ساحرة هي حكاية الأدب الهندي، فمنذ نحو 3000 عام شهدت شبه القارة القابعة في آسيا عدة أشكال من الحركات الأدبية مُزجت جميعًا بالغرائبية والدهشة والجمال والسحر الذي يليق بالهند وثرائها الثقافي، وقد نُسج الأدب الهندي مثل أي أدب آخر من حكايات الفرد اليومية وعلاقته بالمجتمع، تلك العلاقة التي نتج عنها وجود أصوات مروية بالعنف وغارقة في الظلام تتأرجح تلك الأصوات بين الجفاف والفكاهة.
وعلى عكس السينما الهندية التي لم تكشف إلا سطح المجتمع، تغلغل الأدب إلى عمق ذلك المجتمع الهندي ليعكس تنوعه الشديد وصراعته السياسية، ورواية “الشيف” للكاتب الهندي جاسبريت سنغ تتكئ على تناول الصراع الهندي الباكستاني على إقليم كشمير وتحكي عن الآمال المحطمة والخيبات في تجربة إنسانية فريدة بأسلوب يزخر بالتفاصيل والأحداث يطلعنا على جانب من ثقافة الهند المفعمة بألوان قاتمة من التحديات السياسية والاقتصادية والدينية.
الصراع الهندي الباكستاني على إقليم كشمير
يعد صراع الهند وباكستان على أقليم كشمير من أطول النزاعات الدولية، فعلى مدى أكثر من نصف قرن لا تزال قضية إقليم كشمير بؤرة للتوتر الإقليمي في القارة الآسيوية، وقد ازدادت خطورة تلك القضية بعد امتلاك كل من الهند وباكستان للسلاح النووي في منطقة تضم تكتلًا بشريًا يتجاوز تعداده خمس سكان العالم.
نشبت ثلاثة حروب بين الهند وباكستان، الهند تريد الإقليم لأسباب إستراتيجية متعلقة بموازنة القوى بينها وبين الصين، وباكستان تريد كشمير لأن أنهارها الثلاث تنبع منه
بدأت قصة الصراع عام 1947 حين أصدر البرلمان البريطاني قانون استقلال الهند الذي أنهى الاحتلال البريطاني لها وقسم كل من الهند وباكستان حسب الديانة، وبموجب قرار التقسيم المنصوص عليه في قانون الاستقلال الهندي كان لكشمير حرية الاختيار في الانضمام إلى الهند أو باكستان، فاختار حاكمها هاري سينغ، الهند، متجاهلًا القواعد البريطانية في التقسيم، فنشبت المصادمات بينه وبين شعب الإقليم ذي الأغلبية المسلمة، ومنذ ذلك الحين نشبت ثلاثة حروب بين الهند وباكستان، الهند تريد الإقليم لأسباب إستراتيجية متعلقة بموازنة القوى بينها وبين الصين، وباكستان تريد كشمير لأن أنهارها الثلاث تنبع منه.
قصة الرواية: البُعد الإنساني للصراع الهندي الباكستاني
“لا توجد مأساة أكبر من أرضٍ تطرد أهلها وتجعلهم ينتقلون من مكان إلى مكان تاركة إياهم محطمين وفي داخلهم شوق للعودة إلى بيوتهم”.
“الهند تبدو جميلة في أثناء المطر، لأنه يخفي كآبة هذه البلد وقبحها” بهذه الكلمات يحدث البطل سينغ كيربال نفسه في مونولج داخلي مؤثر ليسرد علينا محطات من تاريخ حياته المليء بالآمال والخيبات والتحولات المهمة.
يركب كيربال الفتى السيخي القطار من دلهي إلى كشمير التي تركها منذ 14 عامًا حيث كان المسؤول عن المطبخ العسكري في كاشمير وذلك قبل أن يستقيل ويعود إلى دلهي تاركًا الخدمة العسكرية، وطوال أحداث الرواية يتذكر كيربال ما حدث معه منذ التعيين وحتى الاستقالة، فمنذ 14 عامًا وصل كيربال للمرة الأولى إلى معسكر كاشمير التي كانت ساحة حرب بقيادة الجنرال كومار وهناك تدرب كيربال على يد معلمه الصارم الشيف كيشين الذي علمه الجوانب المبهرة في الطعام، وفي تلك البقعة المليئة بالتناقضات والعنف والفوضى ودرجات الحرارة التي تصل لحد التجمد تعلم كيربال إعداد أشهى الأطباق العالمية، وبداخل المطبخ يعرف كيربال أن كيشين يفخر بحدث واحد فقط في حياته وهو أنه رفض تقديم الشاي لأحد المسلمين، وهنا يتأكد كيربال أن المسلمين أعداؤه الحقيقون وأنه موجود هنا على الجبهة لقتالهم حتى لو كانت مهمته الصغيرة تتمثل في إعداد الطعام للمقاتلين على الجبهة.
الموت من أجل لا شيء!
تنقلب الأحداث فيما بعد رأسًا على عقب، فمن جانب تلقي القوات الهندية القبض على فتاة باكستانية ذات شعر طويل وبمحض الصدفة يتعرف عليها كيربال عن قرب ليدرك أنها مجرد فتاة عادية وأن المسلمين ليسوا أعداءه، فهذه المرأة غاية في الطيبة ومسالمة جدًا، ففي أحد الأيام يعد كيربال الطعام لآرم ولكنه يسقط على ملابسها ليأخد الشيف ساري آرم من أجل أن يغسله لها وبمجرد العودة لبيته ينظر إلى الألوان الزاهية على ملابس آرم، إنها جميلة وتشبه ملابسهم، لماذا نعادي الباكستانيين؟ يقع كيربال في حب آرم المسلمة الباكستانية لكنها تتعرض للاغتصاب على يد الضباط الهنود فيقرر كيربال التقدم باستقالته تاركًا كشمير بأكلمها.
