ترجمة وتحرير: نون بوست
تشبه قرية ارسلان كوي، التي تقع في أعالي جبال طوروس على بعد 60 كيلومترا من مدينة مرسين على الساحل الجنوبي، جميع القرى التركية المحافظة الأخرى.
بالإضافة إلى الرجال، امتلأت المقاهي المنتشرة في القرية بالنساء اللاتي يرتدين الحجاب. فقد غادرت النسوة، اللاتي تمكّن من إنهاء تعليمهن، البلدة للعيش في المدن الكبرى، أما بالنسبة للاتي مازالن يعشن في البلدة، فكرّسن حياتهن في خدمة الأرض. ومع ذلك، تنفرد قرية ارسلان كوي باعتبارها موطن النساء القويات. وقبل 72 سنة، أذهلت نساء هذه القرية البلاد بعد أن قاتلن ضد الجيش بعد محاولات تزوير الانتخابات من قبل الحزب الحاكم آنذاك.
تضع كوجاك مستحضرات التجميل التي تستخدمها الفرقة المسرحية أثناء أداء المسرحيات.
اليوم، أثارت أمية كوجاك، البالغة من العمر 62 سنة، ضجّة بعد أن لفتت الانتباه بمساعدة فرقتها المسرحية، المكوّنة من النساء فحسب، إلى القضايا الاجتماعية التي تراوحت بين العنف المنزلي وتغير المناخ.
بعد أن كان عدد أعضائها لا يتجاوز سبع نساء فحسب عند إنشائها في سنة 2001، أصبحت هذه الفرقة المسرحية تضم 60 امرأة. في كل مسرحية جديدة تكتبها كوجاك، تكوّن فريقًا صغيرًا من الممثلين، وتمدّهم بنسخة من السيناريو لحفظه في غضون 10-15 يومًا. وحين يحفظ كل ممثل الدور المكلّف به، تنطلق كوجاك في تقديم توجيهاتها.
عموما، جالت هذه الفرقة المدن التركية، وقدمت عروضا في أوروبا. وفي سنة 2012، صنعت فيلمًا قصيرًا يحمل عنوان “دمية الصوف”، والذي سلّط الضوء على الإساءة البدنية واللفظية التي تسلّطها النساء ضد النساء. وحقّق هذا الفيلم نجاحا باهرا، حيث حازت كوجاك على جائزة “أفضل فنانة أوراسية” في مهرجان نيويورك السينمائي للأفلام الأوراسية.
تُشرف كوجاك بنفسها على تنظيم كل مسرحية، فضلا عن أي رعاية تجارية من المجلس أو الجمعيات الخيرية، إذ ليس لديها سكرتيرة، حيث يتكفل ابنها وابنتها بتقديم يد المساعدة لها. وما تمكّنت كوجاك من تحقيقه، يعتبر إنجازا هائلا بالنسبة لامرأة لم تملك مستوى تعليمي كبير.
امرأة عصامية التكوين
تجلس كوجاك على مقعد منخفض في مستودع صغير تقشّر الجوز، وهي مبتسمة وتتحدث عن بدايتها غير الاعتيادية وحياتها المدرسية، حيث قالت: “أعلن المسجد ذات يوم أنه ينبغي على كل عائلة أن ترسل ابنة واحدة إلى المدرسة. آنذاك، كنت متقدمة في السن. لذلك، أُرسلت أختي الصغرى مكاني. وبعد ثلاثة أيام، رفضت أختي الذهاب مرة أخرى، وظلّت تبكي متعللة بأن الدراسة لم تعجبها، ما دفعني إلى الاقتراح أن أذهب عوضا عنها. وأعطاني والدي زيها الرسمي في تلك اللحظة”.
وتابعت قولها إن أختها لا تشعر بالندم حيال تخليها على مكانها لصالحها. وضحكت كوجاك وقالت: “أختي تخبر الناس أنه لولاها، لم يكن هناك وجود لأمية كوجاك، لكنني دائما أخبرها أنه حتى لو لم ألتحق بالمدرسة، لكنت تعلمت بنفسي. وسأبقى دائما ما أنا عليه. وإذا كانت تملك موهبة، فستجد دائمًا طريقة لإظهارها ولا يمكنك إيقافها”.
