهدناها ضد مستشفيات القطاع خلال حرب الإبادة في الأشهر الماضية ليست بجديدة.
يروي الفنجري كيفية اعتراض الاحتلال الإسرائيلي سيارات الإسعاف، وإنزال من فيها، وإعدامهم رميًا بالرصاص، حيث لم تفرق بين المسعفين والمصابين، كما يصف قصف طائرات الاحتلال للمستشفى “التبشيري” في غزة، في إشارة إلى المستشفى المعمداني، الذي شهد إحدى أكبر المجازر في الحرب الأخيرة.
فضلًا عن استهداف مستوصف العيون في تل الهوى في الأسابيع الأولى من العدوان الثلاثي عام 1956، إضافة إلى اقتحام المستشفيات وقتل المرضى على أسِرَّتهم، بعد أن أرسل الاحتلال جواسيس إلى المستشفيات التي نُقل إليها مصابو القطاع خلال الحرب، منتحلين صفة صحفيين.
وبحسب الفنجري، كان معظم هؤلاء الجواسيس من اليهود الصهاينة ذوي الأصول العربية، إذ كانوا يجيدون اللغة العربية بطلاقة، فضلًا عن ملامحهم الشرقية التي جعلتهم قادرين على الاندساس بين السكان.
كان أكبر استهداف نفذه جيش الاحتلال ضد مشافي القطاع في مستشفى خان يونس، حيث يروي صاحب الشهادة أن قوات الاحتلال اقتحمت المستشفى على أثر مقاومة سكان المدينة وصمودهم ورفضهم التسليم، بخلاف بقية مناطق القطاع خلال العدوان الثلاثي.
وكان ذلك في يوم 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1956، داهمت الصهاينة المستشفى وفتحوا النار على من فيه، ليتحول المستشفى إلى ساحة حرب مليئة بالجثث والضحايا التي ملئت عنابر أروقته، وكان أكثرهم من الجنود المصريين والفدائيين الفلسطينيين، كما استشهد جميع الأطباء والممرضات في المستشفى الذي لم يترك الصهاينة حيّاً فيه، إذ يذكر الفنجري زملائه الشهداء الأطباء المصريين الذين قضوا في مذبحة ذلك اليوم وبالاسم. لتظل شهادة أحمد الفنجري، الطبيب المصري، واحدة من أبرز التجارب الشاهدة على تاريخ مأساة الطب والأطباء في القطاع في حينه.
وكان ذلك في يوم 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1956، حيث داهمت قوات الاحتلال الصهيوني المستشفى، وفتحت النار على كل من فيه، ليتحول المستشفى إلى ساحة حرب مروعة، مليئة بالجثث والضحايا التي غطّت عنابر أروقته، وكان معظم الشهداء من الجنود المصريين والفدائيين الفلسطينيين، كما استشهد جميع الأطباء والممرضات في المستشفى، إذ لم يترك الصهاينة حيًّا فيه.
يذكر الفنجري في شهادته زملاءه الشهداء من الأطباء المصريين الذين قضوا في مذبحة ذلك اليوم، بأسمائهم، لتظل شهادة أحمد الفنجري، الطبيب المصري، واحدة من أبرز الوثائق الشاهدة على مأساة الطب والأطباء في القطاع في حينه.
“حمدي عبد الرحمن الحسيني: سيرة المناضل الوطني والأديب الصحافي”
رفض مبكر للانتداب البريطاني
نسبةً إلى الراحل حمدي عبد الرحمن الحسيني وسيرته في غزة، وهو من مواليدها في أواخر العهد العثماني سنة 1899. كتب حمدي الحسيني سيرته التي جاءت بقلم المؤرخ الغزي سليم المبيض في ثلاثة أجزاء، والصادرة في غزة مؤخرًا سنة 2019.
وبالرغم من نشر سيرة الحسيني حديثًا، إلا أنها تعتبر من أهم السير التي تغطي مراحل أبكر من تاريخ وذاكرة مدينة غزة، منذ مطلع القرن الماضي، قبل انكسار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ودخول المدينة عهد الانتداب البريطاني.
