ترجمة وتحرير: نون بوست
ظهر مصطلح الذكاء الاصطناعي لأول مرة منذ سنة 1956. ويدرك العاملون في هذه الصناعة أنه بينما شهدت تقنية الذكاء الاصطناعي دعاية واسعة النطاق في البداية، تسببت لاحقا في ظهور خيبة أمل. وداخل هذا القطاع، تُعرف فترة تراجع الاهتمام بهذه التكنولوجيا بأنها “شتاء الذكاء الاصطناعي” الذي سبق وأن حدث مرتين قبل الآن.
فضلا عن ذلك، يمثّل فصل الشتاء بالنسبة للذكاء الاصطناعي المرحلة التي يعرف فيها البحث والاستثمار والتمويل في هذا المجال تراجعا. وفي الحقيقة، يصعب الحصول على تمويل للبحوث أو غيرها من المشاريع التي تتمحور حول الذكاء والمواهب الاصطناعية، ما يدفع الشركات إلى تركيز جهودها في قطاعات أخرى.
في الوقت الراهن، تثير تقنية الذكاء الاصطناعي جدلًا واسعًا، وهو ما يدفع إلى التساؤل ما إذا كانت هذه التكنولوجيا ستحافظ على استمراريتها أم أنها ستشهد تدهورًا بعد بلوغها الذروة كما حدث سابقًا؟ للإجابة على هذا السؤال، ينبغي الاطلاع على بدايات الذكاء الاصطناعي وماضيه. فهل يخيّم شتاء آخر على مجال الذكاء الاصطناعي؟
الموجة الأولى من تطبيق الذكاء الاصطناعي وفصل الشتاء الأول الذي عرفته هذه التقنية
منذ اختراع أجهزة الحاسوب، يعمل المطوّرون على اختراع أجهزة تتميز بذكاء أكبر. وظهر مصطلح الذكاء الاصطناعي بالفعل في سنة 1956 خلال مؤتمر دارتموث. وفي الفترة الممتدة من مطلع الخمسينيات حتى أوائل السبعينيات، برزت الموجة الرئيسية الأولى من الاهتمام والاستثمار في الذكاء الاصطناعي. كما أبدت المصادر الحكومية والأكاديمية والعسكرية الكثير من الاهتمام بهذه الصناعة وشاركت في التمويل، لتنتج بذلك البعض من أحدث التطورات وأكثرها إثارة للإعجاب في الذكاء الاصطناعي.
يعود هذا التراجع إلى سببين رئيسيين، حيث يتمثّل الأول في الخطط الكبيرة التي وضعها الأفراد حول ما يمكن لهذه التقنية تحقيقه والمشاكل التي ستحلها، إلا أنها فشلت في ذلك. ويكمن السبب الثاني في معاناة هذا المجال من نقص في مصادر التمويل
لكن بحلول منتصف السبعينيات، توقف هذا التقدم والتطوير حيث بدأت تظهر الشكوك حول قدرة الذكاء الاصطناعي على تحقيق الوعود التي قطعها تراود العديد من الأشخاص، وهو ما تأكد عندما فشلت هذه التكنولوجيا في الوفاء بوعودها، كما عجّل تقرير “لايتهيل” في حلول الشتاء الأول للذكاء الاصطناعي.
يعود هذا التراجع إلى سببين رئيسيين، حيث يتمثّل الأول في الخطط الكبيرة التي وضعها الأفراد حول ما يمكن لهذه التقنية تحقيقه والمشاكل التي ستحلها، إلا أنها فشلت في ذلك. ويكمن السبب الثاني في معاناة هذا المجال من نقص في مصادر التمويل، لذلك حين قرر كل من الحكومة والجيش سحب استثماراتهما في الذكاء الاصطناعي، انقطعت معظم مصادر التمويل الأخرى.
الموجة الثانية من تطبيق الذكاء الاصطناعي وفصل الشتاء الثاني الذي عرفته هذه التقنية
تَجدّد الاهتمام بالبحوث التي تعنى بالذكاء الاصطناعي في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي مع تطوير النظم الخبيرة والبحث المتجدد والاستثمار في الذكاء الاصطناعي. وقد شرعت الشركات في الاستثمار على نطاق واسع في الحواسيب المكتبية الخاصة بالعاملين في مجال المعرفة، واستعانت بالنظم الخبيرة من أجل توصيل الطاقة الناشئة بهذه الأجهزة والخوادم الرخيصة للقيام بالعمل الذي جرى إسناده مسبقًا للحواسيب المركزية باهظة الثمن.
في سياق متصل، ساعدت النظم الخبيرة في أتمتة وتبسيط عملية اتخاذ القرار في العديد من الصناعات. وظهرت هذه الموجة من التمويل من قبل الشركات والحكومة، ما فتح المجال أمام المزيد من التنوع في التمويل.
في الوقت الذي اكتسبت فيه النظم الخبيرة زخما لاسيما بعد أن عمل الأشخاص على توظيفها في أشياء أكثر تعقيدًا، ازدادت المشكلات التي واجهها أنصار الذكاء الاصطناعي. كما اعتمدت النظم الخبيرة بشكل كبير على البيانات، وكان التخزين لا زال مكلفًا في الثمانينيات. وفي الواقع، كانت مسألتي التخزين والبيانات مجموعة بسيطة من المشكلات التي واجهتها النظم الخبيرة مقارنة بالمشاكل التكنولوجية الأخرى.
