“كانت الرياح السحرية تعصف بأرض القلعة، والسماء ملبدة بغيوم عظيمة مليئة بالدماء، بينما هاري بوتر يسير باتجاه تلك القلعة، والصوت الوحيد الذي يسمعه هو صوت زقزقة الأثاث المهترئ القادمة من كوخ هاجريد”.
ربما أثارت هذه الأسطر بعض الاستغراب والتساؤل عن سبب وجودها في موضوع يناقش دور الذكاء الاصطناعي في عالم الفن، لكن هذا الاستغراب يزول وتَحِلُّ الدهشة مكانه إذا علمنا أن هذه الكلمات مقطع من فصل كامل في الجزء السابع ضمن سلسلة “هاري بوتر” ألفته “الحواسيب” كاملاً!
منذ إطلاق مصطلح “الذكاء الاصطناعي” في ستينيات القرن المنصرم وإلى يومنا هذا، لم يتبق مجال من مجالات الحياة إلا وغزاه هذا العِلم وساهم بتطويره، وكان للفن نصيب من هذا التطوير.
وفي السنوات القليلة الماضية شهدنا ظهور العشرات من “فناني الذكاء الاصطناعي”، حيث قادت الخوارزميات التي ابتكروها إلى خلق أعمال فنية فريدة في مجالات شتى من الشعر والرسم والموسيقى وكتابة القصص، الأمر الذي دفع البعض للتساؤل عن طبيعة هذا الفن ودوره في مجتمعات المستقبل.
ما الفن؟ وهل يمكن فعلاً للآلات تقليده؟
الفن عبارة عن مجموعة متنوعة من الأنشطة البشرية تنشئ أعمالاً بصريةً أو سمعيةً أو أدائية (حركية)، للتعبير عن أفكار المؤلف الإبداعية أو المفاهيمية أو المهارة الفنية، والمقصود أن يكون موضع تقدير لجمالها أو قوتها العاطفية.
تكمن الصعوبة الآن في تفاوت الأذواق والأحاسيس البشرية بين الجيل نفسه وبين الأجيال المختلفة، فما يراه المبرمج جميلاً قد يراه المستخدم قبيحًا، لكن على العموم يوجد إجماع بين فئة كبيرة من المختصين على معايير محددة يمكن جعلها نقطة بداية للانطلاق
فكرة رقمنة الفن وتمكين الحواسيب من أداء هذه المهام هي فكرة قديمة ظهرت منذ سبعينيات القرن السابق، إذ حاول المبرمجون دفع الحواسيب لإنتاج نوتات موسيقية ثابتة تستخدم للإنتاج السينمائي.
لكن السؤال الأهم: هل تستطيع تلك الآلات مجاراة البشر في إبداعهم؟ الجواب نعم، إذا كان هناك مفهوم واضح ومحدد لمعايير الجمال، فمن الممكن تطوير خوارزمية قادرة على مجاراة الإبداع البشري، لكن تكمن الصعوبة الآن في تفاوت الأذواق والأحاسيس البشرية بين الجيل نفسه وبين الأجيال المختلفة، فما يراه المبرمج جميلاً قد يراه المستخدم قبيحًا، لكن على العموم يوجد إجماع بين فئة كبيرة من المختصين على معايير محددة يمكن جعلها نقطة بداية للانطلاق.
كيف تنتج الحواسيب أعمالاً فنيةً؟
لأجل إنشاء أي محتوى فني ينشئ المبرمجون خوارزميات خاصة لهذا الفن، هذه الخوارزميات لا تتبع مجموعة من القواعد الثابتة، بدلاً من ذلك تُبرمج لتتعلم هي بنفسها معايير الجمال والإبداع الموجودة في الأعمال الفنية البشرية.
الخوارزمية متكونة من جزئين: الأول يقوم بتوليف مقطع فني على ضوء ما تعلّمه من البيانات المحملة مسبقًا، والثاني يقارن ذلك المقطع بمعايير الجمال التي تعلمها ويجري تعديلات
يضخ المبرمجون كميات كبيرة من البيانات إلى معالجات الحواسيب، تضم الآلاف من الصور أو المقاطع الشعرية أو المقطوعات الموسيقية، ثم يطلب من الخوارزمية تأليف مقطع موسيقي جديد أو رسم صورة جديدة، الخوارزمية الخاصة بهذا الغرض تدعى “generative adversarial network” المعروفة اختصارًا “GANs”، وقدمها لأول مرة عام 2014 عالم الكمبيوتر إيان جودفيلو.
تتكوّن الخوارزمية من جزئين: الأول يقوم بتوليف مقطع فني على ضوء ما تعلّمه من البيانات المحملة مسبقًا، والثاني يقارن ذلك المقطع بمعايير الجمال التي تعلّمها ويجري تعديلات.
المجالات التي دخلها الذكاء الاصطناعي في الفن
المجالات التي دخلها الذكاء الاصطناعي في عالم الفن كثيرة منها:
1- الموسيقى
تمكن الباحثون من استخدام الذكاء الاصطناعي لإنتاج مقاطع موسيقية خالية من حقوق الملكية تستخدم في إنتاج المؤثرات الصوتية المستخدمة في مقاطع الفيديو.
1. “داديس” من إنتاج شركة سوني وهو مسار موسيقي غريب إلى حدٍ ما ومثير للاهتمام، أنشأ البرنامج معزوفات بعد أن دُرب على 13000 أغنية.
2. مشروع “Google Magenta” من جوجل يستخدم خوارزميات التعلم العميق لإنشاء الأغاني والصور والرسومات، يمكن أن يساعد هذا البرنامج الموسيقيين على إنتاج ما يتطلع إليه الجمهور من ألحان.
