لأسباب عديدة، ما تزال حركة الترجمة بطيئة في الوطن العربي، ويرى متابعون كثر أن الترجمة تعتبر جهدًا ذاتيًا في أغلب حالات المترجمين العرب، وفي هذه المادة نحاول التعريف بجهد واحدة من أنشط المترجمات الأدبيات في المنطقة، وهي “يارا المصري” التي فازت مؤخرًا بجائزة الصين الخاصة، وهي جائزة سنوية أطلقتها إدارة الدولة للصحافة في الصين لتكريم كل من يساهم في نقل الثقافة الصينية من المترجمين والناشرين الأجانب، فازت يارا في مجال الترجمة لنقلها عدة أعمال من اللغة الصينية إلى اللغة العربية لتصبح أصغر من يحصل على الجائزة.
يُمثّل ما قدمته المصري إنجازًا لشابة تبلغ من العمر 31 عامًا فقط! وجائزة الصين الخاصة ليست الأولى لها
تخرجت يارا المصري في كلية الألسن وجامعة شاندونج للمعلمين في مدينة جينان بالصين، ترجمت 9 أعمال كاملة من اللغة الصينية إلى اللغة العربية من عدة ألوان أدبية مثل الرواية والقصص القصيرة والشعر، بالإضافة إلى مشاركتها في العديد من المجلات الثقافية والصحف، وموقعها الشخصي المليء بترجمات القصائد والقصص القصيرة.
يُمثّل ما قدمته المصري إنجازًا لشابة تبلغ من العمر 31 عامًا فقط! وجائزة الصين الخاصة ليست الأولى لها، إذ حصلت على المركز الأول في مسابقة جريدة أخبار الأدب للشباب في الترجمة 2016، عن ترجمتها لرواية “الذواقة” للكاتب الصيني لو وين فو.
من أعمالها التسع المنشورة أظهرت اهتمامًا خاصًا بالأديب “سوتونغ”، حيث ترجمت له ثلاثة كتب، تضم روايات قصيرة (نوفيلات) وقصص أخرى، وسوتونغ هو كاتب صيني ينتمي إلى الفترة الجديدة من الأدب الصيني التي ظهرت عام 1976 أي بعد الإطاحة بعصابة الأربعة، بدأ الكتابة عام 1983 وحاليًّا هو متفرغ لها بشكل كامل، كتب سوتونغ عددًا كبيرًا من الروايات والقصص القصيرة وفاز بجائزة البوكر الآسيوية وترشح عام 2015 لجازة المان بوكر الدولية للأعمال المترجمة للإنجليزية.
وفي هذه المادة، نلقي الضوء على ثلاث من كتب الأديب الصيني سوتونغ، والتي نقلتها إلى العربية المترجمة يارا المصري.
الفرار في عام 1934
الفرار هي رواية قصيرة (نوفيلا) تسرد تاريخ أسرة صينية والتغيرات التي تتعرض لها في عام واحد، من المفترض أن يكون المعني المباشر هو فرار الأسرة من القرية إلى الحضر ولكن القصة تضمنت معانٍ أخرى.
تحكي القصة عن أسرة صينية كبيرة، حيث الأم حامل في مولودها السابع ويعانون الفقر والتعب كحال باقي الفلاحين، يصف الكاتب العلاقة بين الأب والأم في هذا المتجمع الذي لا يعطي فرصة للتنفس بسبب إيقاع الحياة السريع وهل هذا مبرر ليصبح الإنسان قاسيًا لا يعمل إلا لمصلحته.
عام 1934 هو عام الفرار من الفقر، حيث يكتشف المزارعون أن العمل في البامبو يجلب الثراء سريعًا ولكن هذا على حساب أخلاقيات أخرى كثيرة.
“- أمي، أريد أن أذهب إلى المدينة وأصبح حرفيّ بامبو.
