“تكتل سياسي جديد يهدف إلى وقف التدهور المستمر في مختلف جوانب الحياة اليمنية بسبب الدور الذي يقوم به التحالف السعودي الإماراتي وأدواته المحلية في جنوب اليمن”، بهذه الكلمات أعُلن تأسيس ما يسمى “مجلس الإنقاذ الوطني الجنوبي”، في تطور من شأنه رسم مشهد سياسي يمني جديد تبدو فيه ملامح الرقعة الجغرافية الجنوبية منقسمة بين مجلسين جنوبيين، وفي شمالهما يقبع الحوثيون.
لكن هذا الهدف المعلن يظل تحقيقه مسار تساؤل في ظل التعقيد المستمر الذي يعرفه الوضع في اليمن عمومًا وفي جنوبه على وجه الخصوص، وهو ما يثير التساؤلات عما يعنيه إنشاء هذا الكيان الجديد في جنوب اليمن، ومدى واقعية الأهداف التي وضعها مؤسسوه، والتأثيرات المحتملة لإنشائه في ظل التعقيدات المستمرة في المشهد اليمني.
مجلس جديد في جنوب اليمن
هذا ما أعلنته مكونات سياسية وقبلية وشخصيات اجتماعية مرموقة وقيادات يمنية جنوبية خلال مؤتمر صحفي، عُقد يوم السبت، في مدينة الغيضة عاصمة محافظة المهرة، جنوب شرق اليمن، وبحضور ومشاركة أحزاب سياسية رئيسية شكلت بعد شهور من المشاورات كيانًا سياسيًا أسمته “مجلس الإنقاذ الوطني الجنوبي”.
المجلس الجديد أقر التمثيل المتساوي لكل المحافظات الجنوبية، وأعطى وضعًا خاصًا لمحافظة سقطرى، مع تدوير الرئاسة على أساس المحافظات وليس المكونات المؤيدة والمشاركة في المجلس، ومنها “لجنة اعتصام أبناء المهرة السلمي”، وتنسيقية أبناء عدن، والمجلس الأهلي لأبناء شبوة، والتحالف القبلي لأبناء أبين، إضافة إلى عدد من الأحزاب السياسية، على رأسها حزب المؤتمر والبعث العربي الاشتراكي والناصري الوحدوي والرشاد.
المجلس أعلن انتخاب عضو مجلس الشورى اليمني ومدير أمن محافظة المهرة السابق اللواء أحمد محمد قحطان، رئيسًا له، وعيّن وكيل محافظة المهرة السابق الشيخ علي سالم الحريزي مرجعيةً إشرافيةً عليا للمجلس
أمّا حزب الإصلاح اليمني، فقد أعلن أنه لن يحيد عن الإجماع المهري، وقال على لسان رئيس دائرة الإعلام بالتجمع اليمني للإصلاح بمحافظة المهرة، محمد سعيد كلشات: “الحزب يدعم العمل السياسي المنضبط، وفي ذات الوقت يرفض رفضًا شديدًا أي محاولات لجر المحافظة إلى آتون الصراعات التي تشهدها بعض المحافظات”.
المجلس أعلن انتخاب عضو مجلس الشورى اليمني ومدير أمن محافظة المهرة السابق اللواء أحمد محمد قحطان، رئيسًا له، وعيّن وكيل محافظة المهرة السابق الشيخ علي سالم الحريزي مرجعيةً إشرافيةً عليا للمجلس، بالإضافة إلى أسماء قيادات جنوبية معروفة بمواقفها المعارضة للإمارات والسعودية والمجلس الانتقالي الجنوبي، منها رئيس مكتب الحراك الثوري فادي حسن باعوم، والشيخ عيسى سالم ياقوت السقطري.
فيما تم تعيين آزال عمر الجاوي أمينًا عامًا، وعوض محمد بن فريد رئيسًا لدائرة الأمن والدفاع، وأحمد الحسن ناطقًا رسميًا للمجلس، فيما أرجأ المجلس تعيين رؤساء الدوائر الأخرى لحين عقد المؤتمر التأسيسي للمجلس.
ويعد الحريزي أحد أبرز الشخصيات الاجتماعية في محافظة المهرة، ويحظى بتأييد قِبلي وشعبي واسع في المحافظة، لقيادته الاحتجاجات التي تطالب بوضع حد للسلوك السعودي في محافظة المهرة، ما أدَّى إلى إقالته من منصبه، قبل أكثر من عام، بإيعاز من السعودية التي صعَّدت في وجه مَنْ وقفوا بطريقها منذ وصولها المهرة.
