أموال الأسد المجمدة.. عقبات الاسترداد ورهانات الاستقرار في سوريا

أقر البرلمان الأوروبي مشروع قرار يسمح باستخدام الأصول المجمدة لنظام الرئيس المخلوع، بشار الأسد، لدعم عملية الانتقال السياسي وإعادة الإعمار في سوريا، وذلك في جلسة عُقدت يوم الأربعاء 12 مارس/آذار، حيث تم التصويت لصالحه بأغلبية 462 صوتًا، مقابل معارضة 76 صوتًا، بينما امتنع 106 أعضاء عن التصويت.

وطالب أعضاء البرلمان الأوروبي الدول الأعضاء في الاتحاد بالتحقيق في سُبل استخدام الأصول المجمدة التابعة لنظام الأسد، بغرض تمويل عملية إعادة الإعمار وتعويض ضحايا الحرب.

وفي بيان رسمي صادر عن البرلمان، دُعي الأعضاء إلى تقديم الدعم لإعادة بناء القطاعات الحيوية في سوريا مثل الطاقة، المياه، الصحة، والتعليم. كما دعا البرلمان إلى دعم عملية انتقال سياسي يقوده السوريون، بهدف تحقيق الوحدة الوطنية في البلاد.

في هذا السياق، نستعرض في هذا المقال حجم الأصول المجمدة الموجودة في دول الاتحاد الأوروبي، وآلية تحويلها واستخدامها في عملية إعادة الإعمار. وتأثير ذلك على مسار إعادة الإعمار في سوريا، مع التأكيد على الدور المحوري الذي تلعبه تمويلات دول أوروبية أخرى في الاستجابة للاحتياجات الإنسانية والتنموية في البلاد.

كم تبلغ ثروة الأسد وعائلته؟

تكشف التحقيقات الاستقصائية عن تقديرات متباينة تعكس تعقيد الشبكات المالية التي يعتمدها النظام السوري في إخفاء أمواله. وتشير بعض التقارير إلى أن الأسد وأفراد عائلته يمتلكون نحو 55 مليون جنيه إسترليني (ما يعادل 66 مليون يورو) في حسابات مصرفية لدى بنك HSBC في لندن، وهي أموال وُصفت بأنها جُمعت بطرق غير مشروعة. ما دفع سياسيين بريطانيين، من بينهم النائب المحافظ لاين دونكان، إلى المطالبة باستخدام هذه الأصول المجمدة في تمويل مشاريع إعادة إعمار سوريا، وفقًا لتقرير نشره موقع “ذي بايبر” البريطاني.

لكن هذه الأرقام لا تمثل سوى جزء يسير من الإمبراطورية المالية التي راكمتها عائلة الأسد على مدى عقود. فوفقًا لتقديرات وزارة الخارجية الأمريكية، يتراوح صافي الثروة الشخصية لبشار الأسد بين مليار وملياري دولار، بينما قدرت مجلة “فاينانس مونثلي” ثروته بحوالي 1.5 مليار دولار، مع الإشارة إلى أن الرقم الحقيقي قد يكون أعلى بكثير عند احتساب الأصول الموزعة بين أفراد العائلة والمقربين من النظام.

وتتصاعد هذه التقديرات بشكل لافت عند الأخذ في الاعتبار سيطرة العائلة على قطاعات اقتصادية حيوية مثل الاتصالات، والعقارات، والنفط، والمصارف، إذ تشير تحقيقات استقصائية إلى أن إجمالي قيمة هذه الأصول قد يتراوح بين 5 و10 مليارات دولار، وربما أكثر.

وفي تقديرات أكثر جرأة، كشفت تقارير استخباراتية بريطانية (MI6)، أن ثروة عائلة الأسد قد تصل إلى 16 مليار دولار، إضافةً إلى 200 طن من الذهب و5 مليارات يورو من الأصول المجمدة، مما قد يرفع إجمالي الثروة إلى ما يقارب 34 مليار دولار عند تحويل هذه الأصول إلى سيولة نقدية.

ولجأت عائلة الأسد على مدار سنوات إلى شركات وهمية، وحسابات سرية في ملاذات ضريبية، واستثمارات عقارية ضخمة حول العالم، بهدف إخفاء الحجم الحقيقي لثروتها. وتشير بعض التقديرات إلى أن الثروة الفعلية قد تتجاوز 12 مليار دولار، ما يجعلها واحدة من أكثر الثروات غموضًا على مستوى العالم.

كيف تتم عملية التحويل؟

تواصل “نون بوست” مع مجموعة من الاقتصاديين السوريين للوقوف على آلية عملية تحويل الأصول المجمدة، وأوضحوا أن العملية تخضع لمسار قانوني وإداري يتم تنظيمه وفق سلسلة من الضوابط لضمان الشفافية والرقابة الصارمة على استخدامها.

تبدأ هذه العملية بالحصول على موافقة رسمية من الجهات المختصة، حيث تلعب الهيئات التشريعية، مثل البرلمان الأوروبي، والمحاكم دورًا أساسيًا في تحديد الإطار القانوني لإعادة تخصيص هذه الأموال. وتشمل هذه المرحلة مراجعة دقيقة للملف المالي بمشاركة خبراء ماليين ومستشارين قانونيين، بهدف التأكد من مشروعية القرار ومدى توافقه مع القوانين الدولية.

بعد الموافقة، تُسند مسؤولية إدارة الأصول إلى هيئة حكومية أو مؤسسة مالية مستقلة، مثل البنك المركزي أو وحدة استرداد الأصول، لضمان استخدامها للأغراض المخصصة لها دون أي تلاعب.