ينقلنا الحسيني في سيرته إلى ذاكرة غزة المكانية في مطلع القرن العشرين، حيث حي الدرج، حيث وُلد صاحب السيرة لأسرة معروفة في حضورها بمدينتي القدس وغزة الفلسطينيتين، إذ استقرت عائلة الحسيني في ذلك الحي، الذي كان يُطلق عليه بالعامية الغزية اسم “فوق المدينة”، نظرًا لارتفاعه فوق ربوة تُطل على باقي أحياء غزة.
تتضمن السيرة الملمات التي ألمت بمدينة غزة منذ مطلع القرن الماضي، منها جائحة “الهوا الأصفر” (الكوليرا)، الذي اجتاح غزة سنة 1902، والذي جاء على نصف سكان مدن وأرياف جنوب فلسطين، بحسب ما يروى.
ثم جاءت مرحلة “عيدان مشانق” العثمانيين، التي نصبوها في غير ساحة من ساحات مدن فلسطين أثناء الحرب العظمى (الحرب العالمية الأولى 1914-1918)، ففي غزة، أقام العثمانيون المشانق للمعارضين الغزيين عند مدخل المدينة الشرقي، أمام مدرسة الرشدية، بالقرب من الجامع العمري الكبير، على ما ظلّ يتذكره حمدي الحسيني.
وكانت تلك الفترة من أشد المحن التي ألمّت بعائلة صاحب السيرة، إذ أعدم العثمانيون خلال الحرب مفتي مدينة غزة أحمد عارف الحسيني، بعد اتهامه بدعم ثورة الشريف حسين، ومعه ابنه الضابط في الجيش العثماني مصطفى الحسيني، إذ سيق المفتي وابنه إلى مدينة القدس، وبعد تجريسهما على مرأى من أهالي غزة، أُعدم مصطفى الابن أولًا رميًا بالرصاص في القدس، بتهمة الخيانة العظمى، فيما أُعدم المفتي أحمد عارف الحسيني شنقًا عند باب الخليل.
بحسب الحسيني في سيرته، فإنه بعد استيلاء قوات الحلفاء على رفح في العاشر من كانون الثاني/يناير 1917، واستخدامهم أهالي رفح دروعًا بشرية أثناء تقدمهم شمالًا إلى دير البلح، حيث دارت هناك معارك طاحنة مع القوات العثمانية المدافعة عن غزة، كانت المدينة على موعد مع أكبر عملية تدمير وتجريف لعمرانها البشري والحجري، وذلك بعد سقوط دير البلح بأيدي الحلفاء في نيسان/أبريل 1917.
وكان الشيخ عثمان الطبّاع قد أشار في كتابه “إتحاف الأعزة في تاريخ غزة” إلى تلك المأساة، في سردٍ يتطابق مع ما يرويه الحسيني في سيرته، فقد حوّل القائد العثماني جمال باشا السفّاح غزة إلى قاعدة متقدمة للدفاع عن فلسطين، وأمر أهلها بإخلائها خلال الحرب.
ترك الحسيني مدينته غزة ورحل مع أهله إلى قرية بيت دراس، الواقعة شمال المدينة، وذلك إسوةً بكل سكان غزة الذين أُجبروا على مغادرتها، متفرقين في مدن وأرياف فلسطين، ومن الغزيين من هاجر وحطت عصا رحالهم في سوريا ولبنان كذلك.
“يوميات مجاهد: عبد الرحمن محمد الفرا (أبو أسعد)”
التاريخ اليومي لخان يونس
في أربعة أجزاء كبيرة، خطّ المناضل وابن مدينة خان يونس عبد الرحمن محمد الفرا يومياته، والتي حققها ونشرها المؤرخ الغزي سليم المبيض، تحت عنوان “يوميات مجاهد: عبد الرحمن محمد الفرا (أبو أسعد)”، والصادرة بطبعتها الأولى في غزة عام 2012. وقد تَسنّى لنا الحصول على ثلاثة أجزاء منها، دون الرابع، الذي لم يتوفر بالصيغة الإلكترونية.