ولم يكن إعلان اسم الكيان الجديد وليد اللحظة، ففي سبتمبر/أيلول الماضي، كشف علي الحريزي قرب تشكيل ما سماه مجلس الإنقاذ الوطني الجنوبي، مؤكدًا أنه سيمثل جميع الفصائل والمكونات في المحافظات الجنوبية، وأن إطلاقه رسميًا سيكون من محافظة المهرة.
المجلس الذي كان حينها تحت التأسيس التقت قياداته بهذه الصفة مبعوث الرئيس الروسي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا ونائب وزير الخارجية ميخاييل بوغدانوف في عُمان، وفق الحريزي، الذي نقل عن المسؤول الروسي تأكيده أن موسكو لن تقف مع طرف جنوبي دون آخر، وأنها تريد التقاء الجنوبيين على قواسم مشتركة.
لقاء آخر جمع وفدًا من المجلس أيضًا بالسفير الصيني لدى اليمن كانغ يونغ، وأعقبه لقاء آخر بالسفير البريطاني باليمن مايكل آرن، في 29 من أغسطس/آب، فيما بدا حراكًا دبلوماسيًا يمهد لإطلاق مجلس الإنقاذ في هذا الظرف اليمني الدقيق، ويعكس قيمة القيادات التي تصدت لتأسيسه.
قبل هذه اللقاءات بأيام قليلة، أصدر رئيس ما يسمى المجلس الأعلى للحراك السلمي، حسن أحمد باعوم، بيانًا مطولاً بشَّر فيه بميلاد ما سماه مجلس الإنقاذ الجنوبي بوصفه جبهة عريضة لأبناء الجنوب، تنهي ما سماه “الاحتلال المتعدد”، وتعيد مصير الجنوب اليمني إلى سلطة شعبه حسب قوله.
ولتحقيق ذلك، رسم البيان ملامح خريطة طريق ترتكز على 3 مبادئ، تبدأ بالشراكة بين كل مكونات الشعب مع تحريم أي إقصاء والتأكيد على التصالح والتسامح، ثم رفض أي تدخل خارجي مهما كان، وأخيرًا إعادة السلطة للشعب من خلال ممثلين منتخبين ومن خلال الاستفتاء.
ما وراء المجلس المناهض للتحالف
يمكن النظر إلى إعلان “مجلس الإنقاذ” من المهرة على أنه دلالة قوية على الدوافع التي أدَّت إلى تشكل هذا المجلس من المحافظة الواقعة في شرق اليمن، التي شهدت طوال العامين الماضيين حراكًا شعبيًا واسعًا ومناهضًا لسياسة المملكة القائمة على السيطرة على المحافظة والتسويق الوهمي للمشاريع وأعمال الإغاثة تحت غطاء إعادة الإعمار.
وتتمثل دوافع تشكيل المجلس الجديد أيضًا في “إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البلاد بعد أن أصبحت مستباحة” وفق الإعلان، واُنتهكت سيادتها، ومُزق نسيجها الاجتماعي، وذلك بحسب البيان التأسيسي والموقِّعين عليه “عائدٌ إلى ما فعله تحالف الرياض – أبوظبي”.
وبحسب البيان، فإن “الظروف الاستثنائية التي يمرّ بها الوطن والتدهور الحاصل في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية دفعت بثلة من القوى والشخصيات الوطنية إلى التداعي والتشاور خلال الأشهر الماضية لإيجاد صيغة وطنية خالصة لإنقاذ الوطن مما وصل إليه”.
يبدو أن مسار تأسيس مجلس الإنقاذ الوطني يستهدف بوضوح كسر دائرة احتكار الحديث باسم الجنوب اليمني التي صنعها المجلس الانتقالي وداعمته الإمارات
وتضمن بيان الإشهار المسمى “إعلان المهرة التاريخي”، أهداف ومبادئ قال المجلس إنه سيعمل على تحقيقها، ومنها وقف الحرب والتدخلات الخارجية في الشأن اليمني وإخراج اليمن من حالة الانقسام والتشظي والتردي في مختلف المجالات والمستويات والحفاظ على وحدة الصف الجنوبي بعيدًا عن الشمولية وفكرة الحزب الواحد، من خلال الدعوة للحوار والشراكة بين كل الأطراف السياسية والاجتماعية الفاعلة.
وتدل الأهداف التي تبنّاها المكوّن الجديد في مجملها على رفض ما سماه “الوجود العسكري الأجنبي في اليمن”، فرغم تأكيد رئيس المجلس اللواء أحمد محمد قحطان أنه يقف على مسافة واحدة من جميع أطراف الصراع، أعلن رفضه للوجود العسكري الأجنبي في اليمن والتدخل في الشؤون الداخلية، مشيرًا إلى التصدي لأي محاولة اقتطاع لأي جزء من أراضي البلاد وجزرها وبحارها وحقوقها التاريخية.
