إرهاب ممنهج يعانيه الصحفي العراقي في بلده، ومثل كل أزمة يشهدها العراق، يتصدر الصحفيون قائمة الضحايا وتُصادر حرية التعبير، خصوصًا في الاحتجاجات الشعبية، وما يجري في بغداد لا يمكن وصفه إلا بالعملية المنظمة التي تهدف إلى إفراغها من صحفييها، ويتزامن ذلك مع احتجاجات مرتقبة يجري التحشيد لها في الـ25 من الشهر الحاليّ، تأتي أيضًا عقب احتجاجات دموية، شهدتها العاصمة ومدن أخرى، لإجهاض أي حراك احتجاجي مستقبلاً.
كنتيجة طبيعية لحملة الاعتقالات والتهديد التي تطول الصحفيين باتت بغداد اليوم شبه خالية من صحفييها وإعلامييها، خصوصًا أولئك الذين شاركوا في نقل تظاهرات الأول من أكتوبر/ تشرين الأول وتغطيتها.
مرعي : الصحفيون يتعرضون لتهديدات وعلى رئيس الوزراء فتح تحقيق
مرعي : #الصحفيون يتعرضون #لتهديدات وعلى رئيس الوزراء فتح تحقيق لمتابعة النشرة كاملة : https://bit.ly/33DiThp قناة دجلة الفضائية
Posted by قناة دجلة الفضائية on Thursday, October 17, 2019
تتلاشى وعود وتعهدات رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بحفظ حقوق الإعلاميين والصحفيين وحمايتِهم من أي قمع أو اعتداء، فما زالت عمليات الاعتقال بحقهم مستمرة، وتصل أحيانًا إلى حدّ الإخفاء التام لهم وضياع أيّ معلومة بشأن أماكن احتجازهم.
هجرة وفراغ واعتداءات
تتحدث إحصاءات غير رسمية عن حملة لاعتقال أكثر من 130 ناشطًا شاركوا فعليًا أو بآراء على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث استندت أوامر الاعتقال إلى المادة (4) من قانون الإرهاب، بينما السبب الحقيقي كان تغطيتهم للاحتجاجات الغاضبة التي تشهدها البلاد للمطالبة بالخدمات ومحاربة الفساد.
يؤكد ناشطون عراقيون أن قائمة بالأسماء قدمت إلى المخاتير (زعيم محلي يختاره أهل قرية) في مناطق متعددة من العراق، وتحديدًا أسماء الذين يتواصلون مع القنوات الفضائية الأجنبية، ما اضطر العديد منهم إلى المبيت خارج منازلهم، ويتداولون على المنصات الاجتماعية ما أضحى يُعرف بـ”قائمة المستهدفين من تلك الأطراف المسلحة المجهولة”.
ويواجه صحفيون وناشطون مسلسل اعتقال بسبب مشاركاتهم في الاحتجاجات، وخاصة المدونين والصحفيين منهم، فقد اختفى الناشط عقيل التميمي وزميله ميثم الحلو في ظروف غامضة إثر مداهمة قوة مسلحة لمنزلهم، واعتقل شجاع الخفاجي هو الآخر، وهو ناشط مدني ومدون، كان ضحية لفخ الاعتقالات التي طالت وتطول الناشطين العراقيين بعد الاحتجاجات الشعبية التي هزت أركان السلطة في البلاد.
الخفاجي الذي يدير صفحة “الخوة النظيفة” على فيسبوك ويتابعها نحو مليونين، اقتادته قوة ترتدي زي القوات الخاصة بعد أن اقتحمت منزله بأسلوب تعسفي فجرًا، ليطلق سراحه بعد 24 ساعة من اعتقاله بسبب حملة التضامن الكبيرة التي أكدها في منشور على صفحته الشهيرة عراقيًا.
إطلاق سراح “شجاع الخفاجي” قبل قليل وهو بصحة جيدة شكراً جزيلاً لكل من أتصل و وقف معنا ومع عائلته ومن ساهم وتدخل في إطلاق…
Posted by الخوة النظيفة on Friday, October 18, 2019
وأسفرت هذه العمليات المنظمة عن هجرة جماعية للصحفيين من بغداد، فقد لجأ عشرات إثر ذلك إلى إقليم كردستان أو دول أخرى هربًا من الاعتقال أو التعرض للاختطاف القسري.
وفي خطوة أخرى لقمع الاحتجاجات الشعبية، اقتحمت قوة أمنية مسلحة مقار عدد من المؤسسات الإعلامية المحلية والعربية، عقب تغطيتها الاحتجاجات الدموية، حيث أعلنت قناة دجلة اقتحام مبناها من 50 عجلة، وإضرام النار فيها والاعتداء على الإعلاميين وطردهم من القناة، كما قالت “إن آر تي عربية”: “مهندسون تابعون لفصائل مسلحة دخلوا المبنى وأوقفوا ترددات البث”.
قناة “العربية والحدث” وشركات لتزويد القنوات الفضائية بالبث نالوا أيضًا جزءًا مما وقع على القنوات المحلية، إذ هاجم مسلحون ملثمون تُقلهم 3 سيارات، مكاتبها في بغداد، واعتدوا على الصحفيين وحطموا المعدات والهواتف، ما أدى إلى إصابة عاملين فيها بجروح بعد تعرضهم لضرب مبرح.
قلق دولي
ردود الفعل الدولية في قضية الاعتداءات على المكاتب الصحفية كانت مدويّة، وتفاعلت بشكل كبير، إذ أكدت منظمة “سكاي لاين” الدولية في هذا السياق أن “استخدام الأسلحة والاعتداءات الجسدية ضد الصحفيين يأتي استغلالًا للأوضاع التي يعيشها العراق، على وقع التظاهرات الشعبية”، وأوضحت المنظمة أن هناك من يحاول منع التغطية الإعلامية وفضح الانتهاكات بحق المتظاهرين.
