أجرى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، أمس الجمعة، زيارة رسمية إلى العراق، بعد قرابة 3 أشهر على سقوط نظام بشار الأسد في موسكو وتشكيل حكومة سورية جديدة.
بحث الشيباني مع نظيره العراقي فؤاد حسين جملة من القضايا المتعلقة بالعلاقات بين البلدين، حيث أكد الجانبان أهمية التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، إضافة إلى مواجهة التهديدات المشتركة، وعلى رأسها تنظيم داعش.
وخلال مؤتمر صحفي مشترك، أكد وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين أن الاستقرار الداخلي في سوريا يهم العراقيين، كونه يؤثر على أوضاع العراق، مشيدًا بالاتفاق الذي وُقعت بنوده قبل أيام بين الحكومة السورية الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية، كما كشف عن طرحه فكرة تأسيس مجلس تعاون بين بغداد ودمشق، مشيرًا إلى أن “غرفة عمليات محاربة داعش سترى النور قريبًا”.
شهدت العلاقات السورية العراقية منذ تأسيس البلدين تقلبات كبيرة، كان عنوانها الأبرز الخلاف الحاد بين قطبي حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي كان مسيطرًا على البلدين، بيد أن هذه العلاقة شهدت تحسنًا كبيرًا بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، حيث حظي نظام الأسد بدعم الحكومة العراقية، ومن خلفها إيران، التي ساندت النظام السوري لأكثر من 13 عامًا.
جذور الاختلاف والتوتر
منذ سقوط الخلافة العثمانية وانفصال العراق وسوريا عن الدولة التركية الحديثة، تعرض البلدان للاحتلال البريطاني، وبعد سنوات من انهيار العثمانيين، تولّى الملك فيصل الأول حكم كل من العراق وسوريا، قبل أن يتمكن الفرنسيون من السيطرة على سوريا وفرض الاحتلال الفرنسي، ما دفع فيصل الأول إلى التوجه نحو العراق.
مع صعود القومية العربية وتأسيس الأحزاب الحديثة، وصل حزب البعث العربي الاشتراكي إلى الحكم في كل من سوريا والعراق عام 1963، ورغم نجاح الحزب في السيطرة على البلدين، إلا أن الانشقاقات الداخلية أدت إلى انقسامه إلى تيارين متعارضين، ما جعل العلاقات بين دمشق وبغداد تتسم بالتوتر المستمر والخلافات المتجذرة، ولم تشهد إلا فترات قليلة من الهدوء.
وفي حين كان حزب البعث في سوريا يحمل توجهات يسارية، فإن جناحه العراقي كان يمينيًا، وقد تفاقمت الخلافات الأيديولوجية بين الجناحين بعد تولي حافظ الأسد السلطة عام 1970، حيث اختلط الصراع الأيديولوجي بصراع الزعامة داخل الحزب.
لم تشهد العلاقات بين العراق وسوريا أي تحسن ملحوظ إلا في محطات نادرة للغاية، إذ إن حزب البعث في سوريا، الذي سيطرت عليه اللجنة العسكرية، كان ذو توجهات مختلفة تمامًا عن جناحه العراقي، الذي كان يوصف بـ”الأقل إجرامًا”، وفقًا لمراقبين.
ومن أبرز محطات التقارب بين البلدين، كان دعم العراق لسوريا في حرب عام 1973، حيث دخل الجيش العراقي إلى دمشق لحمايتها من السقوط بيد الجيش الصهيوني، كما شهدت العلاقات تحسنًا مؤقتًا بتوقيع البلدين “ميثاق العمل الوطني” في أواخر عام 1978، إلا أن هذا التقارب لم يستمر سوى ستة أشهر، إذ انتهى فعليًا في يونيو/حزيران 1979.
وذلك بعد استقالة الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر، وتولي صدام حسين الحكم في العراق، حيث اتهم الأخير سوريا بالوقوف وراء محاولة انقلابية كان يدبرها بعض أعضاء حزب البعث العراقي بدعم من الجناح السوري للحزب.
عقب ذلك، ومع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت 8 سنوات، اتخذ الرئيس السوري حافظ الأسد موقفًا معاديًا للعراق، وقدم دعمه الكامل لإيران في حربها ضد بغداد، وبلغ الخلاف ذروته عندما أغلق الأسد أنبوب نقل النفط العراقي عبر الأراضي السورية عام 1982، ما تسبب بأضرار اقتصادية كبيرة للعراق، خاصة وأنه لم يكن قادرًا على استخدام مياهه الإقليمية المحاذية لإيران لتصدير النفط.
لم تشهد العلاقات بين العراق وسوريا تحسنًا ملموسًا إلا في حدود عام 2000، عندما زار رئيس الوزراء السوري مصطفى ميرو بغداد، حيث اتفق الجانبان على تعزيز التعاون الاقتصادي، الذي شهد تصاعدًا تدريجيًا خلال السنوات الثلاث التالية، كما أُتيحت فرصة السفر المتبادل لمواطني البلدين، حتى وقوع الغزو الأميركي للعراق عام 2003، الذي أعاد التوتر إلى العلاقات الثنائية.