كوجاك، في وسط الصورة، صحبة نساء القرية في العمل يقمن بتقشير الخضر.
على غرار أي امرأة أخرى في القرية، تعمل كوجاك في الحقول مرتدية سترات زاهية الألوان مكوّنة من عدة طبقات وشال ملفوف حول خصرها، وحجاب رُبط تحت ذقنها، إلى جانب بنطال سلوار فضفاض. ولكن ما يميز هذه المرأة هو قدرتها على التساؤل حول كل شيء باستمرار.
بدأت كوجاك، البالغة من العمر 62 سنة، في كتابة القصص منذ سنّ الثالثة عشر، وقد استلهمت كتاباتها من كتاب أُرسل إليها لتعطيه لمعلمها وتوسلت أن تلقي نظرة عليه لأنه يحتوي على صورة على صفحته الأمامية تذكرها بجدتها. ويعد هذا الكتاب “رواية الأم” للكاتب مكسيم غوركي، إذ يروي هذا الكتاب حكاية شخصيات روسية تعاني من فقر مدقع. واعتقدت كوجاك أنه إذا كان بإمكان غوركي الكتابة حول مثل هذه الحالات، فستكون قادرة على فعل ذلك.
على الرغم من ذلك، انطلقت مسيرتها المسرحية في سن متقدمة. وفي هذا السياق، قالت كوجاك: “أول مرّة شاهدت فيها مسرحية كانت في مدرسة ابني الثانوية عندما كان عمري 45 سنة. وحين كنت أشاهد هذه المسرحية، ظللت أتساءل عما إذا كان الممثلون يستخدمون أسماءهم الخاصة. بعد ذلك، سألت أحدهم عن اسمه، وأجابني أنه يُدعى “علي”. لقد كنت في حيرة من أمري وكان اسمه في المسرحية “ولي”. وشرح لي أن “ولي” هو اسم الشخصية في المسرحية. ومكثت طوال الليل أفكر في ذلك”.
ارتكزت مسرحيات كوجاك الأولى على شكاوى وأسرار استقتها من جيرانها
وتابعت كوجاك قولها: “أدركت أنه بإمكاني أن أجسّد مواقف حقيقية تحدث في قرية ارسلان كوي على خشبة المسرح. ومن خلال تغيير الأسماء، ستكون الشخصيات مجهولة ولكن مؤثرة، وقد أتمكن من تبليغ أصوات نساء القرية”.
أصوات النساء
لذلك، ارتكزت مسرحيات كوجاك الأولى على شكاوى وأسرار استقتها من جيرانها. وفيما يتعلّق باختيارها لتبليغ أصوات النساء على وجه التحديد، أجابت كوجاك قائلة: “لقد شعرت بالاستياء الشديد من أنه في الوقت الذي تعمله فيه النساء بجد، في الحصاد والطبخ ورعاية الأطفال، ينفق الرجال أموال زوجاتهم على المشروبات الكحولية. لذلك، تحتاج أصوات هذه النسوة إلى أن يُسمع”.
بالنسبة للتفكير الغربي، يشير هذا الموقف إلى أن كوجاك نسوية التفكير. ولكن حين يُطرح عليها سؤال حول حقيقة موقفها، تنفي هذا الأمر بشدة. وحيال هذا الشأن، قالت: “سمعت لأول مرة كلمة” نسوية “عندما طلبت من مدير المدرسة في القرية أن يسمح لي بالتدرب على المسرحيات في المدرسة في المساء. وأخبرته أن هذه التمارين ستضم نسوة فحسب، لذلك لن يكون هناك ثرثرة. كما سألني عما إذا كنت نسوية”. وفي الواقع، لم تكن تعرف حينها معنى هذه الكلمة.
في الحقيقة، مثلما توضح كوجاك، لم يكن تحقيق النجاح أمرا سهلا. لقد واجهت معارضة وإساءة أهالي قريتها حين اقترحت فكرة تكوين هذه المجموعة. في المقابل، ذلك لم يمنعها من المضي قدما في تحقيق أهدافها. علاوة على ذلك، نشأت فكرة فيلمها الأول “دمية الصوف” من هذا التصور. وكانت هذه السيدة العجوز ترتجف وهي تتحدث: “في سنة 2007، سمعت إحدى جاراتها تروي ذكرياتها حول سوء المعاملة الذي تعرضت إليها على يد جدتها، حينما كانت طفلة”.
