“يعودون مُرحَّبًا بهم، ولن ينالهم أي عقاب”، رسالة إلى المعارضين السعوديين في الخارج نقلها رئيس أمن الدولة السعودي عبدالعزيز الهويريني، بناءً على دعوة من رئيس مجلس الوزراء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في مبادرة هي الأولى من نوعها أثارت الكثير من علامات الاستفهام حول توقيتها ودوافعها الكامنة.
تأتي هذه الدعوة المثيرة للجدل في ظل مناخ سياسي متوتر، حيث لا تزال المملكة تشهد حملات قمع شديدة ضد النشطاء والمعارضين في الداخل والخارج، وهو ما يثير تساؤلات حول نوايا المملكة الحقيقية، فهل تمثل هذه المبادرة فرصة حقيقية للانفتاح والمصالحة أم أنها مجرد فخ لإغراء المعارضين بالعودة وإسكاتهم؟
موجة عفو مفاجئة
خلال الأشهر القليلة الماضية، شهدت السعودية تحولًا غير متوقع، تمثل في موجة إفراجات عن عشرات المعتقلين السياسيين الذين انتهت محكومياتهم، وبعضهم قضى سنوات خلف القضبان بعدما صدرت ضدهم أحكامٌ قاسية بالسجن لعقود، من بينهم الناشطة السعودية سلمى الشهاب التي خُفِّضت عقوبتها من 34 عامًا إلى 27 عامًا بسبب نشرها تغريدات مؤيدة لحقوق المرأة.
وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، أفرجت السلطات عن الأكاديمي محمد القحطاني، أحد مؤسسي “الجمعية السعودية للحقوق المدنية والسياسية” التي حُلَّت في عام 2013، بعد أكثر من سنتين من انتهاء محكوميته في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، كما أُفرج عن المحامي عيسى النخيفي إفراجًا مشروطًا، والداعية محمد الهبدان، والأكاديمي مالك الأحمد اللذين أُوقفا في سبتمبر/ أيلول 2017.
تلا ذلك موجة من قرارات العفو في فبراير/ شباط، شملت المؤثر على مواقع التواصل الاجتماعي منصور الرقيبة، الذي حُكم عليه بالسجن 27 عامًا لانتقاده مشروع “رؤية 2030” في البلاد، والدكتور علي حسن الألمعي بعد أكثر من 3 سنوات ونصف السنة من الاعتقال، والمدون أحمد البديوي، والممرضة زينب آل ربيع التي اعتُقلت في يونيو/ حزيران 2022، من بين آخرين.
محاكم التفتيش #السعودية تغلظ الحكم على منصور الرقيبة، كان 18 سنة فأصبح 27 سنة.. منصور لم يكن معارضًا ولم يكن ناشطًا، ولكنه دخل السجن بسبب وشاية! pic.twitter.com/FZAwROhqiN
— تركي الشلهوب (@TurkiShalhoub) March 29, 2023
أعقب هذه الخطوة النادرة والمفاجئة خطوة أكثر مفاجأة تعجِّل بجهود السعودية لإعادة المعارضين إلى البلاد مع التعهد بـ”ألا ينالهم أي عقاب”، ما أثار تساؤلات حول مدى استعداد المملكة حقًا لهذا التغيير، خاصة أن معظم هؤلاء اضطروا إلى المنفى الاختياري بسبب آرائهم السياسية أو نشاطهم الحقوقي، مثل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، الذي اغتيل داخل القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018.
لكن هذه الدعوة ليست جديدة، إذ حاول مسؤولون سعوديون، بعد تسعة أشهر من اغتيال خاشقجي، إقناع المنتقدين والمعارضين بالعودة إلى الوطن مع ضمان سلامتهم، في محاولة لمنع السعوديين الآخرين المقيمين في الخارج من التعبير عن مخاوفهم بشأن قيادة محمد بن سلمان.
وجرت الأمور كما رواها أحد النشطاء السعوديين في المنفى لـ”فايننشال تايمز” بقوله إن “شخصًا قريبًا من القيادة أو وسيطًا يتصل بك، ويخبرك بأن لديه رسالة شخصية من ولي العهد إليك مفادها أنك لن تُسجن، ولن يلحقك أذى إذا قبلت العرض”.
