تتجه الجزائر، بعد رفض طويل نتيجة تجربة مريرة، إلى فتح المجال للاستدانة مجددًا من الخارج، وذلك لمواجهة الأزمة المالية التي تشهدها البلاد منذ صيف 2014، غير أن هذا التوجه الحكومي أثار مخاوف الجزائريين بشأن السيادة الوطنية لبلادهم، ولهم في العديد من الدول مثال على ذلك.
صعوبات مالية
هذه القروض الأجنبية ستكون موجهة حصريًا، وفق الحكومة، لتمويل المشاريع الاقتصادية الإستراتيجية المهمة في البلاد، حيث أشارت الحكومة إلى “إمكانية اللجوء بطريقة انتقائية إلى التمويل الخارجي لدى المؤسسات المالية العالمية للتنمية، لتمويل المشاريع الاقتصادية الهيكلية وذات المردودية بمبالغ وآجال تتوافق مع مردودية هذه المشاريع وقدرتها على التسديد”.
هذا التوجه نحو القروض الخارجية جاء لسد العجز في الموازنة العامة لسنة 2020، في ظل التراجع الكبير الذي يعرفه اقتصاد البلاد في الفترة الأخيرة نتيجة أسباب عدة على رأسها انهيار أسعار النفط والصعوبات الكبيرة التي تشهدها المؤسسات العمومية.
ويؤكد لجوء الجزائر للاستدانة الخارجية، صعوبة الوضع الذي وصلت له البلاد، حيث رجحت تقارير اقتصادية عالمية أن تكون سنة 2020 سنة صعبة على الجزائر، في هذا الشأن، حذرت مؤسسة الاستثمارات الاقتصادية العالمية “فيتش سوليشن” من تدهور الاقتصاد الجزائري، حيث خفضت المؤسسة في تقرير نشرته عن الجزائر مؤخرًا، توقعاتها لنموها الاقتصادي خلال 2019 إلى 1.7% مقارنة بتقديرات سابقة بلغت 2.5%.
يخشى الجزائريون من الانعكاسات السلبية الكبيرة لهذه الشروط القاسية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد
كما خفضت توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي الجزائري خلال سنة 2020 من 2.3% إلى 2%، مرجعة ذلك إلى استمرار مخاطر الاضطرابات الداخلية منذ انطلاق الحراك الشعبي، وأضافت المؤسسة في التقرير أن هذه المخاطر مرشحة للاستمرار على المدى المتوسط رغم كل المحاولات لإيجاد حلول في البلاد، وتوقعت هذه المؤسسة الاقتصادية أن تقتصر مداخيل الجزائر من النفط هذه السنة على 38.5 مليار دولار.
سبق أن أظهرت بيانات حكومية ارتفاع العجز التجاري للبلاد بنحو 340 مليون دولار 12% إلى 3.18 مليار دولار في النصف الأول من العام الحاليّ، مقابل 2.84 مليار دولار في الفترة المقابلة من العام الماضي.
إلى جانب ذلك، سجلت احتياطات صرف الجزائر – الدولة العضو في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) – تراجعًا ملحوظًا حيث بلغت 72.6 مليار دولار مع نهاية أبريل/نيسان 2019، مقابل 79.88 مليار دولار في نهاية سنة 2018، أي بانخفاض قدره 7.28 مليارات دولار في أربعة أشهر، حسب أرقام وزارة المالية.
عودة إلى الأسواق المالية الأجنبية
فتح الحكومة الجزائرية المجال للاستدانة من الخارج جاء بعد توقف لسنوات، حيث تعد هذه المرة الأولى التي تقرر فيها السلطات اللجوء إلى الاستدانة من الخارج، والاستثناء الوحيد كان في 2016، بلجوء الجزائر إلى الاستدانة من البنك الإفريقي للتنمية، عبر قرض بمليار دولار أمريكي خصص لتمويل برامج طاقوية.
وكان الرئيس الجزائري المستقيل نتيجة ضغط الشارع عبد العزيز بوتفليقة، قد أوقف سنة 2005 الاستدانة من الخارج، وقرر الدفع المسبق للديون الخارجية بعد الزيادة المالية التي شهدتها البلاد جراء ارتفاع أسعار النفط، وتراجعت بذلك المديونية الخارجية للدولة إلى حدود 1.79 مليار دولار في يونيو/حزيران 2018، بعدما كانت في حدود 30 مليار دولار في 1999، وتمثل المديونية الخارجية العمومية للجزائر نسبة 1.06% من الناتج المحلي الخام للبلد، أما الدين العمومي الداخلي فوصل إلى 36% من الناتج المحلي الخام.