وتُنقل هذه الأموال إلى حسابات خاضعة للرقابة المشددة، مثل حسابات الضمان أو الصناديق الخاصة، لضمان إمكانية تتبعها. كما تتم جميع التحويلات عبر أنظمة مصرفية آمنة معترف بها دوليًا، مثل شبكة SWIFT، لضمان الامتثال لقوانين مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

كما يتم عادة إنشاء هيئات رقابية مستقلة تضم ممثلين عن جهات تشريعية ومؤسسات دولية لمتابعة كيفية توجيه الأصول، مع إلزام الجهات المسؤولة عن إدارتها بإجراء عمليات تدقيق دورية ونشر تقارير مالية مفصلة.

وتُعد الشفافية والتعاون الدولي عنصرين أساسيين في هذه العملية، حيث يتم التنسيق مع مؤسسات مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي لضمان الامتثال للمعايير الدولية ومنع أي محاولات للتحايل.

تجارب عربية مجمدة

تُشكّل التجارب العربية السابقة في استرداد الأصول المجمدة، مثل حالتي العراق بعد سقوط نظام صدام حسين وليبيا بعد الإطاحة بالقذافي، مرجعًا مهمًا لفهم التحديات والفرص المتاحة في السياق السوري. فقد خاضت هاتان الدولتان مسارات قانونية وإدارية معقدة لاستعادة الأموال المجمّدة، ولكن النتائج جاءت متفاوتة، مما يبرز الحاجة إلى أطر قانونية واضحة وجديدة في الحالة السورية.

في العراق وعقب سقوط نظام صدام حسين عام 2003، شُرع في جهود دولية مكثفة لتجميد واسترداد الأصول التي جمعها النظام السابق في بنوك متعددة حول العالم، وتم ذلك استنادًا إلى قرارات مجلس الأمن الدولي، ثم دُعّم بإجراءات قانونية محلية سمحت بتأسيس صناديق خاصة تهدف إلى تخصيص هذه الأموال لتعويض الضحايا وإعادة إعمار العراق.

ومع ذلك، واجهت العملية تحديات كبيرة، أبرزها هياكل الملكية المعقدة، حيث كانت الأموال مخبأة ضمن شبكة من الشركات الوهمية والحسابات الخارجية، مما صعّب تتبعها واستعادتها.

كما أسهم عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في إبطاء عمليات توزيع الأموال المستردة بفعالية، حيث أدت الانقسامات السياسية إلى نزاعات حول آلية إنفاقها، ما أثار تساؤلات حول الشفافية والرقابة.

ورغم الجهود المبذولة، فإن التحليلات الدولية، مثل تلك الصادرة عن الأمم المتحدة، أشارت إلى أن جزءًا كبيرًا من هذه الأصول لم يُستخدم بالشكل الأمثل، مما سلط الضوء على ضرورة وجود رقابة دولية صارمة وشفافية في إدارة هذه الأموال.

أما في ليبيا وبعد سقوط نظام معمر القذافي في 2011، جُمدت أصول ضخمة تابعة للنظام السابق في العديد من الدول، وعلى رأسها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. واستند هذا التجميد إلى مبررات قانونية تهدف إلى منع استغلال هذه الأموال من قبل شبكات القذافي الكثيرة، وضمان استخدامها في إعادة الإعمار ودعم عملية الانتقال السياسي في ليبيا.

لكن، اصطدمت هذه العملية بعقبات كبيرة، إذ كان هناك جدل قانوني طويل حول ما إذا كانت هذه الأصول تُعتبر ملكًا للدولة الليبية أم أنها جزء من الثروة الشخصية للقذافي وأسرته.

هذا الجدل أدى إلى تجميد فعلي للأموال لفترة طويلة، حيث تعقدت آليات صرفها بسبب تشرذم السلطة السياسية في ليبيا، مما جعل من الصعب إدارة هذه الأصول بطريقة موحدة.

ورغم إنشاء وحدات خاصة لإدارة الأصول، إلا أن ضعف التنسيق الدولي وغياب الاستراتيجية المركزية أضعف من تأثير استرداد هذه الأموال على جهود إعادة الإعمار.

وحذرت تقارير دولية، مثل تلك الصادرة عن صندوق النقد الدولي، من أن غياب الرقابة الفعالة قد يؤدي إلى إساءة استخدام هذه الأموال، بدلًا من توجيهها لصالح الليبيين.

وعليه فإن استعادة الأصول المجمدة ليست بالضرورة خطوة تضمن تحقيق نتائج إيجابية، بل تظل رهينة بمدى قدرة الحكومة السورية الجديدة على توفير بيئة سياسية مستقرة وإدارة هذه الموارد بفعالية. فالقرار الأوروبي قد يفتح الباب أمام استخدام هذه الأصول، لكنه لا يحسم مصيرها، إذ يبقى نجاح العملية مرهونًا بوجود آليات قانونية واضحة، ومؤسسات قادرة على ضمان الشفافية، وتوجيه الأموال نحو إعادة الإعمار والعدالة الانتقالية بدلًا من أن تصبح موضع نزاع سياسي أو إداري.

وفي ظل التجارب السابقة، يتضح أن غياب التوافق السياسي وافتقار المؤسسات إلى الكفاءة والرقابة قد يؤدي إلى تعطيل هذه العملية لسنوات، أو حتى فقدان جدواها تمامًا. لذلك، فإن قدرة الحكومة السورية على تجاوز العقبات الداخلية، وإنهاء العنف، ووضع رؤية اقتصادية شاملة ستكون العامل الحاسم في تحديد ما إذا كانت هذه الأموال ستُساهم في بناء سوريا جديدة، أم ستبقى مجمدة ضمن تعقيدات قانونية وتشابكات دولية تجعل الوصول إليها أمرًا نظريًا أكثر منه واقعيًا.