حين عُرفت حكاية التوابيت كان من المفترض أن يذهب الضباط المتورطون إلى المحكمة ولكن عوضًا عن ذلك لم يحاسبوا بل حصوا على تقاعد مبكر مع كامل مستحقاتهم وبعد الخروج من الخدمة العسكرية عملوا في إدارة الفنادق واتجهوا لسوق الأعمال
وعلى الجانب الآخر يذهب الشيف كيشين إلى المثلجة أعلى الجبل وهناك يحضر أحداث الحرب عن كثب ويدرك بعد مرور الوقت أن أحد الضباط الهنود متورط في استيراد كمية كبيرة من التوابيب، يشتري الواحد منها بـ200 دولار ويسجل لدى الدولة أن ثمنها 1800 دولار، وحين يقابل الشيف كيشان كيربال يخبره أن الضباط الهنود من مصلحتهم موت الكثير من الهنود ليستمروا في استيراد التوابيت، وعليه يموت الجنود في المثلجة وعلى خط النار من أجل لا شيء.
وحتى حين عُرفت حكاية التوابيت كان من المفترض أن يذهب الضباط المتورطون إلى المحكمة ولكن عوضًا عن ذلك لم يحاسبوا بل حصوا على تقاعد مبكر مع كامل مستحقاتهم وبعد الخروج من الخدمة العسكرية عملوا في إدارة الفنادق واتجهوا لسوق الأعمال، وحين اطلع الشيف كيشان على الحكاية بأكملها قرر الانتحار، تذكر كيربال قصة كيشان في القطار وقال إنه كان الأكثر جدية وإخلاصًا لبلاده لكنه مات، لقد ولدته الهند من خلال البؤس والآلام ثم رمته بعيدًا، لم يقتل كيشان نفسه بل بلده هي التي فعلت.
في النهاية يعود كيربال إلى كشمير بعد 14 عامًا ليحضر حفل زفاف روبيا ابنة الجنرال كومار التي قررت الزواج من مسلم باكستاني ليقينها العميق بأن الخلاف بين البلدين سياسيًا وليس ثقافيًا وفي أثناء تحضير مأدبة الزفاف يفكر كيربال في حلمه القديم الذي ألهمته إياه آرم بأن يعد الطعام يومًا ما للمسلمين والهندوس معًا ولكن هذا الحلم لن يتحقق لأن الجنرال كومار قرر الانتحار يوم زفاف ابنته، فلم يكن راضيًا من البداية بأن يضع يده بيد باكستاني، وبذلك تنتهي الرواية لتؤكد أن الصراع لن ينتهي.
“لقد أعطى الجنرال شبابه من أجل شعبنا، من أجل أن يُبعد الباكستانيين عنا، قاتل في حربين، والآن تريد ابنته الزواج بأحدهم، هل قدم العديد من الجنود حياتهم من أجل لا شيء؟ إذًا لماذا خاض كل تلك الحروب؟”
سيمفونية بيتهوفن التاسعة: لماذا حضرت بقوة في الرواية؟
حين جاء كيربال من دلهي إلى كاشمير، كان يمكث بنفس الغرفة مع معلمه كيشان الذي اعتاد طوال الوقت الاستماع إلى سيمفونية بيتهوفن التاسعة: كان يسمعها وهو يعد الطعام وكان يترنم بألحانها وهو وحيد وحتى حين ذهب إلى المثلجة على الحدود صاحبه بيتهوفن في رحلته الصعبة وأخيرًا حين قرر الانتحار مشعلًا في نفسه النار كان يستمع إلى السيمفونية التاسعة، فلماذا حضر بيتهوفن بكل تلك القوة في العمل وطغى بدوره على أحداث الرواية؟
السيمفونية التاسعة أو السيمفونية الكورالية هي آخر مقطوعة موسيقية كاملة للمؤلف الموسيقار لودفيج فان بيتهوفن وتعد واحدة من أشهر الأعمال على مستوى العالم، وقد حاول بيتهوفن في هذه المقطوعة تأسيس جمهورية موسيقية تقوم على مبادئ الإخاء والمساواة مستعيدًا بذلك فردوس الثورة الفرنسية المفقود التي آمن بها دومًا، ولهذا اختار بيتهوفن أنشودة من أناشيد الثورة الفرنسية من أجل تقديمها في عمل موسيقي ملحمي شامل، لأنه يستهدف خطابًا فنيًا يتحدث بلسان الإنسانية كلها متجاوزًا اللاهوت المسيحي ولهذا يستخدم نشيد شيللر لفظ “إخوة” مرارًا وتكرارًا في مواضع أكسبها التلحين مركزية مهمة، ولكن في الوقت نفسه بيتهوفن هو سيد من سادة الفقد، فما أكثر ما فقده وما أغلاه، وعظيمة هي محاولاته التغلب على هذا الفقد، إذ لم يفقد بيتهوفن سمعه فقط ولكنه فقد أيضًا جمهوريته التي طالما حلم بها، وربما يتشابه ذلك مع أحلام وآمال كيشان وكيربال التي فقدوها، كيشان الذي كان يحلم بوطن يجعله فخورًا وكيربال الذي حلم بإعداد الطعام للمسلمين والهندوس معًا في كشمير.