رسميًا، وللمرة الثانية خلال عدة أشهر، تجلس “إسرائيل” على طاولة اجتماع دولي تستضيفه البحرين، يبحث هذه المرة وفق ما يقول منظموه سُبل ضمان أمن الملاحة البحرية والجوية في المنطقة، والتصدي للهجمات المتكررة ضد السفن والمنشآت النفطية في الخليج خلال الأشهر الأخيرة، التي اُتهمت إيران بالوقوف ورائها.
يثير هذا تساؤلات بشأن دلالات إشراك البحرين “إسرائيل” في مؤتمر أمن الملاحة بالمنطقة، وخطورة الزج بها في قضايا أمن الخليج، وفرص نجاح مؤتمر البحرين في تحقيق أهدافه للحفاظ على أمن الملاحة البحرية والجوية في المنطقة.
مؤتمر لحماية الملاحة بالخليج
على مدى يومين، تستضيف العاصمة البحرينية المنامة بالتعاون مع الولايات المتحدة وبولندا اجتماعًا دوليًا يقول بيان وزارة الخارجية البحرينية إنه يهدف بحث أمن الملاحة البحرية والجوية في المنطقة، إلى جانب محاولة ضمان منع تهريب وسائل قتالية وعتاد يمكن أن يستخدم في صناعة “سلاح إبادة جماعية”، إلى جانب مناقشة آليات تأمين الملاحة الجوية المدنية.
كان اللافت في اجتماع المنامة الذي خُصص لبحث أمن الملاحة في المنطقة أنه تجاهل دعوة إيران التي تشاطئ أهم ممرات الملاحة البحرية
يعد هذا الاجتماع، كما يقول منظِّموه، جزءًا مما يسمى “عملية وارسو”، التي تضم دولاً عربية وغربية إلى جانب “إسرائيل”، وبدأت باجتماع وزاري لتعزيز مستقبل السلام والأمن في الشرق الأوسط، وتمخضت عن اجتماع مناهض لإيران احتضنته العاصمة البولندية في فبراير/شباط الماضي، وحضر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى جانب كبار الشخصيات من العالم العربي.
هذا المؤتمر الذي رعته بولندا والولايات المتحدة، وُصف في الأصل كجزء من الجهود العالمية لمواجهة إيران، ولكن خُفِّف من هذه الصيغة لاحقًا، وركز بدلاً من ذلك على الهدف الغامض المتمثل في السعي لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.
وينعقد الاجتماع هذه المرة، وهو أول مؤتمر دولي في الخليج لبحث “الأعمال العدائية” التي شهدتها المنطقة، على خلفية أحداث رفعت حدة التوتر إلى أقصى مدى في المنطقة، أبرزها استهداف ناقلات نفط واحتجاز أخرى وحشد بوارج عسكرية غصَّت بها مياه الخليج.
وعُقد اجتماع عسكري دولي أقل رسمية بشأن الأمن البحري في البحرين في 31 من يوليو/تموز بعد سلسلة هجمات استهدفت في ذلك الوقت ناقلات نفط قرب مضيق هرمز الإستراتيجي، وكان من بين تلك الحوادث احتجاز إيران لناقلة النفط البريطانية “ستينا إمبيرو”، وتصاعد التوتر بين طهران من جهة ولندن وواشنطن من جهة أخرى.
منذ ذلك الحين، تعمل الولايات المتحدة من أجل حث المزيد من الدول على تشكيل قوة بحرية دولية لحماية السفن التجارية في الخليج، لكن بعض الدول، مثل اليابان، قاومت خوفًا من جرها إلى مواجهة أوسع مع إيران، التي أعربت عن اعتراضها على وجود قوات أجنبية في الخليج.