تؤدي هذه القيود إلى جانب تقلّص الاهتمام بالذكاء الاصطناعي إلى ظهور فصل شتاء آخر لهذه التقنية
علاوة على ذلك، تحتاج الشركات إلى تطوير بياناتها وعمليات اتخاذ القرار الخاصة بها، لكنها واجهت قيودًا بشأن ما يمكنها فعله حقًا باستخدام هذه البيانات. وفي ثمانينيات القرن الماضي، لم تكن خدمة التخزين السحابي للبيانات القائمة على الإنترنت متوفرة كما هو الحال اليوم، كما كان من الصعب نقل كميات كبيرة من البيانات من منطقة إلى أخرى. علاوة على ذلك، يعكس هذا الأمر عجز الأنظمة الخبيرة على التواصل مع أنظمة موجودة خارج الشركة التي تملكها وعدم توفر البيانات التي تحتاجها لمزيد التطوير.
في شأن ذي صلة، تؤدي هذه القيود إلى جانب تقلّص الاهتمام بالذكاء الاصطناعي إلى ظهور فصل شتاء آخر لهذه التقنية. وبالتزامن مع النظم الخبيرة، شرعت الشركات أيضًا في تطوير برامج الحاسوب لإنجاز مختلف المهام المتعلقة بالأعمال التجارية. تُعرف النظم الخبيرة بأنها تعاني من الهشاشة لاعتمادها على مدخلات محددة للحصول على المخرجات المطلوبة. وأصبحت الشركات تتعامل بحذر مع مشاريع الذكاء الاصطناعي حين اكتشفت وجود بدائل أقل تكلفة وذات أداء جيد بما يكفي لتحقيق ما ترغب في تحقيقه.
الذكاء الاصطناعي يزدهر مجددا، ولكن لكم من الوقت؟
منذ حوالي عقد من الزمن، عرفنا فترة ازدهار حقيقي من الاهتمام بالذكاء الاصطناعي والاستثمار فيه، وإن صح التعبير شهدنا ما يسمى “بصيف” الذكاء الاصطناعي. ويعد الابتكار في خوارزميات الذكاء الاصطناعي مع توفر كم هائل من البيانات والخبرة في التعامل معها من أهم الأسباب التي جعلت الذكاء الاصطناعي قادرًا على التقدّم.
في الوقت الراهن، نتمتع بقدرة غير محدودة تقريبًا على التخزين تسمح لنا بإدارة ومعالجة كميات كبيرة من البيانات بنجاح. ويمثل تطور التعلم العميق سببا آخر ساعدنا على الخروج من فصل شتاء الذكاء الاصطناعي، كما أصبحت مصادر الاستثمار الآن متنوعة للغاية بما في ذلك الشركات والحكومات والأكاديميين ورأس المال الاستثماري.
من جانبها، أقرت عشرات الدول بأن الذكاء الاصطناعي سيكون شديد الأهمية بالنسبة لمواطنيها ونمو اقتصاداتها نظرا لوجود استثمارات واستراتيجيات تقوم على الذكاء الاصطناعي. فضلا عن ذلك، أضحى الذكاء الاصطناعي جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية حيث يُستخدم في جميع أنحاء العالم لإنجاز عدد هائل من المهام. ويُوظّف الذكاء الاصطناعي في السيارات والهواتف والروبوتات المتقدمة وغيرها من التقنيات التي نستخدمها كل يوم.
من المحتمل أن تزيد إمكانية ظهور فصل شتاء آخر في حال تكررت الظروف السابقة على غرار المبالغة في قطع وعود يصعب الوفاء بها.
نحن نتفاعل بشكل يومي مع الذكاء الاصطناعي سواء كان ذلك من خلال المساعدين الافتراضيين أو اقتراحات حول أفضل الأفلام على نتفليكس. وعموما، يتواجد الذكاء الاصطناعي الآن في العديد من الأجهزة التكنولوجية التي نستخدمها يوميا إلى درجة تجعلنا ننسى أنها موجودة، وفي بعض الأحيان تكون البرامج التي تعمل من خلالها الروبوتات جيدة جدًا لدرجة تجعلنا ننسى أنها ليست بشرًا. نحن نستخدم الذكاء الاصطناعي لركن سياراتنا وأكثر من ذلك بكثير.
مع ذلك، مع وجود هذا القدر من الاستثمار والاهتمام والتمويل في الذكاء الاصطناعي، هل نتجه نحو فصل شتاء آخر لهذه التقنية؟ هل نبالغ ثانية في تقديرنا لما يمكن للذكاء الاصطناعي تحقيقه؟ هل سنشعر بخيبة أمل إزاء القيود المفروضة على المركبات ذاتية القيادة، ومعالجة اللغة الطبيعية والتحليلات التنبؤية التي تعمل بالطاقة القائمة على الذكاء الاصطناعي؟ وهل سيواصل المستثمرون في تلقي المزيد من الوعود الزائفة من قبل أنصار الذكاء الاصطناعي بدلا من التطبيقات التي تظهر نتائجها على أرض الواقع؟
في حين أن الذكاء الاصطناعي سيخيب آمال الكثيرين، إلا أننا نأمل أن فصل الشتاء لن يحل على هذا المجال هذه المرة. ومن المحتمل أن تزيد إمكانية ظهور فصل شتاء آخر في حال تكررت الظروف السابقة على غرار المبالغة في قطع وعود يصعب الوفاء بها.
من جهتهم، يشعر بعض الخبراء بالقلق إزاء الافتقار إلى البحوث حول الذكاء العام الاصطناعي، كما أننا لم نتوصل بعد إلى إدراك المعنى الحقيقي للتفكير المنطقي، وأن العديد من الأبحاث الممولة ذات تطبيقات محدودة. ويُوظّف الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية في البحث والاستثمار اللذان من شأنهما أن يشهدا تباطئا بسبب الموجات الحتمية التي تطرأ على مجال التكنولوجيا، بالتالي نأمل في ألا يؤدي هذا الأمر إلى ركود تام على مستوى تقنية الذكاء الاصطناعي.
المصدر: فوربس