اللافت هذه المرة أن الدعوة جاءت بصفة رسمية ومعلنة على لسان مسؤول يمثل قمة الجهاز الأمني السعودي، وبتوجيه مباشر من محمد بن سلمان، الذي يمثل قمة هرم السلطات السعودية، التي تجاهلت على مدار السنوات الماضية نفوذ المعارضة في الخارج، وقلّلت من شأن شخصيات المعارضة المنفية.
وفي تفاصيل الإعلان، قال الهويريني خلال حديثه على قناة “إم بي سي”، التي تتخذ من الرياض مقرًا لها، إن “هذه الدعوة موجهة لكل من استُغِلَّ من قِبَل جهات خبيثة، أو حصل على دعم مالي في مرحلة ما، أو خُدِع بطريقة أخرى لمعارضة المملكة من الخارج، بشرط ألا يكون قد ارتكب جُرمًا كالقتل أو الاعتداء على أحد”، مشيرًا إلى أن الراغبين في العودة يمكنهم التواصل مع السفارات السعودية في الخارج، التي باتت على علم بهذا الأمر، أو مع الجهات المختصة، أو مع عائلاتهم في المملكة.
بتوجيه من ولي العهد..
رسالة من رئيس أمن الدولة السعودي للمغرر بهم:
إن لم يكن عليك “حق خاص” قتل أو سرقة أو اعتداء وكنت من المغرر بهم، فإن الدولة ترحب بك ولن تعاقبك
برنامج #حكاية_وعد يومياً الساعة 6 مساء بتوقيت السعودية على #MBC1#رمضان_يجمعناhttps://t.co/4in4EDOZYC pic.twitter.com/3lbUA189dr
— MBC1 (@mbc1) March 2, 2025
وزعم المسؤول الأمني السعودي رفيع المستوى أن حوالي 20% من المعتقلين السياسيين السعوديين في المملكة سُجنوا إمَّا بناءً على طلب عائلاتهم أو بالتنسيق معهم، وبرر ذلك بأن العائلات أصبحت تدرك جهود الدولة في التعامل مع المعارضين كجهة تأهيلية لا عقابية، ومع ذلك، لم يتطرق الهويريني إلى السجناء السياسيين، الذين احتُجز بعضهم في ظروف قاسية منذ تعيين ولي العهد محمد بن سلمان وريثًا للعرش في منتصف عام 2017.
هل تستجيب المعارضة؟
تصريحات الهويريني تلقّفتها الصحف المحلية التي تغنّى بعضها “بنهج المملكة الراقي في التعامل مع مواطنيها في الداخل والخارج، والسماح بعودتهم الآمنة ليعيشوا بكرامة وشرف بين أهلهم ومجتمعهم”، ما أعاد فتح النقاشات حول الواقع الفعلي لأوضاع حقوق الإنسان في المملكة، وأثار تساؤلات حول حقيقة التوجه الجديد للإصلاح.
وفي مقابل الاحتفاء السعودي داخل المملكة، لا يبدو أن هذه الدعوة لاقت صدى إيجابيًا لدى المعارضين السعوديين في الخارج، إذ أعرب معظمهم عن شكوكهم في إمكانية التزام ولي العهد بتنفيذ العفو الجديد، في ظل إصراره على عدم الإفراج عن آلاف معتقلي الرأي من سجونه، واستمرار احتجاز أقارب وأصدقاء بعضهم كوسيلة للضغط عليهم للعودة إلى الوطن، مما يعزز شكوكهم في صدق الدعوة التي تعكس التناقض بين مدّ يد المملكة للمعارضين في الخارج وقمعهم باليد الأخرى في الداخل.
ولم يستبعد البعض سعي المملكة لإعادة المعارضين إلى الداخل حتى لا يبقى صوت آخر مغاير للرواية الرسمية، ونصح آخرون ولي العهد بالبحث عن حل حقيقي لأزمة حرية الرأي، التي تسببت في زيادة أعداد المعارضين في الخارج.
— Col.RabihAlenezi عقيد/ رابح العنزي (@ColAleneziRabih) March 4, 2025
واعتبر معارضون سعوديون دعوة الحكومة السعودية دليلًا على حجم المعارضين وزيادة أعدادهم وتأثيرهم في الخارج، سواء من أعلن منهم معارضته بشكل صريح أم لم يعلن بعد لأسبابهم الخاصة، وكذلك نجاحهم في تشكيل ضغوط كبيرة على سلطات المملكة أكثر من أي وقت مضى.