وتمهيدًا للمؤتمر الحاليّ، نشر السفير البحريني في واشنطن عبد الله آل خليفة، في 14 من أكتوبر/تشرين الأول، مقالاً في صحيفة “واشنطن بوست” قال فيه: “التحالف يأتي في وقت حرج، إذ تسببت الهجمات الأخيرة على مسارات النقل البحري الرئيسية في الخليج، وخاصة مضيق هرمز، في تقويض سلامة الملاحة وخلق حالة من عدم الاستقرار في المنطقة”.
“إسرائيل” في البحرين
على إثر فشل الولايات المتحدة في بناء تحالف دولي في المنطقة، كان اللافت في اجتماع المنامة الذي خُصص لبحث أمن الملاحة في المنطقة أنه تجاهل دعوة إيران التي تشاطئ أهم ممرات الملاحة البحرية في منطقة يعبر منها ثلث النفط العالمي المنقول بحرًا.
في المقابل، استدعى المؤتمر “إسرائيل” لمشاركتها لأول مرة في بحث أمن الخليج وسلامة الملاحة فيه، رغم عدم وجود علاقات دبلوماسية معلنة مع هذه المملكة الخليجية الصغيرة، وهو ما اعتبرته صحيفة “سياست روز” الإيرانية “تجاهلاً صارخًا لواقع كون أن الوجود الصهيوني في قلب الأمة الإسلامية هو الخطر الداهم على مستقبل بلدانها وشعوبها”.
لم يكن مؤتمر البحرين الذي استمر يومين المرة الأولى التي يجتمع فيها مسؤولون إسرائيليون وعرب معًا في سياق “عملية وارسو”
وفيما يتعلق بالمشاركة الإسرائيلية، تحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن وجود وفد من وزارة الخارجية الإسرائيلية في المنامة بالبحرين للمشاركة في مؤتمر لأعضاء “مجموعة العمل بشأن أمن الملاحة البحرية والجوية” التابعة لعملية وارسو، وهو تحالف أنشأته الولايات المتحدة لحماية التجارة في الخليج.
وبحسب صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” التي وصفت هذه المشاركة بـ”الزيارة النادرة” لدولة خليجية، مثلت، رئيسة شعبة الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية، دانا بنفنيستي-غاباي “إسرائيل” في مؤتمر مناهض لإيران في البحرين.
ولم يكن مؤتمر البحرين الذي استمر يومين المرة الأولى التي يجتمع فيها مسؤولون إسرائيليون وعرب معًا في سياق “عملية وارسو”، ففي 8 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، جلس ممثل إسرائيلي مع زملاء من البحرين والسعودية والإمارات واليمن ودول عربية أخرى في مؤتمر عن الأمن السيبراني في عاصمة كوريا الجنوبية سيول.
بعد 3 أيام فقط، شارك نائب سفير “إسرائيل” لدى الولايات المتحدة بنيامين كراسنا في مجموعة عمل وارسو المعنية بحقوق الإنسان في واشنطن، التي حضرتها أيضًا العديد من الدول العربية.
وخلال مؤتمر وارسو السابق الذي كان أول محفل يضم عربًا وإسرائيليين لأول مرة منذ تسعينيات القرن الماضي، جلس بنيامين نتنياهو إلى جانب وزير الخارجية اليمني، وفي جلسة مغلقة حضرها نتنياهو على هامش المؤتمر، ناقش وزراء خارجية العديد من الدول العربية بشكل صريح فكرة أن التهديد الإيراني كان مصدر قلق أكثر إلحاحًا للمنطقة من النزاع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر.
مشاركة سياسية أم عسكرية؟
في أغسطس/آب الماضي، كشف وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس أن “إسرائيل” ستشارك في مؤتمر البحرين كجزء من محاولتها مواجهة التوسع الإيراني مع تعزيز العلاقات مع الدول العربية السنية، معتبرًا أن تشجيع التقارب بين “إسرائيل” والعالم العربي أولوية قصوى، وأنه “من الواقعي توقع اتفاقات سلام رسمية مع دول الخليج السنية المعتدلة في غضون بضع سنوات”.
