تواصل كرة النار المتدحرجة منذ اشتعال الاحتجاجات اللبنانية الخميس الماضي سيرها دون توقف، متجاوزة الدوافع الأساسية التي قادت لبدء الحراك الذي خرج اعتراضًا على فرض ضرائب جديدة على مواقع التواصل الاجتماعي، لتصل إلى التمسك بالمطالب الأكثر حضورًا على الساحة الآن: إسقاط النظام.
ورغم مساعي الاستمالة والاحتواء التي قادها ولا يزال رئيس الوزراء سعد الحريري الذي أمهل شركاءه في الحكومة “مهلة 72 ساعة لتقديم حل يرضي الشارع والمجتمع الدولي”، فإن الأوضاع تتسرب من بين يديه ساعة تلو الأخرى في ظل تمسك الغاضبين بالبقاء في الشارع حتى تحقيق مطالبهم جميعًا التي جاءت تحت عنوان “كلن يعني كلن”.
بالأمس وضع رئيس حزب “القوّات اللبنانيّة”، سمير جعجع، الحريري، في مأزق حقيقي، وذلك حين أعلن استقالة وزراء حزبه الأربع من الحكومة اللبنانية، لافتًا في كلمة متلفزة له أن الحكومة عاجزة عن اتخاذ الخطوات المطلوبة لإنقاذ الوضع المتفاقم، لذا قرر التكتل الطلب من وزرائه التقدم باستقالتهم من الحكومة وتأكيد ضرورة تشكيل حكومة جديدة.
جعجع أضاف “حزب القوات اللبنانية الحزب الوحيد المشارك في الحكومة الذي صوّت ضد مشروع موازنة 2019 لعدم تضمنها أو تلازمها مع الإصلاحات المطلوبة”، وتابع “بالتوازي مع مناقشة مشروع موازنة الـ2019، تم الاتفاق المبدئي على سلسلة إجراءات وإصلاحات لتتخذ ويبدأ تنفيذها قبل إقرار موازنة الـ2020، الأمر الذي لم يحصل أيضًا”.
هذه الحكومة عاجزة عن اتخاذ الخطوات المطلوبة لإنقاذ الوضع الإقتصادي المالي المعيشي المتفاقم. أضف إلى ذلك مجموعة الأزمات المعيشيّة التي شهدناها في الأيام والأسابيع الأخيرة. من هذا المنطلق قرر تكتل “الجمهوريّة القويّة” الطلب من وزرائه التقدم باستقالتهم من الحكومة 1/2
— SAMIR GEAGEA (@DRSAMIRGEAGEA) October 19, 2019
كما شدد على أن حزبه “حريص كل الحرص على الاستقرار”، موجّهًا التحية إلى الجيش اللبناني “للدور الحضاري والفعال الذي لعبه في الحفاظ على حرية التظاهر وأمن المتظاهرين من جهة، وعلى الأملاك العامة والخاصة من جهة أخرى”.
يذكر أن وزراء الحزب المستقيلين هم نائب رئيس الحكومة غسان حاصباني، ووزير العمل كميل أبو سليمان، ووزير الشؤون الاجتماعية ريشار قيومجيان، ووزيرة التنمية الإدارية مي شدياق.
تصريحات عون جاءت بعد ساعات قصيرة من إعلان الرئيس اللبناني ميشال عون، بأنه سيكون هناك “حل مطمئن” للأزمة في بلاده التي تدخل الاحتجاجات فيها يومها الرابع على التوالي، وإن لم يكشف بعد الرئيس موعد وتفاصيل هذا الطرح الذي تم تجاهله بصورة كبيرة من الشارع المشتعل.
يجب على الطبقة السياسيّة الحاليّة أن ترتاح قليلاً فهي تعبت كثيراً ويجب تشكيل حكومة من مجموعة من الإختصاصيين المشهود بكفاءتهم ولنتركهم يعملون من أجل إنقاذ البلاد وإن فشلوا يمكن للأكثريّة النيابيّة إسقاط هذه الحكومة في أي وقت.
— SAMIR GEAGEA (@DRSAMIRGEAGEA) October 18, 2019
استمالة الغاضبين
جهود حثيثة يبذلها مجلس الوزراء لاحتواء المشهد الملتهب، غير أنها حتى كتابة هذه السطور لم تخرج عن إطار التطمينات الكلامية وفقط دون اتخاذ أي إجراء من شأنه أن يضمد جراح المحتجين، فوفق مصادر رسمية من المقرر أن تعقد الحكومة اليوم اجتماعًا طارئًا لمناقشة كيفية الخروج من الأزمة.
وكان رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري قد أجرى السبت اتصالات مع عدد من الوزراء في إطار المشاورات التي يجريها مع مختلف القوى بشأن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وسبل معالجتها، بعد الكلمة التي وجهها الجمعة إلى اللبنانيين، على وقع استمرار الاحتجاجات.