تُعتبر يوميات الفرا، بما تتضمنه من تدوين يومي للأحداث، شهادةً مهمة على تاريخ مدينته، وفي الوقت نفسه إطلالة على تاريخ غزة المدينة ثم القطاع برمته، من نافذة بلدية خان يونس، حيث شغل الفرا منصب رئيس البلدية بين الأعوام 1936 – 1957، بينما امتدت يومياته حتى عام 1962، أي ما يقارب الثلاثة عقود، دَوَّن فيها الفرا أحداثها من موقعه في المنصب، وما بعده.
تحاول يومياته، التي جاءت دقيقة في تفاصيلها إلى حد إرهاق قارئها، رصد الإيقاع اليومي للحياة في خان يونس وغزة، والبلدات المحيطة بهما، بالإضافة إلى توثيق أبرز التحولات الإدارية والسياسية والاجتماعية والمعيشية التي طرأت على هذه الكتلة الجغرافية، التي غدت قطاعًا واحدًا بعد نكبة عام 1948.
لماذا حظيت خان يونس في يوميات الفرا بأهمية لم تحظَ بها في أي سيرة أو مذكرات، ولا حتى في كتب الأبحاث والدراسات الأخرى عنها؟ يكمن الجواب في أن يوميات عبد الرحمن الفرا لم تقتصر على الجوانب الإدارية والسياسية في تاريخ خان يونس، بل تجاوزتها إلى اليومي – الاجتماعي، حيث وثّق حياة المدينة من الداخل، بما في ذلك الفلكلور والعادات والتقاليد والأفراح والأتراح وروابط التكافل والتعاضد الاجتماعي، التي ميّزت أهالي خان يونس.
وفي السياق الاجتماعي نفسه، وبحكم موقعه كرئيس للبلدية، لم يتحوّط الفرا من الإشارة إلى مختلف المظاهر الاجتماعية التي عصفت بالمدينة، خاصة في المراحل الحساسة من تاريخها، مثل سنوات الثورة الكبرى (1936-1939) وما بعدها، وصولًا إلى نكبة عام 1948، حيث شهدت خان يونس نزاعات عائلية وقبلية كانت ثقيلة الوطأة على أهلها، كما يصفها في يومياته. ولم يكن الفرا مجرد شاهد على تلك الأحداث، بل كان فاعلًا فيها.
إضافةً إلى ما طاول عبد الرحمن الفرا نفسه خلال تلك الفترات، خصوصًا اعتقاله في سنوات الثورة الكبرى من قبل سلطات الانتداب البريطاني، وما مرت به خان يونس وغزة عمومًا من أحداث قبل اندلاع الثورة في العشرينيات، حين بدأ الوعي بالمشروع الصهيوني يتبلور، وتصاعدت الصدامات مع الصهيونية في فلسطين آنذاك.
تفيد يوميات الفرا الباحث المختص أكثر مما تروق للقارئ العادي، بحكم أنها سجل دقيق ليوميات تزخر بالتفاصيل الإدارية، المتعلقة بشؤون العمل الإداري والبلدي، غير أن هذه التفاصيل تتضمن معلومات تُضيء على جوانب قلّما تناولتها سير وكتب أخرى، لناحية الجغرافيا والعمران والتحولات التي طرأت عليهما، على مدار العقود الثلاثة التي تؤرخ لها اليوميات.
ومعطوفًا على كل ما سبق، تأتي السيرة النضالية – البطولية لأبناء خان يونس وغزة، قبل النكبة وبعدها، على مستوى القطاع عمومًا، وما رافقها من سياسات استعمارية، سواء ما تم تنفيذه أو إفشاله، بدءًا من مرحلة الانتداب البريطاني، وصولًا إلى ما بعد نكبة عام 1948 في ظل الحكم المصري للقطاع. وهكذا، تُعد يوميات الفرا بمثابة أكبر سجل مدوّن، يحفظ ذاكرة خان يونس وغزة خلال عقود أواسط القرن العشرين.
“من فيض الذاكرة: عبد الرحمن عوض الله”
غزة بحبر ودمع لاجئيها
ربما تكون مذكرات عبد الرحمن عوض الله بمثابة أول سيرة تُكتب من غزة بقلم أحد لاجئيها عام 1948، وقد جاءت في جزئين، بعنوان “من فيض الذاكرة: عبد الرحمن عوض الله”، وصدرت بطبعتها الأولى عن مركز فؤاد نصار في رام الله عام 2008.