وفي أوائل شهر يوليو/تموز، زار كاتس الإمارات لحضور مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ، وفي أبو ظبي، التقى بمسؤول حكومي كبير لم يُذكر اسمه، حسب مكتبه في ذلك الوقت، وبعد 3 أسابيع، التقى وزير الخارجية مع نظيره البحريني خالد بن أحمد آل خليفة، خلال مؤتمر عقد في واشنطن، حيث التقط الرجلان صورة نادرة.
وسائل إعلام إسرائيلية وصفت المؤتمر بأنه أحدث إشارة إلى دفء العلاقات بين أجزاء من العالم العربي و”إسرائيل”
وبحسب محللين فإن تصريحات كاتس لا تحمل الإجابة الكاملة لأهداف مشاركة “إسرائيل” الأخيرة في هذا التجمع الذي تحضره 60 دولة، بقدر ما تحملها تحركاته المتسارعة تجاه دول خليجية شهدت علاقاتها في السنوات الأخيرة انفتاحًا وسط العداء المشترك لإيران.
ويرى هؤلاء أن الهدف الرئيسي للمبادرة الأمريكية ليس أمن الملاحة في الخليج، ولكن إعطاء قوة دفع إضافية تعزيز العلاقات والتعاون وعملية التطبيع بين “إسرائيل” ودول الخليج، وتستند هذه السردية إلى أن “إسرائيل” لا تقع في منطقة الخليج أو تتأثر مباشرة بالأحداث هناك، يُضاف إلى ذلك أن أمن المنطقة لم يكن أبدًا أولوية إسرائيلية، لهذا يوحي التحالف معها حقيقة واقعة في المنطقة العربية كدولة طبيعية.
المحلل السياسي والأمني الإسرائيلي ليور أكرمان، وهو مسؤول سابق في جهاز الأمن “الشاباك”، يرى أن المشاركة في المؤتمر جزء من جهد “إسرائيل” لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية التي تشعر بالقلق أيضًا إزاء التهديد الذي تشكله إيران، ويشير أكرمان إلى أنه من وجهة النظر العسكرية والتجارية، ليس لـ”إسرائيل” مصلحة مباشرة في قتال الإيرانيين في الخليج، لكن “هذا التعاون له فائدة في إظهار للعالم أن “إسرائيل” ليست خائفة من مواجهة إيران”، كما يقول لموقع “ميديا لاين” الأمريكي.
في سياق ذلك، اعتبرت وسائل إعلام إسرائيلية حضور مسؤول بوزارة الخارجية في اجتماع المنامة علامة على الوفاق مع الدول العربية، ووصفت المؤتمر الذي أكدت أنه مناهض لإيران بأنه أحدث إشارة إلى دفء العلاقات بين أجزاء من العالم العربي و”إسرائيل”.
وتؤكد هذه الرؤية ما ذهبت إليه طهران في نظرتها للمؤتمر باعتباره خطوة وصفتها إيران بأن محاولة من دولة “تدعي أنها إسلامية وعربية” من أجل تطبيع العلاقات مع “إسرائيل” التي مارست 70 عامًا من الجرائم ضد الأمة العربية.
ولم تفوِّت إيران فرصة التنديد بالمؤتمر وتأكيد فشله في تحقيق أهدافه، وقالت على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية عباس موسوي: “مؤتمر الأمن البحري في المنامة لن يؤثر على نفوذ إيران”، معربًا عن أسفه لـ”تطبيع” البحرين علاقاتها مع “إسرائيل”.
هل تلتقي المصالح؟
بالنسبة لدوافع إشراك “إسرائيل” في المؤتمر، يبدو أن دول الخليج السنِّية تدرك أنها يمكن أن تحصل على الحماية الدولية في المنطقة من خلال كونها صديقة “إسرائيل”.
ويمكن تفسير ذلك بالنظر إلى أن هذه الدول تنتهك حقوق الإنسان في اليمن وضد شعبه، بأبشع الطرق الممكنة، ما يعني أنهم يحتمون من المساءلة من خلال علاقتهم بـ”إسرائيل”، الأمر الذي يحميهم من ردود الفعل الدولية والأمريكية العنيفة على جرائمهم.