تبدو الإشارات هنا بالغة الوضوح، وبعضها يتعلق بالتحالف السعودي الإماراتي، والبعض الآخر يتعلق بالمجلس الانتقالي الجنوبي الذي يرى الموقِّعون على بيان مجلس الإنقاذ أنه “أداة لتنفيذ ما يسعى إليه التحالف السعودي الإماراتي”.
وما يجدر ذكره أن قوسًا واسعًا من الفعاليات الجنوبية شارك في التأسيس من المهرة وأبين وعدن وشبوة، وجميعها محافظات كان مسلحو المجلس الانتقالي الجنوبي يجتاحونها منذ أسابيع قليلة مضت، وهو ما رفضه رئيس البلاد عبد ربه منصور هادي، واعتبره “خيانة جهيرة” لهدف التحالف الأساسي، الذي ينص على إعادة الشرعية لا الانقلاب عليها.
يبدو أن مسار تأسيس مجلس الإنقاذ الوطني يستهدف بوضوح كسر دائرة احتكار الحديث باسم الجنوب اليمني التي صنعها المجلس الانتقالي وداعمته الإمارات، وهو الاحتكار الذي كان برأي جنوبيين أكثر عبئًا على قضيتهم وخصمًا من رصيدها.
غير أن مجلس الإنقاذ الجنوبي خلا تمامًا من أي تمثيل لهذه الشرعية، التي يرى البعض أنها رهينة مقر إقامتها، وأنها قد تُرفض، لكن سقف رفضها يظل منخفضًا لأسباب لها علاقة بالارتباط والإقامة في الرياض.
لهذا يرى البعض أن هذا المجلس يمثل رغبة أشخاص تدعم تحركاتهم سلطنة عُمان التي فقدت حيادها بسبب المهرة الواقعة على الحدود مععها، التي تشكل أهمية كبيرة جدًا للسلطنة، وتشاركها في ذلك أيضًا روسيا، ويرى هؤلاء أنها لن تأتي بجديد إلا تفريخ لمكونات جديدة، فيما يقول آخرون إنها ستسهم في الضغط لإنهاء الحرب باليمن وإعادة الحياة إلى البلاد.
مجلس في مواجهة آخر.. ما مصير اليمن؟
بعد انقلاب عدن وما تلاه من تداعيات ارتفعت أصوات جنوبية كثيرة تندد باختطاف المجلس الانتقالي المدعوم إماراتيًا لتمثيل الجنوبيين وقضيتهم، ورأت تلك الأصوات أن الإمارات توظف قضية الجنوبيين لخدمة مصالحها التي باتت مكشوفة أكثر من أي وقت مضى، في الوقت نفسه يتحدث مراقبون عن تباينات تاريخية بين الجنوبيين أنفسهم تجلت بعض تداعياتها في سير معارك شبوة وأبين خلال الأشهر القليلة الماضية.
على هذه الخلفية جاء بيان القيادي الجنوبي باعوم كاشفًا عن سعي مكثف للتواصل مع مختلف القوى السياسية والاجتماعية في المحافظات الجنوبية انطلاقًا من المهرة التي احتضنت جانبًا ملحوظًا من تلك الاجتماعات خلال الأسابيع الماضية كما أفادت مصادر محلية.
لكن اللافت أن القيادي الجنوبي أعلن انسحابه من مجلس الإنقاذ، قبيل ساعات من إشهاره، وقال باعوم في بيان يوم السبت، إن المجلس لا يمثله ولا يمثل مكونات الحراك والشخصيات الاجتماعية ذات التوجه الجنوبي، والدعوة التي أطلقها لإعلان وتشكيل المجلس.
يشكك محللون في قدرة المجلس الجديد على التأثير على أرض الواقع لأنه لا يملك السلاح، مقارنة بالمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا
وأرجع باعوم قرار انسحابه إلى عدم تضمن الإعلان المجلس ما قال إنه “الحق الجنوبي”، في إشارة إلى مطالبه باستعادة ما كان يُعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية القائمة في جنوب اليمن، مشيرًا إلى أن من قصدهم بـ”البعض” ضربوا عرض الحائط بجميع الاتفاقات السابقة.
كما بدت التباينات السياسية في إعلان السلطة المحلية بمحافظة المهرة رفضها القاطع لإشهار المجلس الوليد من المحافظة دون غيرها من المحافظات الجنوبية، معتبرةً ذلك “زجًا بالمهرة في آتون صراع إقليمي وحزبي وتصدير الحرب والصراع إلى داخلها”.
