يبدو أن المجتمع الدولي، سيبدأ في ضوء العملية التركية بسوريا، تصحيح مساره السياسي والإنساني في ملف إعادة المقاتلين الأجانب، بعد أن تشوه طويلاً، إذ اتخذ المسؤولون البريطانيون أولى خطواتهم بإعادة أطفال داعش الإنجليز الذين تقطعت بهم السبل في شمال سوريا، ولكن هذه المرحلة ستشمل القُصر دون ذويهم للترحيل إلى المملكة المتحدة.
وتتعاون بريطانيا حاليًّا مع وكالات مختلفة في شمال شرق سوريا، على الأرجح تشرف عليها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، من أجل إتمام هذا الهدف، ومن بين الحالات الأولى التي تم تحديدها ثلاثة أيتام يُعتقد أنهم سافروا إلى سوريا مع والديهم من لندن، قبل خمس سنوات، ويقيمون حاليًّا في الرقة تحت سيطرة أكراد قوات سوريا الديمقراطية .
الشغف البريطاني بإعادة دراسة موقف البلاد من قضية احتواء أعضاء تنظيم داعش البريطانيين، ليس الموقف الأبرز في أوروبا، حيث تدرس بلجيكا وفرنسا وألمانيا، أيضًا كيفية استغلال وقف إطلاق النار لإعادة النساء والأطفال إلى بلادهم
تبحث المملكة المتحدة كيفية نقل الأطفال للعراق وتحديدًا إلى مدينة أربيل، تمهيدًا لنقلهم للمملكة المتحدة، خلال وقف إطلاق النار الذي يستمر لخمسة أيام، وتقدر منظمة إنقاذ الطفولة، وهي واحدة من أبرز الجمعيات الخيرية العاملة في سوريا، أن إجراءات نقل القاصرين البريطانيين من سوريا إلى المملكة المتحدة، ستجري على قدم وساق، استغلالاً للمعابر الحدودية المفتوحة حاليًّا بين سوريا والعراق.
الشغف البريطاني بإعادة دراسة موقف البلاد من قضية احتواء أعضاء تنظيم داعش البريطانيين، ليس الموقف الأبرز في أوروبا، حيث تدرس بلجيكا وفرنسا وألمانيا، أيضًا كيفية استغلال وقف إطلاق النار لإعادة النساء والأطفال إلى بلادهم، على أن تتم محاسبة الكبار أو تقويمهم حسب دور كل واحد منهم في التنظيم وإجرامه المتوحش منذ سنوات.
لماذا غيرت بريطانيا سياساتها تجاه أطفال داعش؟
حتى بداية العملية العسكرية التركية، كانت الحكومة البريطانية ما زالت تدرس كيفية إعادة أطفال داعش البريطانيين إلى وطنهم، ولكن بعد تصاعد الصراع والمواقف الدولية المتباينة، ألمح وزير الخارجية دومينيك راب إلى حسم الموقف، وأشار صراحة إلى نية بلاده إعادة الأيتام البريطانيين والقاصرين غير المصحوبين بعائلاتهم إلى المملكة المتحدة.
حاول وزير الخارجية أن لا يطيل من جرعة الأمل للمجتمع الدولي، وحتى لا تفهم التصريحات على أنها انفراجة في الموقف، وإعادة كل أعضاء التنظيم الإنجليز إلى بلدهم، حدد “راب” الإجراءات التي تراجعت عنها لندن، في هذا الملف، وأكد أن كل حالة تطلب المساعدة، سيتم دراستها جيدًا، بعد توفير ممر آمن لهم للعودة إلى المملكة المتحدة، ولكن هذا لا يعني أن قصة كل عائلة ستكون بالوضوح الكافي للتدخل ونجدتها.
ومنذ ظهور الطفل البريطاني الملقب بـ”أبوعبد الله البريطاني”، في أحد الإصدارات المرئية للتنظيم، على رأس 5 أطفال، وهم بكامل زيهم الحربى، ويطلقون الرصاص على مجموعة من السجناء الأكراد الذين يرتدون بزات برتقالية، في وضع الركوع، والبلدان الأوروبية في حالة هلع من هؤلاء الأطفال وذويهم، وترفض استلامهم أو إحداث أي تقدم في هذا الملف.
وأبو عبد لله، على الأغلب هو ابن المغنية السابقة سالي جونز، 47 عامًا، التي انضمت لتنظيم “داعش” وهربت إلى سوريا عام 2014، وعرفت باسم “سيدة الإرهاب”، وأطلقت على نفسها اسم أم حسين، وسافرت مع ولدها الصغير الذي وضعته عام 2004، وكان يدعى جوجو، وإن كان البعض ما زال يتشكك أنه الطفل الذي ظهر في ذلك المقطع.
سر رفض عودة الدواعش الإنجليز
الإشكالية التي تحكم المجتمع البريطاني منذ سنوات، أن الدواعش الإنجليز لم يكتفوا فقط بتهديد المجتمعات العربية والإسلامية في مناطق الصراع، ولكن امتد إرهابهم للداخل، وكان بعضهم مسؤولاً عن عمليات إرهاب دموية جرت داخل أوروبا، وما يؤكد ذلك أن “جونز” كانت تنشر قوائم بالمُستهدفين البريطانيين، مع توعدها بقطع رؤوسهم، والتهديد بتفجير خطوط مترو الأنفاق في بريطانيا وتفجير نفسها.