وبالنسبة للولايات المتحدة، فليس لديها مصلحة في بدء حرب مع طهران، لكنها تسعى لاستخدام “الفزاعة” الإيرانية من أجل ابتزاز دول الخليج ماليًا مع تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.
تحت دعوى مواجهة إيران تجد “إسرائيل” موطئ قدم لدى بعض العرب ممن رأوا أن إيران الخطر الأكبر والوحيد في المنطقة
وزير الخارجية البحريني دعا في افتتاح المؤتمر المجتمعين إلى اتخاذ الخطوات اللازمة لحماية بلدانهم مما سماها “الدول المارقة والجهات الفاعلة من غير الدول والجماعات الإرهابية التي تشن مثل هذه الهجمات وتسعى إلى زعزعة استقرار عالمنا”.
وفيما بدا أنه ابتعاد للولايات المتحدة من تشكيل تحالفها العسكري في الخليج لردع التهديدات الأمريكية، اتفق المشاركون على اجتماع لاحق سيُعقد في الربع الأول من العام المقبل بمستوى سياسي رفيع لمتابعة المستجدات والتحديات التي تحدق بأمن المنطقة والوسائل الوقائية اللازمة لمواجهتها بشراكة دولية، ودعا آل خليفة إلى مواصلة الجهود لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل.
ووجدت إشارة وزير الخارجية البحريني توضيحها في كلمة نظيره الأمريكي مايك بومبيو التي بعثها إلى المؤتمر، وتحدث فيها عن خطر نقل أسلحة الدمار الشامل وضرورة مواجهة الدول الساعية لامتلاكها وتجنب ما سماها “أخطارها على الجميع”.
من بين من قصدهم وزير الخارجية الأمريكي بقوله “الجميع” في رسالته إلى المؤتمر إلى جانب “إسرائيل” السعودية والإمارات اللتان تتزامن مشاركتهما في المؤتمر مع انخراطهما في مساعٍ مباشرة وغير مباشرة لتطبيع علاقاتهما مع إيران.
كان آخر هذه المساعي مع إفراج إيران عن أموال إيرانية كانت مجمدة لديها، وزيارة مسؤولين إماراتيين طهران قبل ذلك، هذا إلى جانب مساعي السعودية غير المباشرة لتخفيف التوتر مع إيران عبر رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، الذي أكد من قبل أن ما يقوم به كان بطلب من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
اجتماع المنامة يأتي أيضًا بعد أشهر من ورشة لمناقشة القضية الفلسطينية أو ما يُعرف إعلاميًا بـ”صفقة القرن”، وهو المصطلح الذي دخل دائرة التداول السياسي والإعلامي منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وشاركت فيها “إسرائيل” فيما بدا اتجاهًا بحرينيًا لتطبيع العلاقات مع تل أبيب.
ويجري هذا في إطار دور تباركه جيران البحرين وحلفائها السعودية والإمارات ومصر، وتُذكر في هذا السياق تصريحات لوزير خارجية البحرين أكَّد فيها لصحيفة “تايمز أوف إسرائيل” في مقابلة غير مسبوقة، أن “إسرائيل جزء أساسي شرعي من الشرق الأوسط، والشعب اليهودي جزء من تراث المنطقة”.
الوزير البحريني قال أيضًا في لقاء مع مراسل القناة الـ13 الإسرائيلية، على هامش ورشة البحرين الاقتصادية، في يونيو/حزيران الماضي، “إننا نريد التكلم مباشرة مع الشعب الإسرائيلي، هكذا تحل الخلافات والنزاعات”.
هكذا، وتحت دعوى مواجهة إيران تجد “إسرائيل” موطئ قدم لدى بعض العرب ممن رأوا أن إيران الخطر الأكبر والوحيد في المنطقة.