3. نظام AIVA: عبارة عن منظمة صوتية تنشئ موسيقى تصويرية للأفلام والإعلانات التجارية والألعاب.
تغطي أعماله الإبداعية مجموعة واسعة من المشاعر والحالات المزاجية، لا يمكن تمييز الدرجات التي يولدها عن تلك التي أنشأها الملحنين البشر الأكثر موهبة.
حاليًا، يتم الترويج للمنصة كفرصة للمخرجين والمنتجين، ولكن في المستقبل، ربما يكون لكل فرد موسيقى مخصصة له تُنشأ بناءً على اهتماماته وذوقه ومزاجه.
4. طوّرت مجموعة من المهندسين والموسيقيين في نيويورك برنامجًا قائمًا على الذكاء الاصطناعي يضع اللحن المناسب للأغاني تلقائيًا. يعتمد البرنامج على مخزون ضخم من البيانات والألحان للأغاني السابقة، يستخدمها البرنامج لإنتاج لحن مناسب للأغنية اعتمادًا على كلماتها ومعانيها.
“Amper” إحدى الشركات الناشئة في مجال موسيقى الذكاء الاصطناعي، تأسست عام 2014 بنيويورك، وهي جزء من نحو عشر شركات ناشئة تستخدم الذكاء الاصطناعي لكسر الطريقة التقليدية في صنع الموسيقى، وقال مؤسس الشركة درو سيلفرشتاين: “الهدف ليس استبدال الملحنين البشر، بل العمل معهم للوصول إلى هدفهم”.
2- الأدب والشعر
1. تمكن الباحثون من برمجة خوارزميات بإمكانها تأليف أبيات من الشعر وفق الحالة المزاجية أو المعطيات المطلوبة، بعد أن دُربت الخوارزمية على 20 مليون كلمة من شعر القرن التاسع عشر.
2. كتابة القصص كما مر سابقًا في المقدمة، حيث تمكنت منصة “Botnik Studios” التي يرأسها الكاتب الشهير “جيمي برو” من تطوير خوارزمية تمكنت من كتابة فصل كامل مكون من 3 أوراق ضمن سلسلة هاري بوتر.
3. مشروع PoemPortraits: وهو مشروع من تصميم جوجل مخصص لكتابة الشعر والقصص، لا ينسخ المشروع أو يعيد صياغة العبارات الموجودة في قصص أخرى، ولكن يستخدم مواد تدريبية لبناء نموذج إحصائي معقد، ونتيجة لذلك، تولد الخوارزمية عبارات أصلية تحاكي أسلوب ما تم تدريبه عليه.
3- الرسم
1. روبوت Ai.Da
هو أول فنان روبوت للرسم الواقعي، قدراته الميكانيكية، بالإضافة إلى الخوارزميات المستندة إلى الذكاء الاصطناعي، تسمح له بالرسم والطلاء والنحت.
2. نظام AICAN
خوارزميات ترسم لوحات فنية غريبة ومدهشة من تصميم مؤسسة أحمد الجمال، هو مؤسس ومدير مختبر الفن والذكاء الاصطناعي بجامعة روتجرز، تم تدريب الخوارزمية على 100000 صورة للفن الغربي لأكثر من خمسة قرون ماضية، مما يسمح له بتعلم جماليات الفن عن طريق التعلم الآلي.
3- مشروع DeepDream
وهو مشروع ضخم من إنتاج جوجل أطلقته الشركة عام 2015، يستخدم شبكات عصبية خاصة، فيحدد مناطق الجمال في اللوحات عبر متابعة تركيز المستخدمين على الصور ومن ثم يكون فكرة عامة عن ميول المستخدمين ويرسم صورًا على هذا النحو.
4. صورة إدموند بيلامي
وهي أول صورة من رسم الذكاء الاصطناعي تباع في المزاد العلني بمبلغ 432000$، أُنتجت عبر خوارزميات من تصميم فريق فرنسي.
4- الرقص
صمم “واين مكجريجور” بالتعاون مع Google Arts & Culture نظامًا يعمل بالذكاء الاصطناعي يمكنه التنبؤ بحركات الرقص، يقول داميان هنري مدير البرنامج: “نظام الذكاء الاصطناعي لن يخترع الحركات التي لم يتم رؤيتها من قبل، لكنه سيتنبأ بما سيحدث من الأنماط السابقة التي تعلمتها الأداة”.
الخاتمة
لقد استخدمنا دائمًا ابتكاراتنا التكنولوجية لتجاوز حدودنا البيولوجية، فنحن نستخدم التلسكوب لتوسيع نطاق رؤيتنا والطائرات للطيران والهواتف الذكية للتواصل مع الآخرين، وأجهزتنا لا تعمل دائمًا ضدنا، بل تعمل امتدادًا لعقولنا، وبالمثل، يمكننا استخدام أجهزتنا للتوسع في إبداعنا ودفع حدود الفن.
هذه الأعمال الفنية مجرد لمحة عن نطاق الأعمال الإبداعية التي تولدها الخوارزميات والآلات، الكثير منا سيخاف بحق هذه التطورات
توضح بعض هذه الأعمال أن فناني الذكاء الاصطناعى قد لا يمثلون بالضرورة تهديدًا للفنانين البشر، بل فرصة لنا لدفع حدودنا الإبداعية، فهذه الأعمال الفنية مجرد لمحة عن نطاق الأعمال الإبداعية التي تولدها الخوارزميات والآلات، الكثير منا سيخاف من هذه التطورات، وعلينا أن نسأل أنفسنا عن دورنا في عصر تكون فيه الآلات قادرة على أداء ما نعتبره مهامًا معقدة ومجردة وإبداعية؟