في الوضع الميداني، ثمة تحرك سعودي عسكري وآخر إماراتي بالتزامن مع حديث عن انسحابات إماراتية متبادلة مع السعودية، لكنها في المقابل تغيرات غير واضعة بعد أن تم عزل الأدوات من القرار وإسناد القضايا الأمنية والعسكرية والإدارية إلى لجان خاصة شُكِّلت تحت عناوين خاصة بين المجلس الانتقالي والحكومة الشرعية.
وفي قلب الاضطرابات والفراغ اشتباكات متقطعة، مرة بين أدوات السعودية من جهة، وأدوات الإمارات وأحزمتها الأمنية والعسكرية من جهة مقابلة، ومرة أخرى بين هذه المكونات نفسها، مثلما حصل في أحد الأسواق بمدينة شقرى ظهر السبت الماضي.
في الأفق، هناك إشارات كبيرة إلى تعقيدات أمام إنجاز أي تسوية بين طرفي التحالف العربي، فعودة بعض الشخصيات التابعة للشرعية إلى حضرموت، واستمرار نزوح المدنيين من مناطق عدة في أبين وشبوة، مع وصول تعزيزات عسكرية لكل الأطراف، يؤكد بقاء الوضع متوترًا وعودة الحرب إلى هذه المناطق حتمية.
تريد السعودية إيجاد تسوية ولو مؤقتة، لكنها لم تتمكن حتى الآن من إمضاء ما تريد بسبب الخلاف الإماراتي الشديد مع حزب الإصلاح والحكومة الشرعية، وتتباين هذه الأطراف مع دعوات التصفية التي تقوم بها النخب والأحزمة العسكرية الممولة من الإمارات.
هذا الوضع الذي فجَّر حياة المواطنين واستقرارهم يدفع بهم لخيار بديل على رأس أهدافه إخراج القوات التابعة للتحالف وإسقاط أدواته المحلية، وهو ما يتماشى مع دعوات مجلس الإنقاذ الوطني لإخراج قوات التحالف السعودي الإماراتي عبر أبواب مشروعة، قد يكون من بينها العمل العسكري.
إذًا يعود جنوب اليمن إلى الواجهة مجددًا، لا لأنه تحوَّل إلى ساحة صراع يحتدم بين الحكومة الشرعية ودولة في التحالف السعودي الإماراتي، بل لأن الصراع فيه يحيي مشاريع الانقسام والتقسيم، ويقول كثيرون في شأن هذا إنها مشاريع لأجندة أجنبية، تهدف لتفتيت اليمن كمقدمة لتقسيمه ووضع اليد عليه، وإن كان ذلك عبر وكلاء محليين، لكن هؤلاء الوكلاء المحليين ما سيطروا وتنفذوا لولا التمويل السخي والتسليح الحديث الذي وفرته لهم إحدى دول التحالف.
ذاك ما لاحظه تقرير لإحدى وسائل الإعلام الأمريكية خلص إلى أن أسلحة أمريكية بيعت إلى السعودية والإمارات وصلت إلى ما وصفها بـ”الأيدي الخطأ” في اليمن، في إشارة إلى الجماعات المتنافسة في اليمن، التي حول بعضها أسلحتهم ضد بعضهم البعض في نزاع مرير ويزداد سوءًا.
وبحسب تحقيق لشبكة “سي إن إن” الأمريكية، فإن الأسلحة الأمريكية عُثر عليها في أيدي مقاتلين من غير الدول الموجودة على الأرض في اليمن، ليس فقط لمسلحين تابعين لتنظيم القاعدة والميليشيات المتشددة الأخرى والحوثيين المدعومين من إيران، بل لميليشيات تدعمها أبو ظبي، بما في ذلك مسلحي المجلس الانتقالي الجنوبي، الذين يقول التحقيق إنهم يستخدمونها الآن لمحاربة القوات الحكومية المدعومة من السعودية، والذين يحملون أسلحة أمريكية أيضًا.
في ضوء ما يكشفه التحقيق، يشكك محللون في قدرة المجلس الجديد على التأثير على أرض الواقع لأنه لا يملك السلاح، مقارنة بالمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا، الذي يستطيع بقوة السلاح فرض نفسه على الأرض كما حدث في انقلاب عدن.
وإن كان هذا التسليح يخالف قوانين مبيعات السلاح الأمريكية، إلا أن مَنْ اشترى وأوصل السلاح إلى هؤلاء لم يُلق بالاً بهذه القوانين، كما لم يفعل فيما يتعلق بسيادة اليمن ووحدة أراضيه.