يتضمن الجزء الأول من المذكرات رحلة في ذاكرة صاحبها، تعود به إلى مسقط رأسه، قرية أسدود الساحلية، قبل تهجيرها وتحويل أهلها إلى لاجئين في مخيمات القطاع، ففي أسدود، يستعيد عوض الله ملامح هامة من ذاكرة قريته وطفولته، حيث بيارات البرتقال، ومقام الشيخ المدبولي في إحداها، وكيف كان أبناء قريته يُجلّون المقام وشيخه، ويحرصون على طقوس زيارته الموسمية.
كما يصف عوض الله طبيعة معاش أهل أسدود، المرتبط بالأرض كفلاحين، والبحر كصيادين، حيث كان القمح والعنب يملآن سهلها الساحلي، فحتى بعد لجوئه إلى مخيمات القطاع، لم يسقط من ذاكرته طعم أسماك أسدود.
يروي عوض الله أحداث نكبة قريته اسدود، واحتلالها على يد العصابات الصهيونية بعد دحر القوات المصرية التي تمركزت فيها عام 1948. فكان الثالث والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 1948، يوم خروج القوات المصرية ودخول الصهاينة للقرية، بينما أهالي هذه الأخيرة نزحوا منها جنوباً، ومن سُدت بوجهه الطرق البرية، ركب لجة البحر على متن القوارب عبر الساحل إلى شاطئ غزة.
تتضمن مذكرات عبد الرحمن عوض الله سيرة مفصلة عن شكل الأيام الأولى للجوء في غزة، حيث الإقامة في مدارس ومرافق مدينة غزة العامة في الأيام الأولى أواخر عام 1948، ومن اللاجئين من أقام تحت شجر السدر والنخيل على ساحل غزة، ومنهم من اتخذ من عنابر معسكرات القوات البريطانية مأوى له ولعائلته، كما يروي عن حياة “المعسكر” في غزة، وهي التسمية الأولى للمخيم عند بداية تشكّله في المغازي والنصيرات والبريج.
إن أبرز ما تفيض به ذاكرة عبد الرحمن عوض الله عن تلك المرحلة هو ما يُعرف بـ “التسلل”، وهي ظاهرة تسلل النازحين – اللاجئين في غزة إلى قراهم المهجرين منها في شرقي وشمالي القطاع عبر السياج الذي زرعه الصهاينة، لمنعهم من الوصول إلى بيوتهم وأراضيهم.
كان عوض الله، الذي ما يزال في أول شبابه ولم يبلغ العشرين بعد، قد آثر التسلل إسوةً بكثيرين من لاجئي القطاع إلى قريته، عندما عزَّ القمح وارتفع ثمنه في الأشهر الأولى من اللجوء، خلال شتاء أواخر عام 1948 ومطلع عام 1949، في رحلة البحث عن القمح المخزون في متابن أسدود، أو المطمور في الأرض على عتبات البيوت في القرية، بما تحف الرحلة من مخاطر أودت بحياة بعض المتسللين الذين طاولهم رصاص صهاينة أبراج المراقبة.
إذ كاد الجوع الذي ضرب اللاجئين في معسكرات الخيام أن يقضي على آلاف اللاجئين، وقد قضى المئات منهم خلال شتاء ذلك العام، خاصة وأن غزة المدينة وأهلها الأصليين صار حالهم أقرب إلى حال اللاجئين، بعد أن فقدت أراضيها في ريفها، والتي كانت تشكل سلة غذائها ومصدر رزقها، إذ احتلها الصهاينة بلا رجعة.
فضلًا عن حالة الفوضى والفلتان التي اجتاحت غزة مع حركة نزوح اللاجئين إليها، مما تسبب بأعمال سلب ونهب وتفشي للجريمة، وأوبئة وأمراض ما انزل الله بها من سلطان، في وصف مفصل لحقيقة مأساة اللجوء في غزة المدينة ومعسكراتها معًا على أثر النكبة.