انهيار أسعار النفط أثر على اقتصاد الجزائر
جاءت العودة إلى الأسواق المالية الخارجية، بعد توقيف العمل في يونيو/حزيران الماضي، بآلية التمويل غير التقليدي (طبع العملة المحلية) الذي أقرته الحكومة في خريف 2017 لتمويل الاقتصاد وتغطية العجز وسداد الدين الداخلي، وتفادي اللجوء إلى الاقتراض الخارجي.
وتم طبع 6 آلاف و556 مليار دينار (56 مليار دولار) منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2017، ضخ منها 3 آلاف و114 مليار دينار (27 مليار دولار) في الاقتصاد الجزائري، والبقية (25 مليار دولار) طبعت ولم تُستعمل بعد، وفق وزارة المالية.
سيادة البلاد الاقتصادية والسياسية
عودة الحكومة الجزائرية إلى الأسواق المالية الخارجية للاستدانة، أثارت مخاوف الجزائريين الذين يتذكرون تجربة بلادهم المريرة مع صندوق النقد الدولي ومختلف المؤسسات المالية التي أقرضت الجزائر خلال تسعينيات القرن الماضي، وفرضت عليها شروطًا مجحفة.
ويخشى الجزائريون من الانعكاسات السلبية الكبيرة لهذه الشروط القاسية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، وهو ما من شأنه أن يؤثر سلبًا على حياة الجزائريين الذين يسعون إلى مستقبل أفضل، ينسيهم السنوات العجاف التي عاشوها زمن حكم بوتفليقة.
يعتبر اللجوء إلى الاستدانة الخارجية تسليمًا تدريجيًا للسيادة الوطنية، فحاجة الجزائر إلى مصادر لتمويل خططها الإنمائية، من شأنه فتح المجال أمام رأس المال الأجنبي بأشكاله المختلفة
لا يخفي الجزائريون مخاوفهم من إمكانية تحول هذه القروض الأجنبية المرتقبة إلى وسيلة ضغط على البلاد، تستغلها الجهات المقرضة للحصول على امتيازات في الجزائر دون أن تراعي مصلحة الجزائر والجزائريين كما هو موجود في العديد من الدول.
ويخشى العديد من الجزائريين وقوع بلادهم كما وقعت العديد من البلدان النامية ومن بينها الدول العربية في فخ المديونية الخارجية، الأمر الذي من شأنه التأثير على الوضع السياسي والسيادي للبلاد الذي يعرف حراكًا شعبيًا متواصلاً منذ فبراير/شباط الماضي ضد المنظومة السياسية.
ويرى هؤلاء أن خطورة الديون الخارجية لا تقف عند الحدود الاقتصادية والاجتماعية بل إنها تتجاوز ذلك إلى تعريض حرية صانع القرار السياسي في البلاد إلى مزيد من الضغوطات، فهذه الأموال الأجنبية لها القدرة على التأثير في سيادة الدولة وإلزام الجزائر بتوجهات معينة في سياساتها العامة وهو ما يشكل مساسًا بالسيادة الوطنية واستقلال القرار السياسي.
تراجع السياسات المالية في الجزائر
يعتبر اللجوء إلى الاستدانة الخارجية تسليمًا تدريجيًا للسيادة الوطنية، فحاجة الجزائر إلى مصادر لتمويل خططها الإنمائية، من شأنه فتح المجال أمام رأس المال الأجنبي بأشكاله المختلفة، وهو ما يفتح المجال أمامها للتحكم في المالية الوطنية واختراق النظام السياسي والتأثير عليه بما يتلاءم مع مصالحها ما قد يجلب لها مخاطر عدة.
عدم استفادة الجزائريين من القروض السابقة، زاد من مخاوفهم المتنامية، وكانت البلاد قد اتجهت في الثمانينيات من القرن الماضي للاقتراض، ثم تطورت الاستدانة الخارجية إلى 2006، واستخدم جزءًا من هذه القروض لتمويل الاستهلاك والاستثمارات.
تؤكد السلطات الجزائرية أن لجوءها للاستدانة الخارجية في هذه الظرفية يمثل خيارًا كغيره من الخيارات المتاحة أمامها لسد حاجياتها، إلا أن هذا الخيار له أن يتحول إلى آلية إجبارية، في ظل عدم وجود حلول واقعية لإنقاذ اقتصاد البلاد.
في ظل هذه التطورات، على السلطات الجزائرية القادمة أن تسعى جاهدة لسماع نبض الشارع وإقرار حلول وآليات يمكن لها أن تضع حدًا لارتباط اقتصاد البلاد بالنفط وتفتح الآفاق أمام مجالات أخرى على غرار المجال الفلاحي والخدماتي والسياحي.