في هذا الصدد، يقول الباحث السياسي العراقي أحمد العبيدي إن العلاقة بين سوريا والعراق لم تكن يومًا في أفضل حالاتها، إذ كانت دمشق وبغداد تتنافسان دائمًا على زعامة المنطقة العربية، كما أن انقسام حزب البعث إلى جناحين متعارضين زاد من حدة الخلافات، حيث كان لكل جناح عقلية سياسية وأيديولوجية متناقضة مع الآخر.
ويتابع العبيدي حديثه لـ “نون بوست” مشيرًا إلى أن حزب البعث العراقي لم يكن طائفيًا في تعامله مع شعبه بالمستوى ذاته الذي كان عليه نظيره السوري، ويستدل على ذلك بأن غالبية قيادات الجيش وحزب البعث العراقي الـ55، الذين وضعتهم واشنطن على اللائحة السوداء عقب غزوها للعراق، كانوا من الشيعة بنسبة تجاوزت 60%، بينما اعتمد الجناح السوري لحزب البعث على الطائفة العلوية في الحزب والجيش والأجهزة الأمنية، وفق قوله.
كيف سارت العلاقات منذ 2003؟
شهدت العلاقات بين العراق وسوريا بعد الغزو الأميركي للعراق مراحل متباينة بين التعاون والتوتر والتصعيد والدعم المتبادل، ففي البداية، أبدت سوريا رفضها للغزو الأميركي، لكنها لاحقًا رحبت بأول حكومة عراقية بعد الاحتلال.
وفي عام 2004، زار رئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي دمشق، في أول زيارة لمسؤول عراقي بهذا المستوى منذ عقود، تبعها استئناف الخطوط الجوية العراقية رحلاتها إلى العاصمة السورية، وذلك لأول مرة منذ عام 1980.
شهدت الأيام الأخيرة تصعيدًا في الموقف العراقي، بعد أحداث الساحل السوري، حيث اعتقلت السلطات العراقية العديد من اللاجئين السوريين بعد أن أعلنوا تأييدهم للحكومة السورية
ورغم هذا التقارب الجزئي، شهد عام 2005 تراجعًا في العلاقات وتصاعد التوتر، إذ اتهمت بغداد دمشق بالسماح بمرور المسلحين الأجانب إلى العراق لتنفيذ هجمات إرهابية، مما دفع واشنطن إلى تهديد سوريا بتحرك دولي في حال لم تتوقف عن تسهيل عبور المقاتلين عبر أراضيها.
وفي عام 2006، وبعد 26 عامًا من القطيعة الدبلوماسية، أعاد البلدان العلاقات الرسمية بينهما، واتفقا على جملة من القضايا التي لم تثمر عن نتائج ملموسة، وسرعان ما تدهورت العلاقات مجددًا عام 2009، عندما شن رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي هجومًا لاذعًا على دمشق بعد سلسلة تفجيرات ضربت بغداد.
ومع اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011، تغيّر الموقف العراقي بقيادة نوري المالكي تدريجيًا من معادٍ إلى داعم للنظام السوري، حيث تصاعد الدعم العراقي حتى أصبح شاملًا، من خلال تسهيل مرور عشرات الآلاف من المقاتلين الشيعة العراقيين والإيرانيين والأفغان إلى سوريا للقتال إلى جانب قوات بشار الأسد.
وظل الدعم العراقي لسوريا مستمرًا بدفع من إيران بين عامي 2011 و2024، ولم يتوقف إلا مع سقوط نظام الأسد وتشكيل حكومة سورية جديدة، لتبدأ معها مرحلة جديدة من الخلافات بين الطرفين التي كان عنوانها مفاجأة الأحزاب السياسية العراقية من السقوط السريع لنظام الأسد.
وشهدت الأيام الأخيرة قبل زيارة الشيباني إلى بغداد تصعيدًا في الموقف العراقي، خاصة بعد أحداث الساحل السوري في محافظتي اللاذقية وطرطوس، حيث اعتقلت السلطات العراقية العديد من اللاجئين السوريين بعد أن أعلنوا تأييدهم للحكومة السورية الجديدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو قاموا بوضع علم بلادهم الجديد في حساباتهم على فيسبوك وإكس.
كما هددت مجاميع عراقية عبر وسائل التواصل الاجتماعي سفارة دمشق في بغداد، مما دفع السلطات العراقية إلى تطويق مبنى السفارة في منطقة المنصور، تجنبًا لأي هجوم محتمل أو محاولة إحراقها، كما تم الترويج لذلك عبر منصات التواصل.
في ظل هذا الشد والجذب، يسعى العراق وسوريا اليوم إلى فتح صفحة جديدة من العلاقات الثنائية، من خلال تقريب وجهات النظر وتبديد المخاوف المشتركة، فقد ركز الجانب العراقي على أولوياته الأمنية، خاصةً ملف تنظيم داعش والسجون داخل الأراضي السورية، فيما أكد وزير الخارجية السوري حرص دمشق على إنهاء الخلافات والتأسيس لعلاقات ثنائية قائمة على المصالح المشتركة، مع التركيز على تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي والأمني بين البلدين.