واستدلّ هؤلاء على ذلك بانتقال جهود التواصل معهم من شخصيات عامة، مثل الممثل ومقدم البرامج السعودي السابق فايز المالكي، ثم عبر حسابات وسائل التواصل الاجتماعي، لتصل الآن إلى أعلى مستويات السلطة مع ابن سلمان والهويريني.
فايز المالكي يقنع وسام التي هربت من أهلها بالعودة إلى السعودية💚 pic.twitter.com/ieqh1ugx1V
— Golden Dose (@GoldenDose) June 29, 2022
ومع ذلك، يعتقد بعض المعارضين أن محاولات الجلب بشكل رسمي عن طريق السفارات ما هي إلا ترجمة للتهديد العلني المنتشر ضدهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي لطالما كانت الفضاء الأوسع للمعارضين لإبداء آرائهم ونشر أفكارهم.
ألم تستبيح دماء المعارضين من قبل يا أستاذ فايز المالكي وتدعوا لقتلهم والقضاء عليهم وتصفهم بخونه للوطن
والان تروج لعودتهم للوطن
احذر أن تكون بوقا يستخدم كما يريدون وفق ومصالحهم .
ادعوك للتوبة والتحرر من العبودية
اخي فايز كما ادعوك اللحاق بركب المعارضين الأحرار. https://t.co/xZugdFl3p1— عِمَاد المُبَيّض (@EmadMubaid) March 9, 2025
ولإثبات جدية أي وعود بالإصلاح الفعلي وحسن نية السلطات السعودية فيما يخص العفو، طلبت المعارضة – قبل السماح بعودتهم من الخارج – إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين داخل المملكة، ورفع أشكال الاضطهاد السياسي عنهم، بما في ذلك استعادة الحريات العامة، وإنهاء قرارات منع السفر التعسفية، وتمكينهم من ممارسة حياتهم دون قيود، وإنشاء منتديات سياسية مستقلة ومنظمات مجتمع مدني.
واعتبر بعض المعارضين أن هذه الدعوة تأتي في سياق تضليلي، فقد أُطلقت بالتزامن مع استمرار السعودية في تنفيذ عمليات إعدام سجلت رقمًا قياسيًا تجاوز 270 شخصًا في عام 2024، وهذا أكبر عدد من الأشخاص الذين يتم إعدامهم في المملكة منذ مارس/ آذار 2022، وهو العام الذي نفذت فيه المملكة أحكامًا بالإعدام أكثر من أي دولة أخرى إلى جانب الصين وإيران.
وحسب منظمة العفو الدولية، يقضي العديد من الناشطين والمعارضين في السعودية أحكامًا طويلة بالسجن فاقت مدتها العشرين أو الثلاثين عامًا بسبب أنشطتهم على الإنترنت (تغريدة أو مدونة أو تعليق على فيسبوك)، ويشمل ذلك نساء أخريات مثل نورة القحطاني ومناهل العتيبي، المسجونتين بسبب تعبيرهما عن دعمهما لحقوق المرأة، وكذلك عبد الرحمن السدحان، الذي سُجن لمدة 20 عامًا بسبب تغريدات ساخرة.
في الوقت نفسه، ورغم تبنّي ولي العهد السعودي سياسة إصلاحية اجتماعية، لا يزال عدد كبير من المعتقلين البارزين في السجون بموجب قانون مكافحة الإرهاب، من بينهم رجال دين بارزون مثل سلمان العودة وعوض القرني وسفر الحوالي، الذين يعانون من ظروف صحية مقلقة قد تُفسر تأخير إطلاق سراحهم على الرغم من إطلاق سراح معظم المعتقلين الآخرين معهم، هذا بالإضافة إلى ناشطين لا يزالون يقبعون خلف القضبان، مثل عصام الزامل ووليد أبو الخير وتركي الجاسر وعبد الرحمن السدحان ومحمد الربيعة.
لذلك، يبقى هذا الانفراج منقوصًا، إذ لا تزال المخاوف قائمة بشأن احتمال إعادة المحاكمات أو الاحتجاز لأجل غير مسمى دون وضوح قانوني، وتتحدث منظمات حقوق الإنسان عن مواجهة المفرج عنهم قيودًا شديدة بعد خروجهم من السجن، وتحديدًا فيما يخص التعبير عن آرائهم علنًا والمنع من السفر، الأمر الذي يحرم الكثير منهم من العودة إلى وظائفهم والتنقل بحرية أو الالتحاق بعائلاتهم في الخارج.