وفي بيان صادر عن المكتب الإعلامي لرئيس الحكومة جاء فيه “في إطار الاتصالات والاجتماعات المكثفة التي يشهدها بيت الوسط للتشاور مع مختلف القوى بشأن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والسبل الممكنة لمعالجتها، بعد الكلمة التي وجهها رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري إلى اللبنانيين الجمعة، التقى الرئيس الحريري على التوالي كلاً من وزير الصناعة وائل أبو فاعور ووزير الأشغال العامة والنقل يوسف فنيانوس ووزير المال علي حسن خليل”.
اكتفى الرئيس ميشيل عون بتعليق مقتضب، هو الأول له على الأحداث، بعد 3 أيام من اشتعال الاحتجاجات، قال فيه: “سيكون هناك حل مطمئن للأزمة”
وفي هذا الإطار التقى الحريري، النائب نقولا صحناوي يرافقه الخبير الاقتصادي شربل قرداحي في حضور الوزير السابق غطاس خوري، فيما كتب وزير المال اللبناني علي خليل، على حسابه بـ”تويتر”، السبت، أنه تم الاتفاق خلال لقاء مع رئيس الحكومة، على إنجاز موازنة عام 2020 من دون فرض أي ضريبة أو رسم جديد.
وأضاف أن اللقاء تضمن “التأكيد على إنجاز الموازنة دون أي ضريبة أو رسم جديد، وإلغاء كل المشاريع المقدمة بهذا الخصوص من أي طرف، وإقرار خطوات إصلاحية جدية مع مساهمة من القطاع المصرفي وغيره، بما لا يطال الناس بأي شكل ولا يحملهم أي ضريبة مهما كانت صغيرة”.
أما الرئيس ميشيل عون فاكتفى بتعليق مقتضب، هو الأول له على الأحداث، بعد 3 أيام من اشتعال الاحتجاجات، قال فيه: “سيكون هناك حل مطمئن للأزمة”، وفق ما نقلت الوكالة الوطنية للإعلام، دون تقديم أي تفاصيل بشأن هذا الحل ولا كيفية تطبيقه ومدى رضا المحتجين عنه.
كلن يعني كلن
اعتبر المتظاهرون استقالة 4 وزراء من الحكومة خطوة أولى نحو الانتصار وتحقيق المطالب المرفوعة، حيث احتفلوا وسط الساحات في وسط بيروت وفي مناطق عدة في جبل لبنان وجنوبه وشماله وشرقه، بهذا الخبر الذي أعلنه جعجع، فيما طالب آخرون بالبقاء في الميادين حتى الإعلان رسميًا عن تنحي الحكومة بأكملها.
وتتواصل التظاهرات والاحتجاجات التي أخذت طابعًا احتفاليًا ليومها الرابع على التوالي في العاصمة وبعض المدن الشمالية والجنوبية، فضلاً عن لجوء البعض إلى قطع بعض الطرقات الرئيسية احتجاجًا على سوء الأوضاع الاقتصادية، وغصت مدن صيدا وصور جنوب لبنان وبعلبك شرق لبنان بآلاف المتظاهرين المطالبين بإسقاط النظام، وأكد العديد منهم الإصرار على “البقاء في الشارع حتى استقالة الحكومة وسقوط النظام”.
وفي المقابل نشبت بعض المناوشات الخفيفة بين رجال الأمن والمتظاهرين نجم عنها عدد من الإصابات والجرحى، فيما تم اعتقال العشرات منهم، غير أنه ووفق شهود عيان أُفرج عن بعض الموقوفين منذ اندلاع التظاهرات الخميس الماضي، وهو ما أكدته وزيرة الداخلية اللبنانية ريا الحسن.
خلال الساعات القليلة القادمة من المتوقع أن يشهد الشارع اللبناني المزيد من المفاجآت تتعلق برد فعل النظام حال استمر الحراك على ذات الوتيرة
الحسن في تغريدة عبر موقع “تويتر” أشارت أنها “اتصلت بالمدعي العام لدى محكمة التمييز الذي أبلغها أن معظم الذين تم احتجازهم سيتم إخلاء سبيلهم بسند إقامة، وذلك لاستكمال التحقيقات لاحقًا للتثبت من مدى توافر الأدلة المادية بشأن إقدامهم عمدًا على ارتكاب أعمال شغب وسرقة محال وحرق الممتلكات العامة والخاصة”.
وقد حمل المتظاهرون الأعلام اللبنانية وجابوا شوارع وميادين البلاد مرددين الأغاني الوطنية والأناشيد الحماسية، مطالبين بإسقاط السلطة بكل رموزها، كما وجهوا الانتقادات لكل المسؤولين في الدولة: رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب وطالبوا باستقالتهم جميعًا ورددوا عبارة “كلن يعني كلن”.
From Sydney, Australia. Let the world see that we stand in solidarity with Lebanon. #لبنان_ينتفض #كلن_يعني_كلن pic.twitter.com/APiB5Kqrhd
— Noura Saba (@NouraSaba) October 20, 2019
انتفاضة استثنائية
تحت عنوان” انتفاضة شعبية في لبنان تواجه نظامًا يستحيل إصلاحه” استعرض الكاتب الصحفي اللبناني زياد ماجد في مقاله المنشور بصحيفة “القدس العربي” أبرز ما يميز الاحتجاجات هذه المرة، وكيف أنها تختلف من حيث الشكل والمضمون عما كانت عليه في المرات السابقة.
