طفل يبلغ من العمر ست سنوات، لم يلق حتفه غرقًا في عرض البحر المتوسط، بل هَلك وهو على متن مروحية عسكرية كانت تقله نحو مدينة ألميريا بالجنوب الإسباني، ليعود إلى وطنه بإفريقيا جنوب الصحراء في كيس بلاستيكي أسود، شأنه شأن المهاجرين السريين الذين غرقوا في “بحر الأحلام” بعد أن خاضوا رحلات محفوفة بالمخاطر، انطلقت من سواحل المغرب على متن قوارب تقليدية الصنع، إذ يستغل تجار البشر حاجة هؤلاء الناس الحالمين بالوصول إلى إسبانيا بوابة أوروبا الجديدة، قبل أن يلفظوا أنفاسهم في عرض البحر الذي تحول إلى مقبرة جماعية لمئات المهاجرين الفارين من النزاعات والحروب والفقر المدقع، والآملين في الظفر بمستوى عيش أفضل يضمن لهم الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، لهذا السبب قرروا المقامرة بحياتهم.
ألم الفقر الشديد
الهجرة السرية من المغرب ليست وليدة اللحظة، أي دائمًا ما شكلت المملكة محور جذب المهاجرين الأفارقة الذين يأتون من نيجيريا وغانا والكاميرون وبوركينا فاسو وغيرها من بلدان غرب القارة، لبلوغ البلدان الأوروبية، حيث يقطعون الصحراء الكبرى مشيًا على الأقدام عبر مالي ثم الجزائر وصولاً إلى المغرب، حيث يتخذون منه محطة استراحة في الغابات الموحشة بشمال المغرب، إلى أن يقعوا ضحايا تجار البشر، وينضم إليهم مغاربة يئسوا من الحصول على عمل يضمن لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة، يركبون قوارب الموت في ليلة دامسة الظلام، وينطلقون نحو الفردوس المفقود، لتبدأ بعدها رحلتهم إلى أوروبا وخاصة إسبانيا التي لا تبعد عن المملكة إلا ما يقارب 15 كيلومترًا فقط بحرًا.
شكلت المملكة دائمًا النقطة الأساسية الجاذبة للمهاجرين الأفارقة للولوج إلى البلدان الأوروبية
الفقر المدقع هو السبب الأساس وراء إقدام المغاربة على الهجرة السرية، حيث بلغت نسبة الذين يعانون من الحرمان الشديد 45% من سكان المغرب، حسب تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، حذر من احتمالية ارتفاع نسبة الفقر والحرمان بالمغرب بنسبة 13%، ولا يعني الفقر المتعدد الأبعاد فقط نصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي، بل يهم أيضًا فقر التعليم والصحة وطبيعة العمل وانعدام الأمن والتهديد بالعنف والنزاعات، إذ يعاني 42% من فقر التعليم، و32 % يقاسون من ظروف العيش الأساسية، بينما بلغت نسبة فقر الصحة 13% من المغاربة، فيما رسم التقرير “صورة رهيبة” لفقر الأطفال في كل من بوركينا فاسو وتشاد وإثيوبيا والنيجر وجنوب السودان، حيث أحصى أن نحو 90% من الأطفال دون سن العاشرة يعانون من حياة يطبعها الفقر المتعدد الأبعاد.
تقليص تدفق المهاجرين
بفضل التعاون مع المغرب تمكنت إسبانيا من تقليص تدفق المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا إلى أراضيها خلال العام الحاليّ بنحو 55%، حيث كشفت أرقام صادرة عن وزارة الداخلية الإسبانية أن 19 ألف و604 من المهاجرين غير الشرعيين وصلوا إلى السواحل الإسبانية حتى يوم 14 من أكتوبر 2019 مقابل 43 ألف و467 مهاجرًا خلال نفس الفترة من عام 2018، فيما أوضحت المفوضية الأوروبية أن الجهود الاستباقية التي تبذلها السلطات المغربية لا تزال فعالة وضرورية من أجل تفسير هذا الانخفاض الكبير في عدد المهاجرين غير الشرعيين، وتشمل هذه الجهود التصدي لمحاولات الهجرة عن طريق البحر للآلاف المهاجرين غير الشرعيين فضلاً عن إنقاذ 10 آلاف و700 مهاجر سري.