كوجاك في الإعلان الذي قامت به لصالح شركة الاتصالات التركية مع رونالدو في سنة 2017.
أدركت كوجاك أن الطفولة العنيفة لها تداعيات هائلة، وقررت الكتابة عن العنف الذي تمارسه المرأة ضد المرأة، على أمل أن تنشر الوعي في صفوف المشاهدين. ومع ذلك، كانت تعلم أن إخراج فيلم سيكون أمرا مختلفًا تماما. في الواقع، اضطلعت بأدوار بسيطة في المسلسلات التليفزيونية الطويلة، وراقبت الممثلين المدربين والمصورين والمخرجين أثناء العمل. وبعد خمس سنوات، وبالتحديد في سنة 2012، شعرت أخيرًا بأنها مستعدة لإنتاج فيلمها.
لقاء رونالدو
بعد الفيلم القصير، ظهرت في بث وثائقي على شبكة التلفزيون الحكومية التركية المعروفة باسم مؤسسة الإذاعة والتلفزة التركية. وفي سنة 2017، حصلت على فرصة لإخراج إعلان لشركة الاتصالات التركية، حيث ظهرت فيه مع لاعب كرة القدم كريستيانو رونالدو. وبين عشية وضحاها، نالت كوجاك ومجموعتها المسرحية شهرة واسعة.
في هذا الصدد، قالت كوجاك: “كنت قد ظهرت في فيلم وثائقي على قناة الإذاعة والتلفزة التركية سنة 2016 عندما اتصلت بي شركة الاتصالات التركية. وكان الإشهار يرتكز حول تحقيق الأحلام. لذلك، أرادوا مني ومن رونالدو أن نشارك فيه لأننا حققنا مبتغانا. وعندما التقيت به، توطدت العلاقة بيننا على الفور، فعلى الرغم من أنني أبلغ نصف طوله وغير قادرة على فهم لغته، إلا أنني عانقته واعتبرته حملي الصغير. في المقابل، عانقني رونالدو وصاح: “أمي!” لقد كانت هناك صلة بيننا، إذ أنه عمل بجد على الرغم من المصاعب وحقق إنجازا يُذكر، مثلما فعلت أنا”. لكن منذ تصوير الإعلان، اتُّهم رونالدو بالاعتداء الجنسي، الشيء الذي أنكره اللاعب تماما.
الحب لا دين له
كانت معتقدات كوجاك قوية مثل شخصيتها، إذ تكشف طريقتها في مخاطبة متابعيها على مواقع التواصل الاجتماعي وتسميتهم “بأولادي” عن مدى دفاعها عن الحب، قائلة: “إن الدموع لا لون لها، وليس للحب عرق أو دين أو لغة. هذا هو اعتقادي الدائم”. بالإضافة إلى ذلك، عبرت كوجاك عن معتقداتها بشأن تغير المناخ، موضحة أنها “قضية خطيرة للغاية بالنسبة للعالم بأسره وينبغي إيجاد حل. وعلى الرغم من أن هذا الأمر سيؤثر علينا جميعا في جبال طوروس، إلا أنني أشعر أن تركيا لا تعير القضية اهتماما. لقد سافرت خارج البلاد ورأيت كيفية إعادة الشعوب رسكلة نفاياتها والاعتناء بغاباتها. وينبغي علينا أن نتبع خطاهم. ولهذا السبب، كتبت هذه المسرحية الجديدة”.
ترتكز المسرحية الجديدة، التي تحمل عنوان “آه، أحدهم ثقب السماء”، على استخدام لغة مألوفة للقرويّ العادي لتفسير تغير المناخ، حيث تدعو إلى تغيير في السلوك اليومي للناس. ويتكون طاقم التمثيل من ثمانية أشخاص يشدّون أيادي بعضهم في نهاية المسرحية كدعوة للاتحاد والتكاتف. وستشارك المجموعة في جولة في جميع أنحاء تركيا لتكون البداية مدينة بالق أسير في الشمال الغربي.