الملاحظة الأولى التي أوردها الصحفي اللبناني ترتبط بأعمار أكثرية المتظاهرين ودلالاتها، فرغم وجود أفراد من أجيال مختلفة، طغت على المشهد حتى الآن شبابيّته، أي انتماء معظم من فيه إلى جيل لم يتكوّن تسييسه أو تماسه مع الشأن العام في مرحلة انقسامات العام 2005، وهو بهذا المعنى – وفق ما ذهب الكاتب – جيل ما بعد 8 و14 آذار، وما جسدته ثنائيتها من قسمة طائفية من جهة، وتموضعات إقليمية وخلافات حادة عن العلاقة بالنظام السوري من جهة ثانية.
مشهدية التظاهر والتجمّعات والأغاني وحركة الأجساد، تتشابه بصورة كبيرة مع مظاهرات الثورات والانتفاضات العربية في موجتيها الأولى والثانية
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بمستويين للحراك تميز بهما، مستوى يحمل إرادة تغيير للنظام السياسي بوصفه نظام تقاسم حصص ترعاه الطائفية وشبكاتها الزبائنية وتحول من خلاله من دون أي إصلاح جدي، وهذا يعني إسقاطًا لرموزه (رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان) ولمكّوناته الحزبية بتلاوينها المختلفة، التي لم يسلم منها حزب الله هذه المرة.
The Melting Pot ??#لبنان_يثور #لبنان__ينتفض pic.twitter.com/W0HzofsnQ4
— Rani Haddad © (@4484) October 20, 2019
أما المستوى الثاني، اجتماعي أو طبقي، تُظهره الكثير من الصور والشعارات والشهادات، ويمثّله فقراء وذوو دخل محدود ينخرطون في التحرّكات بسبب تراكم الأزمات الاقتصادية والمالية في السنوات الأخيرة، هذا بخلاف أن خريطة التظاهرات تظهر انتشارًا للتجمعات والمسيرات غير مسبوق في لبنان منذ سنوات طويلة، وهذا يعني لا مركزية للحراك ويُنتج شعارات له متنوّعة، وباستهدافات سياسية تخصّ “زعماء” طائفيين – سياسيين في كل ناحية أكثر من غيرهم.
علاوة على ذلك فإن مشهدية التظاهر والتجمّعات والأغاني وحركة الأجساد، تتشابه بصورة كبيرة مع مظاهرات الثورات والانتفاضات العربية في موجتيها الأولى والثانية (في سوريا ومصر وتونس ثم في الجزائر والسودان والعراق)، مع إضافتين ترتبطان بحجم الحضور النسائي الاستثنائي في لبنان وبانعدام السرية أو الخوف من القمع (على الأقل في اليومين الأوّلين) والاحتفالية والفخر اللذين يرافقان ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي (وشهدنا في الجزائر ما يشبه هذا، رغم التصاعد التدريجي للتضييق على المتظاهرين هناك في الآونة الأخيرة).
فيما يأتي التشابه بين رد فعل النظام في لبنان والأنظمة الحاكمة الأخرى في بلدان الربيع العربي على مثل هذه الاحتجاجات، كملاحظة خامسة وأخيرة وفق الكاتب اللبناني، حيث سفاهة التصريحات والمكابرة ونفي المسؤوليات وتقاذفها بدايةً (عون/ باسيل والحريري)، ثم الانتقال إلى العنف والتخويف من الفوضى واستقدام “شبيحة” أو “بلطجية” أو ميليشيات لفض التجمعات بالقوة.
هذا الخلاف أو الاختلاف ربما يمكن أن يكون نواة حقيقية لبناء جدار قوي في مواجهة صلف النظام وعنجهيته، هذا في الوقت الذي يبدو فيه تغيير النظام صعبًا للغاية، أما إصلاحه فيبدو مستحيلاً، في ظل قدرته – رغم جموده – على التكيّف مع الضغوط ثم استغلال الطائفية و”حقوق الطوائف” لتطويل عمره والاستحواذ على مشروعية شعبية يقتطعها من أجسام الطوائف هذه على اختلافها وتناقض نزعاتها وتحالفاتها في أحيان كثيرة.
وعلى الأرجح فإنه خلال الساعات القليلة القادمة من المتوقع أن يشهد الشارع اللبناني المزيد من المفاجآت تتعلق برد فعل النظام حال استمر الحراك على ذات الوتيرة، وبصرف النظر عما يمكن أن يؤل إليه المشهد فإن ما حدث حتى الآن انتفاضة استثنائية في تاريخ لبنان الحديث لا بد أن آثارها ستفرض نفسها إن لم يكن في الوقت الراهن فعلى المستوى البعيد بلا شك.