عملية إنقاذ مهاجرين في الطريق الغربي للبحر الأبيض المتوسط
تمكنت وحدات خفر السواحل التابعة للبحرية المغربية من إنقاذ 329 مهاجرًا سريًا حاولوا عبور البحر للوصول إلى شواطئ إسبانيا، خلال الأسبوع الأول من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، وينحدر أغلب هؤلاء الأشخاص من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، كان بينهم 49 امرأةً والعديد من القُصر والأطفال، وعملت عناصر البحرية على نقلهم نحو موانئ البحر المتوسط بمدن طنجة والحسيمة والناظور والقصر الصغير، عقب تلقيهم الإسعافات الضرورية.
فارق الحياة طفل يبلغ من العمر ست سنوات قبل وصول المروحية التي كانت ستقله إلى القاعدة العسكرية الإسبانية لمدينة ألميريا الجنوبية، بعدما نجحت قوات خفر السواحل الإسبانية في إنقاذ 64 مهاجرًا سريًا، مطلع أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، ضمنهم نساء حوامل وأطفال، حيث كان هؤلاء الأشخاص على متن قارب انطلق من سواحل طنجة، وإلى ميناء مدينة مالقا نقلت السفينة “غودامار كوثيبثيون أرينال” هؤلاء المهاجرين.
نقص التمويل يُهدد عمليات الإنقاذ
مهام إنقاذ المهاجرين في البحر المتوسط تقوم بها كذلك منظمات إنسانية غير حكومية، معتمدة على التبرعات من أجل الاستمرار، لكن العديد من مهام الإنقاذ التي تؤديها هذه المنظمات تعجز في كثير من الأحيان عن جذب المتبرعين ولا تجد الدعاية والترويج الكافي للجهود التي تبذلها، ما يهدد بحصول عجز في تمويلها.
إلى دائرة الضوء في أوروبا عادت مهام الإنقاذ المنوطة بالمنظمات غير الحكومية، إثر قرار اتخذه قائد سفينة “سي ووتش 3” بالرسو في ميناء لاميدوزا الإيطالي في 29 من يونيو/حزيران من العام الحاليّ، رغم عدم حصول هذه السفينة على إذن بدخول الميناء والرسو فيه، وكان على متنها 42 مهاجرًا تقطعت بهم السبل في البحر لأكثر من أسبوعين، كانوا يعانون من الإرهاق الشديد وأصبحت حياتهم معرضة للخطر بعد الاكتئاب الذي كان مسيطرًا عليهم بشدة، وهو المبرر الذي سمح للسفينة بالتوجه إلى الميناء الإيطالي.
أين الإنسانية؟
معطيات المنظمة الدولية للهجرة تشير إلى أن 79 ألفًا و350 مهاجرًا غير نظامي دخلوا أوروبا عن طريق البحر الأبيض المتوسط إلى حدود أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، وهو ما يمثل انخفاضًا بـ13% تقريبًا مقارنة بـ91 ألف و94 مهاجرًا بلغوا أوروبا خلال نفس الفترة من العام الماضي، حيث بلغ تعداد المهاجرين المتدفقين على إسبانيا 19 ألف و637 شخصًا، فيما وصل إلى اليونان 43 ألفًا و20 مهاجرًا، وهو ما يمثل 80% من مجموع المهاجرين الذين استطاعوا عبور البحر المتوسط، مع وصول أعداد أقل إلى إيطاليا ومالطة وقبرص.
ذات المعطيات كشفت غرق 1077 فردًا خلال تسعة أشهر ونصف من العام الحاليّ، أي بانخفاض نسبته 55% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، حيث بلغ عدد الغرقى والمفقودين 1965 مهاجرًا، وهلك 68 شخصًا في الطريق البحري الشرقي الذي يصل إلى اليونان وقبرص، بينما يرتفع معدل الغرقى في الطريق الأوسط إلى 692 شخصًا كانوا يحلمون بالوصول إلى إيطاليا ومالطة، بالإضافة إلى 317 مهاجرًا لقوا حتفهم بينما كانوا يحاولون عبور الطريق الغربي للبحر الرابط بين المغرب وإسبانيا.
لا إنسانية في مشاهدة شباب ونساء وأطفال من بلدان الفقر والنزاعات وهم ينتحرون جماعيًا للوصول إلى أوروبا، ولا إنسانية في نجدة بعض الأحياء في عرض البحر وإطعامهم كسرة خبز في معسكرات الاعتقال في انتظار إعادتهم إلى بلدانهم ليفكروا مجددًا في خوض نفس المغامرة المحفوفة بالمخاطر، لا إنسانية في ذلك، بل في واقع الأمر ليست إلا شكل من أشكال الاتجار بالبشر والعبودية المعاصرة.