الرعب الذي نشرته سالي بعد أن أصبحت أخطر الناشطات الداعشيات بالتنظيم على الإنترنت، وقصة زواجها من عضو التنظيم جنيد حسين، 20 عامًا، وهو بريطاني أيضًا، وكان العقل الإلكتروني المدبر لتنظيم الدولة الاسلامية، الذي قتل في غارة أمريكية بطائرة دون طيار قرب مدينة الرقة في سوريا أغسطس 2015، كان ينسج الكثير من الأساطير عن خطورة عودة مثل هذه العائلات إلى الداخل مرة أخرى، وهي تحمل كل هذا الأرشيف من الدماء والقتل والأفكار الجاهزة للانطلاق مرة أخرى، فقط إذا وجدت الفراغ المناسب لذلك.
لكن بمرور الوقت وتصاعد الخوف الدولي من ترك هذا الملف، تحكمه الانتهازية السياسية من أطراف عدة في المشهد الدولي، بجانب الضغط المكثف من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أدمن تعرية أخلاقية أوروبا بتهديداته بإطلاق سراح عناصر داعش الأجنبية المعتقلين في سوريا، إن لم تستعدهم دولهم مرة أخرى، دفع الجمعيات الحقوقية الأوروبية، والمجتمع المدني، للمطالبة بالاضطلاع بالمسؤولية القانونية إزاء تلك العناصر المنتمية إلى الغرب.
أصبح الأوروبيون على يقين من أن بقاء هذا الملف ضمن أدوات الضغط الأمريكية على أوروبا سواء للانصياع للعقوبات المفروضة على إيران، أم إبقاءها ضمن جملة الأدوات الأخرى التي أصبحت تستخدمها واشنطن بحرفية لتبني أفكارها في شتى الملفات الدولية، قد يعني عودة التنظيم من جديد إلى غزواته بالداخل والخارج.
وهو الأمر الذي دفع وزيرة الدفاع البريطانية بيني موردونت إلى إعادة فتح الملف قبل أشهر، وتأكيدها أن بلادها ملزمة باستعادة الأطفال البريطانيين الأبرياء المولودين لمقاتلي تنظيم داعش، وحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تكتظ مخيمات اللاجئين في شمال شرق سوريا، بنحو 76000 امرأة وطفل، يعيشون في مخيم الهول للاجئين في سوريا، الكثير منهم يعتقد أنهم من أصل أوروبي.
الوزيرة البريطانية التي كانت تتحدث في مؤتمرٍ عسكري بمدينة وستمنستر، استعطفت الرأي العام البريطاني واعتبرت أنه سيوافق مقدمًا، على التزام سلطات المملكة الأخلاقي، تجاه الأبرياء من أطفال التنظيم، وحتى لا تتخلف إنجلترا عن جيرانها في هذه الملف، خاصة إذا علمنا أن فرنسا وألمانيا بدأتا بالفعل استرجاع الأطفال المحاصرين في سوريا.
المقاتلون لا.. لماذا؟
يمكن القول إن الإشارات التي قدمتها موردونت لحشد الرأي العام للقضية، يعيد فتح الملف مرة أخرى، بعدما كانت تتهرب أوروبا طويلاً من بحث واحدة من أعقد القضايا التي يواجهها المجتمع الغربي على مدار تاريخه الحديث، وهو ما يكشف لماذا يولى مجلس الأمن القومي في المملكة المتحدة، كيفية التعامل مع عائلات داعش البريطانيين وأطفالهم، حال عودتهم، الأهمية القصوى على أجندة أعماله في الوقت الحاليّ.
اللعب بهذا الملف من جديد قد يؤدي إلى كارثة على العراق بشكل خاص
وفي الوقت الذي يبدي مجلس الأمن القومي، مرونة مع النساء والأطفال، ما زال يرفض وبشدة إعادة المقاتلين الرجال، حتى ولو على سبيل المحاكمة، رغم تعقد الموقف وتكثيف الضغوط الدولية، على الغرب وخاصة من العراق الذي تعيش مؤسساته الأمنية حالة من القلق بسب الخوف من إطلاق سراح هؤلاء الدواعش.
اللعب بهذا الملف من جديد قد يؤدي إلى كارثة على العراق بشكل خاص، على حد وصف المحلل السياسي العراقي وسام صبّاح، فعدم استعادة المعتقلين الدواعش الذين ينتمون إليها من أجل محاكمتهم ووضعهم تحت المراقبة والمساهمة في دحر التنظيم بصورة نهائية بحسب رأيه، يعني أن العراق قد يدفع بصورة خاصة ضريبة التخاذل الأوروبي، كما حدث في وقت سابق عند تدفق العناصر الداعشية على بلاد النهرين، حتى حدث ما حدث، ودفع المجتمع العراقي ضريبة الدم عن العالم بأكمله طوال سنوات هي الأكثر رعبًا على مدار تاريخه.