واقع المعارضة في الخارج
بالحديث عن فئات السعوديين المنفيين أو العالقين في الخارج، فغالبًا ما يكونون مبتعثين أو حاصلين على منح دراسية حكومية قرروا عدم العودة بعد متابعتهم الأحداث التي شهدتها المملكة خلال السنوات الأخيرة، أو نساء هربن بسبب تعرضهن للتسلط والعنف والسيطرة الأسرية القمعية، وأقارب المعتقلين، والمنتقدين الصريحين المدرجين الآن على قوائم المطلوبين.
ووفقًا لمدير مركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، روبرت ماسون، فإن عددًا صغيرًا نسبيًا، لكنه متزايد، من طلاب الجامعات، والأمراء، والإسلاميين، والفتيات المراهقات السعوديات، فرّوا من المملكة خوفًا من الاضطهاد أو الانتقام منهم بسبب نشاطهم السياسي، أو افتقارهم إلى الاستقلالية الشخصية بسبب نظام ولاية الرجل المعمول به.
قد يُفسَّر هذا تصنيف الهويريني لكل من رفع صوته أو عبّر عن معارضته في السنوات الماضية ضمن “المعارضة”، بينما يُعتبر من بقي في الخارج لأسباب أخرى وعاش حياته مهاجرًا أو منفيًا “مغررًا به”، وإن كان هذا هو المصطلح الذي تطلقه السلطات السعودية عادة على المعارضين والمنتقدين لسياساتها المقيمين خارج أراضيها.
ولا تتوفر أرقام رسمية عن عدد المعارضين السعوديين في الخارج إلا أن التقديرات تشير إلى أنهم بالآلاف، وأن أعداد الهاربين من التضييق وتكميم الأفواه في ازدياد باستمرار منذ اعتلاء محمد بن سلمان ولاية العهد في عام 2017، فقد بلغ عددهم نحو 800 يطالبون بالحرية والإصلاح والتغيير، ولم يسلموا من قبضة المملكة الصارمة.
وتشير المعلومات إلى أن معظم المعارضين السعوديين في الخارج هم نشطاء، وصحفيون، وأكاديميون أو أعضاء في جماعات معارضة سياسية فروا من بلادهم هربًا من الاضطهاد السياسي، وخوفًا على حياتهم، بعد أن ضاقت السلطات السعودية بهم وبطلباتهم الإصلاحية ذرعًا.
هناك أيضًا سعوديون معارضون “بصمت”، أي أنهم لا يمارسون أي نشاطات سياسية معلنة، وبدلًا من ذلك، آثروا الهروب من القمع أو التهديدات بالقتل أو خطر السجن، بحثًا عن الأمان والحريات في دول أخرى، ويُشار إلى أن عدد المعارضين النشطين قليل مقارنة مع العدد الإجمالي للمعارضين السعوديين في الخارج.
أما عن مناطق وجودهم، فمعظمهم يعيش في الولايات المتحدة وكندا، وبريطانيا، وأوروبا، حيث المزايا السخية وقوانين اللجوء المتسامحة، لا سيما بسبب الحظر القانوني لإجبار طالبي اللجوء أو اللاجئين على العودة إلى بلد يُحتمل أن يتعرضوا فيه للاضطهاد.
وتُظهر بيانات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ارتفاع عدد المواطنين السعوديين الذين يتقدمون بطلبات لجوء، ففي عام 2017، تقدَّم ما لا يقل عن 815 سعوديًا بطلبات لجوء، مقارنةً بـ 195 في عام 2012، كما تقدَّم 101 سعودي بطلبات لجوء إلى الاتحاد الأوروبي خلال النصف الأول من عام 2019، مقارنةً بـ 49 في الفترة نفسها من العام السابق، وفقًا لمكتب دعم اللجوء الأوروبي.

وتأتي هذه الزيادة في وقت انخفض فيه إجمالي عدد طلبات اللجوء من الدول الخليجية الأخرى بنسبة 31%، ما يسلط الضوء على تزايد الأجواء الاستبدادية في المملكة، خاصةً بعد تولي ابن سلمان السلطة، وما صاحبه من اتخاذ المملكة نهجًا أكثر صرامة في التعامل مع النشطاء والمعارضين، وحتى مع أدنى انتقاد للحكومة وسياساتها.