– لا تستطيع، إنك لا تزال في الخامسة عشر من عمرك ولا يمكنك أن تحمل منجل البامبو الكبير، كما أنك لم تتزوج وتنجب أطفالًا، فكيف يمكنك أن تذهب إلى المدينة؟ عندما يذهب الناس الطيبون إلى هذا المكان اللعين يصبحون أشرارًا حاقدين…”.
الرواية أقرب إلى التأريخ من السرد المنظم ذي التفاصيل الطويلة، حيث اعتمد الكاتب على طرح الأحداث المؤثرة فقط في حياة العائلة التي كادت أن تمثل قصصًا كثيرةً ومتفرقةً من حياتهم في هذا العام.
حياة أخرى للنساء
هي مجموعة قصصية تضم بعض الأعمال وإن كانت جميعها في نطاق واحد وهو المرأة الصينية العاملة في أسوأ الظروف.
القصة الأولى “مصنع تعليب اللحوم” يحاول الكاتب نقل معاناة أن يضطر الإنسان للهزيمة والانسحاب ليعمل في أسوأ ظروف ممكنة، البطل هو شاب يعمل في مصنع للحوم وفي بدايات عمله يضطر للتعامل مع الرائحة البشعة والمعاملة غير الآدمية والتخلي عن عدة أشياء أخرى ليقدر على العمل في هذا المصنع، بالإضافة إلى عاملات المصنع ذوات السمعة السيئة وتصرفاتهن التي لا يستطيع البطل فهمها أو التكيف معاها.
أما القصة التي تحمل عنوان الكتاب (حياة أخرى للنساء) تسرد مقتطفات عن حياة ثلاث نساء عاملات في محل للمخلل والصلصة، ثلاث نساء غير متزوجات ولا يملكن قصصًا ملحمية مثيرة لما قد يكتب عنهن إذًا؟ لأن براعة الكاتب أن يحول الحياة الروتينية التي لا تهمنا إلى قصة ذات تفاصيل وأبعاد إنسانية ويجعلنا نرى ما فاتنا من تفاصيل صغيرة في حياة من نراهم يوميًا.
زوجات ومحظيات
رواية قصيرة رائعة أخرى تسرد حقبة مهمة للغاية في التاريخ الصيني والنمط الاجتماعي المتبع في تكوين الأسر والزواج.
تسرد الرواية حكاية عدة نساء مختلفات في المراتب الاجتماعية تبعًا لكونهن إما زوجات شرعيات أو محظيات لدى صاحب البيت، تشتعل الغيرة بشكل دائم داخل البيت بسبب التنافس على المكانة بعد وصول المحظية الثالثة التي يجبر السيد الجميع على منادتها بالزوجة الرابعة.
هناك تعليق مشهور على هذه الرواية بأنها “قصة رجل دمر حياة عدة نساء”، عند سرد التاريخ الصيني دائمًا ما نمر مرور الكرام على الزوجة أو المحظية رغم تكرار الفكرة في الأدب الصيني وأيضًا الياباني ولم نسأل تحت أي ظروف تقبل الزوجة والمحظية بهذه الأوضاع السيئة التي تنقص من كرامتها، يجيب سوتونغ عن هذا الأسئلة بسرد أوضاع المحظيات المجبورات أو الهاربات من مصير أسوأ من كونهن محظيات، وكذلك الزوجة تخضع لعامل ضغط الأسرة في المجتمع الصيني، رغم قصر حجم العمل، فإنه تُرجم ببراعة شديدة وخفة ليستطيع القارئ الاندماج معه بشكل كبير.
أخيرًا، اُنتقدت حركة الترجمة بشكل كبير مؤخرًا، فالحائزان الأخيران على نوبل لم تحظ كتاباتهما بترجمة إلى لغات أخرى بالقدر الذي يستحقانه، ففي حين أن “بيتر هاندكه” الفائز بنوبل للآداب لعام 2019 ترجمت له بعض الروايات القصيرة ولكن غير مشهورة، فإنّ “أولغا توكارتشوك” الفائزة لعام 2018 لم يصدر لها أي عمل مترجم حتى الآن.