في السياق نفسه، أضافت كوجاك قائلة: “إذا استعملت مصطلحات مثل الاحتباس الحراري، فلن يفهمها الناس هنا. ونحن بحاجة إلى تفسيره عن طريق مواقف مألوفة بالنسبة لهم”. لهذا السبب، تضم هذه المسرحية شخصيات موجودة في جميع أنحاء تركيا: جيران ثرثارون، امرأة يثق بها الجميع، وجدة مصابة بالزهايمر.
بينما كانت كوجاك تتحدث، كانت ثلاث نساء من فريق التمثيل تجلسن جنبها وتقشرن الجوز، لكنهن لم تعبَرن عن آرائهن إلى أن تحول الحوار إلى الحديث عن المسرحية. حينها، قالت النسوة إنهن تتدربن على أدوارهن في الحقول أثناء العمل، وضحكن حين كشفن أنهن تستخدمن الفحم أو مادة تلميع الأحذية لرسم شوارب الشخصيات الذكور، إضافة إلى أحمر الشفاه الأسود.
علاقة وثيقة
مثل كوجاك، كانت النسوة في منتصف العمر، تلبسن الحجاب وبناطيل الشالوار وسترات محبوكة ذات ألوان الزاهية. لقد عشن حياتهن بأكملها في هذه القرية الصغيرة تزرعن الخضروات وتعتنين بالأطفال وتنظفن منازلهن. وأوضحت ممنونة كيزر: “لقد مللت من عيش حياة عادية. التمثيل كان شيئًا مختلفًا وأنا سعيدة للغاية لأنني انضممت إليه، فأنا أستمتع حقًا بالقيام بذلك ونحن فخورات للغاية بأمية”.
سنة 2001، لم تحصل هذه السيدة على الدعم سوى من قبل عائلتها، حيث كلفها الأمر طرق 40 باب للحصول على سبع سيدات فقط
هل تعتقد النساء أن كوجاك مخرجة جيدة؟ الإجابة هي من دون شك. وفي هذا الإطار، قالت كوجاك بنظرة متلألئة: “لا تقلن ذلك فقط لأني هنا” لتثير ضحك الجميع. حينها، قالت فاطمة آي: “حسنا، إنها ليست دائمًا مخرجة جيدة لأنها سريعة الغضب، خاصة إذا لم تحفظ دورك”. وعندما سُئلت النسوة عن أية خلافات حول المسرحيات، قالت كيزر: “لا نتجادل مع أمية، فهي متمرسة في هذا المجال منذ حوالي 20 سنة، وهي أدرى بما هو أفضل”. وأضافت أمينة يلديز: “نحن نؤدي ما تكتبه هي حرفيا”، فتُجيب كوجاك: ” قلن الحقيقة يا فتيات، هل سبق وأن رفضت رغبتكن في تغيير جملة من النص؟!”، عندها امتلأ الأستوديو بضحكات الجميع.
من الواضح أن كوجاك وصديقاتها الممثلات تجمعهن علاقة قوية قائمة على الاحترام المتبادل، إذ تقول آي بكل امتنان: “لقد تعلمنا الكثير من المسرح بفضل أمية” بينما أضافت كيزر: “أخيرا، أصبحنا نقوم بعمل مفيد”. ومن جهتها، صرحت يلدز قائلة: “بفضلها، زادت ثقتنا بأنفسنا بشكل كبير. كما اعتدت أن أكون محرجة للغاية لكنني لم أعد كذلك الآن على الإطلاق”. فمازحتها كوجاك قائلة: “لقد زادت ثقتك في نفسك، فتوخَي الحذر”.
سنة 2001، لم تحصل هذه السيدة على الدعم سوى من قبل عائلتها، حيث كلفها الأمر طرق 40 باب للحصول على سبع سيدات فقط. ولكن اليوم، من خلال العمل الجاد والإصرار، فازت كوجاك بدعم بلدها بأكمله. وفي الوقت الراهن، أصبحت تستقبل النساء من جميع أنحاء العالم لإجراء مقابلات وتمثيل أجزاء من المسرحيات، كما أنها امرأة مرنة، ذكية وقوية. وفي النهاية، صرحت كوجاك قائلة: “أنا عنيدة ولا أستسلم. وإذا ما أردت القيام بشيء ما، فسأفعله”.
المصدر: ميدل إيست آي