وتنوّعت المعارضة التي بدأت بشكل فردي منذ أوائل خمسينيات القرن المنصرم، ردًا على الاعتقالات التي صاحبت الاحتجاجات العمالية، وشملت حركات دينية وسياسية، بل وحتى اجتماعية وثقافية، وكان من أبرز الشخصيات ناصر السعيد الذي اختُطف من بيروت وتم تسليمه إلى السلطات السعودية، وحتى الآن لم يعرف عنه أحد شيئًا.
وبدأت المرحلة الثانية في أوائل الستينيات بتشكيل كيانات وتنظيمات، أبرزها “نجد الفتاة”، والذي يضم نخبة من المثقفين في الخارج، و”الأمراء الأحرار” بقيادة الأمير طلال بن عبد العزيز، واكتسب نشاط المعارضة زخمًا كبيرًا في السبعينيات، عقب الثورة الإيرانية، عندما طالب بعض الشيعة السعوديين بحقوق سياسية أكبر، مؤكدين أنهم “مضطهدون”.
ولجأ عدد قليل من المعارضين الإسلاميين السعوديين إلى عواصم غربية مثل لندن وواشنطن منذ تسعينيات القرن الماضي، وعاد بعضهم بعد إبرام اتفاقيات مع الحكومة. لكن مع تضاؤل مساحة النشاط السياسي وحرية التعبير داخل المملكة في السنوات الأخيرة، أعادت سياسات ابن سلمان إحياء فكرة المعارضة في الخارج، وسعت مجموعة أكبر من السعوديين إلى حياة جديدة خارج البلاد.
وكانت حملة الاعتقالات الواسعة التي شهدتها السعودية في عام 2017 السبب المباشر وراء إعادة ترتيب المعارضة في الخارج صفوفها، حيث عقدت قوى سعودية معارضة أول مؤتمر لها في الخارج في أيرلندا، في محاولة لتأليف معارضة منظمة تطالب بالإصلاح. ومن ثم، شهدت المعارضة زيادة في أعداد الناشطين في مجال حقوق المرأة وحقوق الإنسان والحريات، والشعراء، والمثقفين، وغيرهم ممن يُعبِّرون عن معارضة سياسية في المملكة، من أبرزهم مضاوي الرشيد، وعلي الدبيسي، وحسن العمري، ويحيى عسيري.
سر التحول من الإكراه إلى الإغراء
مع تنامي أعداد الإصلاحيين والمعارضين السعوديين في الخارج، عمدت السلطات السعودية إلى استخدام عدة أساليب لجلبهم إلى المملكة، ونجحت في خطف ثلاثة أمراء من الأسرة الحاكمة خلال السنوات السابقة. لكن أنباء اختفائهم أو حتى محاولات إسكات بعضهم لم تلقَ ذلك الاهتمام الكبير بسبب تعامل الأسرة الحاكمة بشيء من الخصوصية تجاههم، فاصلًا بينهم وبين بقية الشعب.
أيضًا، قام النظام السعودي بمحاولات حثيثة لملاحقة المعارضين والمنشقين السعوديين، خصوصًا بعد فضيحة التجسس عبر تويتر لصالح المملكة، وأنفق أموالًا طائلة لاسترداد معارضَين يملكان تأثيرًا واسعًا على الشباب في السعودية، هما سعد الفقيه، الذي يترأس حركة الإصلاح الإسلامي، ومحمد المسعري، الذي يترأس حزب “التجديد الإسلامي”. ويعيش الاثنان في لندن منذ تسعينيات القرن الماضي، بعد لجوئهما هربًا من الاعتقال.
هذه السلوكيات المتهورة أساءت إلى سمعة المملكة وولي عهدها كثيرًا، الذي يُعتبر على نطاق واسع الحاكم الفعلي للمملكة بسبب المشاكل الصحية المستمرة للملك سلمان وغيابه المطوّل عن الحياة العامة.
ويبدو أن نتائجها المعاكسة أقنعت السلطات العليا في السعودية بأن أسلوب الإكراه، الذي توعّدت به لجلبهم، غير مجدٍ، فقررت اتباع نهج أكثر مرونة لإقناع المنتقدين والمعارضين بالعودة إلى ديارهم دون مواجهة أي عقاب.