وأشارت “سكاي لاين” أن الهجمات ضد الصحافة منسقة وهي محاولة لمنع التغطية الصحفية والتغطية على الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان، وأكدت المنظمة أيضًا أن هذه الاعتداءات تأتي في سياق حجب المعلومات عن المواطنين العراقيين والجمهور حول العالم.
تويتر بديلًا
نتيجة الإجراءات الحكومية توقفت معظم القنوات والوكالات والمواقع الإخبارية عن العمل خلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد مؤخرًا، فيما أجبرت وسائل إعلام أخرى على تغطية التظاهرات وفق ما تشتهي وترغب السلطات.
وفي محاولة لكشف حقيقة ما يجري في العراق لجأ عديد من الناشطين إلى مواقع التواصل الاجتماعي – وتحديدًا موقع تويتر – وتم إيصال عشرات من مقاطع الفيديو والصور والأخبار إلى مدونين من خارج البلاد، بسب الحظر الذي فرضته الجهات الرسمية على شبكة الإنترنت.
وتصدرت العديد من “الهاشتاغات” مثل (نازل آخذ حقي) و(نريد وطن) و(العراق ينتفض) الترند العالمي خلال أيام الاحتجاجات الشعبية، وكانت بديلًا ناجحًا لوسائل الإعلام التقليدية.
28 انتهاكًا بأيام
جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق رصدت 28 انتهاكًا بحق الصحفيين وإصابة 15 منهم، والاعتداء على مكاتب ومقرات 8 وسائل إعلام، خلال الاحتجاجات الشعبية.
يشهد العراق عمليات تكميم أفواه واسعة رغم أن المادة 38 في دستوره تكفل “حرية التعبير”
تقول الجمعية إنه منذ اليوم الأول للاحتجاجات بدأت حالات الانتهاك تطول الصحفيين في محافظات مختلفة، ورُصِدت 28 حالة انتهاك، منها 17 حالة اعتداء من القوات الأمنية التي اعتقلت صحفيين اثنين.
ويشهد العراق عمليات تكميم أفواه واسعة رغم أن المادة 38 في دستوره تكفل “حرية التعبير”، ورغم أنّ العراق عضو في المعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يشدد في المادة الـ19 منه على حق “حرية التعبير”، فإن سياسييه يتفننون بأشكال القمع ضد الإعلام ووسائله.
إغداق بالوعود
البرلمان العراقي يعمد أيضًا إلى المشاركة في حملة تكميم الأفواه عبر عزمه تشريع قانون يتعلق بالجرائم الإلكترونية الذي ترفضه الأوساط الصحفية في البلاد، وينص على عقوبات بالسجن تصل إلى المؤبد بسبب منشورات إلكترونية تمس “الاستقلال والوحدة للبلاد أو مصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية”، ويقلق الغموض الصحفيين العراقيين ويعوق ظهور صحافة حرة ومستقلة فعليًا.
الأكاديمي والمحلل السياسي الدكتور الناصر دريد يقول: “النظام الحاليّ يعمد إلى اتباع إستراتيجية مزدوجة استباقًا للموجة القادمة من التظاهرات التي قد تعصف به إلى الأبد، وهي سياسة إغداق الوعود بإصلاحات لن تتحقق من جهة، وسياسة قمع مبرمجة للوجوه الرئيسة والقيادات الفعلية على الأرض، أملًا منه في تجنب مصير يكاد يكون محتومًا”، ويضيف المحلل السياسي في حديثه لـ”نون بوست”: “النظام يبدو مقبلاً على رمي آخر ورقة توت تكشف عوراته ومساوئه وقدراته القمعية الحقيقية، وذلك في الموجة المتوقعة المقبلة بعد انتهاء الزيارة الأربعينية وربما خلالها.
مفهوم “الحرية” في العراق مختلف في كل مفاصله، و”حرية الصحافة” تعني هي الأخرى في العراق معنى آخر، يترجمه الواقع العملي المتمثل في قتل الصحفيين وتغييبهم وتهديدهم وتغليفهم بالتّهم التي تكمم أفواههم بالقوة، تحت مسمى أداة طَيِّعة بأيديهم، اسمها “القانون” الذي يدغدغ أهواء واضعيه ويلبي لهم كلّ ما يريدون، وهكذا هو العراق الذي يقبع في المرتبة الـ156 على جدول التصنيف العالمي لحرية الصحافة الذي نشرته “مراسلون بلا حدود” لمؤشر حرية الصحافة لعام 2019، بينما يفتقر إلى قوانين تحمي حقوق الصحفيين وتوفر الحصانة لهم.
العراق اليوم هو الأخطر بكل المقاييس، ويعد أكثر بلدان العالم خطورة على الصحفيين
وتنتقد المنظمة الدولية عدم وجود قانون إطاري للنفاذ إلى المعلومة في العراق وتؤكد أيضًا أن التحقيقات عن الفساد أو الاختلاس خطرة على الصحفيين الذين يتعرضون لتهديدات ومتابعات قضائية.
العراق اليوم هو الأخطر بكل المقاييس، ويعد أكثر بلدان العالم خطورة على الصحفيين، حيث اختطف عدد كبير منهم، وجرت عمليات تصفية واعتقال لكثيرين، وزاد على ذلك انعكاس الفراغ السياسي في البلاد عقب دخول 2003 وانتشار وباء الإرهاب وفوضى السلاح، فوق الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون، التي لم ينجح أحد أو مؤسسة دولية أو جهة رسمية في إيقافها أو حتى الحدّ من أخطارها المتواصلة.