يبدو أسلوب الإغراء بدل الإكراه أمرًا جيدًا، لكن الوضع داخل السعودية يُفقد هذه الحوافز جاذبيتها، وربما لا يُغري كثيرين بالعودة، فسجناء وسجينات الرأي ما زالوا يقبعون في السجون، وتشير تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية إلى أنهم يُهانون ويُعذَّبون.
ويبدو أن سبب خشية السلطات السعودية من أصوات مواطنيها الساخطين المقيمين في الخارج، وتسريع جهودها لإعادتهم إلى البلاد، هو تخوّفها من أن تسيء مواقفهم إلى الدعاية الجارية لـ”رؤية 2030″، التي تهدف إلى “تنويع الاقتصاد”، وأن تقوّض أنشطتهم سردية الإصلاح التي يروِّج لها ولي العهد، الذي يحاول ترميم الشرخ الذي أصاب صورته في السنوات الأخيرة.
ومما يزيد من قلق السلطات السعودية أن أعضاء الجالية السعودية في الخارج، التي تُبدي جرأة في التعبير عن رأيها، بدأوا ينسجون علاقات مع هيئات حقوقية وسياسية في عواصم عالمية مثل واشنطن، ولندن، وباريس، وينخرطون في الضغط على الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والكونغرس الأمريكي.
كما لعب هؤلاء دورًا محوريًا في رد الفعل العنيف عقب اغتيال خاشقجي، حيث دعت إحدى هذه الجماعات المعارضة محققة الأمم المتحدة في حالات الإعدام خارج نطاق القضاء، أغنيس كالامارد، إلى فعالية في لندن للحديث عن تقريرها، الذي اتهم السعودية بالمسؤولية عن اختفاء الصحفي القسري، وتعذيبه، وإعدامه خارج نطاق القضاء، ما تسبب في تراجع حاد في سمعة المملكة على الساحة الدولية.
وفي سبتمبر/ أيلول 2020، وتزامنًا مع الاحتفال بالعيد الوطني الـ90 لتأسيس المملكة، أصدرت مجموعة من الناشطين السعوديين في الخارج بيانًا للإعلان عن تأسيس حزب “التجمع الوطني”، في أول تحرك سياسي منظم خارج البلاد، يأتي بسبب ما وصفه المؤسسون بـ”انسداد الأفق السياسي، وانتهاج ممارسات العنف، وتزايد الاعتقالات والاغتيالات السياسية، وتصاعد السياسات العدوانية ضد دول المنطقة وغيرها من القضايا”.
وبينما لا توجد منظمة شاملة تجمع معارضي الخارج جميعًا، فإن تعاونهم وعلاقاتهم يمثلان تحديًا جديدًا للحكومة السعودية في سعيها لجذب الاستثمارات الأجنبية لدعم خطط الإصلاح الطموحة لولي العهد السعودي. لذلك، تضمنت الدعوة إلى العودة توصيات باتباع أسلوب اللين مع المعارضين السعوديين في الخارج، وبتقديم حوافز للعودة بدل الإكراه والضغط.
ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة “فاينانشيال تايمز“، فإن مثل هذا الصداع الذي تسببه الأصوات المعارضة في الخارج لرأس ابن سلمان، دفع البلاط الملكي إلى طلب دراسة الموضوع. وإن الدراسة، التي لم يُكشف عن نتائجها، أشارت إلى أن عدد المعارضين السعوديين في الخارج سيصل إلى 50 ألفًا عام 2030.
وذكَّرت الصحيفة بتحذير مجلس الشورى السعودي، وهو هيئة استشارية يعينها الملك وتعمل بمثابة برلمان، في عام 2016، من أن أكثر من مليون سعودي قرروا الاغتراب والهجرة واللجوء، ليس فقط في أوروبا وأمريكا، بل في بلدان شقيقة مثل مصر، والعراق، وبقية دول الخليج. وإن كانت دوافع الغالبية منهم اقتصادية، فهذا أمر غريب في بلد يُعتبر الأكبر والأقدر بين حلفائه وخصومه في المنطقة.
أما في الداخل، فيأتي الإفراج عن المعتقلين – ومن بينهم ناشطون – في وقت تروّج فيه السعودية لإصلاحات عدة في مجالات مختلفة، إذ يُتوقع أن تشهد المملكة تغييرات جذرية، لا سيما في مجال حقوق الإنسان، بالتزامن مع تعزيز حضورها في مجال الترفيه، واستعدادها للأحداث الرياضية الدولية، ومنها استضافة كأس العالم لكرة القدم عام 2034.
وبحسب رئيسة قسم الرصد والمناصرة في “القسط”، لينا الهذلول، فإن حملة الإفراجات التي شملت عددًا من الناشطين المعروفين أثبتت أن السلطات السعودية لن تتراجع إلا بضغوط عالمية وعلنية، فقد شكلت قضايا عدد من المفرج عنهم إحراجًا للمملكة المقبلة على أدوار سياسية وإقليمية أساسية، والتي تريد أن تنفتح على العالم الغربي والسياحة، وتتنافس على موطئ قدم في الاستثمارات العالمية.
كل هذا يتزامن مع قضايا مماثلة شوّهت سمعة الحكومة السعودية، وتزايدت الضغوط عليها مع عدم إغلاق ملف خاشقجي، فضلًا عن انتقادات متكررة لملف حقوق الإنسان، بما في ذلك القيود المفروضة على حرية التعبير، والقتل التعسفي، والاختفاء القسري، والتعذيب، وحقوق المرأة، والإعدامات.
وبالتالي، فإن هذه التحركات تُرجّح أن تكون جزءًا من جهد أوسع نطاقًا تبذله السلطات السعودية كستار على واقع مظلم، وتلميع سجلها في مجال حقوق الإنسان، ما قد يعزز بشكل كبير أهدافها التنموية المستقبلية.
بالإضافة إلى ذلك، قد يؤثر سقوط بشار الأسد على سياسات المملكة، لا سيما مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، الذي يعطي موقفه الاقتصادي العدواني الأولوية للأرقام على التحالفات، كما يتضح من مطالبته السعودية باستثمار تريليون دولار، وعودة “اتفاقيات أبراهام” للظهور تحت عنوان “الدور على السعودية”.
بعد أن كان “منبوذًا” لسنوات، ووُصف بالأمير المتهور الذي يشعل الأزمات، يبدو أن محمد بن سلمان يسعى إلى صناعة صورة لحاكم يجذب إلى مملكته أبرز قادة العالم، ويتوسط بين قوتين عظميين (أمريكا وروسيا) كصانع سلام ولاعب بارز في ساحة السياسة والدبلوماسية الدولية، وكأن العالم غفر أو نسي أزمات ضُلِع فيها، من حرب اليمن واغتيال خاشقجي، إلى حصار قطر، واحتجاز أمراء ورجال أعمال في فندق الريتز، وأزمة الرياض مع كندا، وحتى ما أُشيع عن احتجاز سعد الحريري في السعودية، وغير ذلك.
وقبل كل شيء، ربما كانت السنوات العشر الأخيرة من الاعتقالات وإسكات المعارضة كافية لبث الخوف في قلوب المواطنين السعوديين، الذين يستجيبون الآن للتغييرات الجذرية التي تُعيد تشكيل بلادهم سياسيًا، واقتصاديًا، وحتى اجتماعيًا.
ورغم التفاؤل المحيط بهذه الإجراءات الأخيرة كخطوة نحو تحسين سجل حقوق الإنسان في السعودية، لا تزال هناك أسئلة ومخاوف كثيرة بشأن هذه التحولات، التي سيعتمد تأثيرها على مدى جديتها واستمراريتها.
والأهم من ذلك، وجود ضمانات حقيقية لمنع تكرار التاريخ. ففي النهاية، كيف يمكن لمعارض عائد إلى بلده أن يثق بنظام لا يزال قريبه أو صديقه فيه محبوسًا، أو ممنوعًا من السفر، أو لا يمكنه أن يكتب بضع كلمات ناقدة على الإنترنت؟
وربما لو كان خاشقجي حيًا اليوم، لحذَّر على الأرجح كل معارض في الخارج من الوثوق بأي وعود دون ضمانات حقيقية، ولذكَّرهم بأن النظام لم يتغير، وأن الأبواب التي تُفتح لهم الآن قد تُغلق خلفهم إلى الأبد. فهل سيُنصت المعارضون لتحذير لم يسمعوه، أم سيجد بعضهم أنفسهم قريبًا الضحية التالية، أو خلف قضبان السجون نفسها التي هربوا منها؟