قبل أشهر، هرب الطاغية، ومعه سقط نظام عائلة دراكولا، النظام الأسدي، تاركًا خلفه مدنًا مدمرة، والملايين من المشردين داخل وخارج سوريا، ومئات الآلاف من القتلى الأبرياء.
بعد أربعةٍ وخمسين عامًا، انتهت “سوريا الأسد”، وعادت سوريا إلى حضن الشعب السوري، لكنها عادت ضعيفة، مضرجة بالجراح، مشتتة ومنهكة اقتصاديًا واجتماعيًا، فكشّر الغزاة الصهاينة الطامعون بأرضها عن أنياب مشاريعهم التوسعية، وسارعوا إلى تدمير ما تبقى من قوتها العسكرية، لكي يمرروا خطتهم القديمة بتقسيم سوريا إلى دويلات طائفية، كيانات صغيرة، ليس فقط غير قادرة على الوقوف في وجه أطماع الدولة العبرية، بل تكون مرتبطة عسكريًا واقتصاديًا بها، وبالتالي متحالفة معها، منها “الدولة الكردية”، “الدولة العلوية” و”الدولة الدرزية”.
وفي حين أن “الدولة الكردية” و”الدولة العلوية” تمتلك كلٌّ منهما مقومات الدولة، فالأولى بحكم مساحتها، ووجود الثروات الطبيعية (النفط والماء)، إضافةً إلى عمقها الجغرافي والسكاني مع المناطق الكردية في تركيا والعراق، والثانية (العلوية) بحكم موقعها على الساحل، وامتلاكها الموانئ، والثروة السمكية، والسياحة، فإن “الدولة الدرزية” لا تمتلك أدنى مقومات الدولة، فلا أنهار، ولا بترول، ولا موانئ، وتعداد سكاني صغير.
في حين أن العلاقة السرية بين الأكراد والدولة العبرية يعود تاريخ بدايتها إلى ستينات القرن الماضي، وبدأت مع فصائل كردية في شمال العراق، منها جماعة مصطفى البرزاني وغيره، ثم توسعت بعد انطلاق الثورة السورية، لتشمل فصائل كردية في شرق سوريا، فإن العلاقة السرية مع المكون العلوي بدأت مع حافظ الأسد، الذي قام بنسج علاقات سرية مع المخابرات الغربية أثناء زياراته لبريطانيا، ثم تجلّت هذه العلاقة خلال حرب حزيران عام 1967، حين كان يتبوأ منصب وزير الدفاع، بإعلانه سقوط مدينة القنيطرة (عاصمة الجولان)، وإصداره أوامر انسحاب الجيش السوري من القنيطرة، قبل دخول قوات الاحتلال المدينة.
ومع احتلال عائلة الأسد للسلطة، واستحواذها الكامل عليها، تطورت هذه العلاقة السرية، وباستثناء حرب تشرين عام 1973، والتي انتهت في الحقيقة بهزيمة ثانية، لكن الدكتاتور حافظ الأسد حوّلها بالقوة المخابراتية، وقمع حرية الكلمة إلى انتصار مصطنع، غصّت به منابر الخطابات، وصفحات الإعلام على امتداد حكمه، ومن بعده وريثه بشار، لتُنتج هذه العلاقة سلامًا غير مُعلن مع الدولة العبرية، سمح ببقاء الجولان تحت الاحتلال حتى يومنا هذا، وأكثر من هذا، فقد عبّر عن هذه العلاقة الوطيدة ابن خال بشار الأسد، رامي مخلوف، بقوله عند انطلاق الثورة السورية: “أمن إسرائيل من أمن النظام”.
وأما علاقة الدولة العبرية مع الطائفة الدرزية، فقد بدأت مع فسائل من دروز فلسطين، قبل قيام الدولة بسنوات، فمنذ بدايات النشاط الاستعماري لإقامة الدولة العبرية، عملت قيادات سياسية وأمنية صهيونية على تحييد الدروز عن صراعها مع بقية مكونات المجتمع الفلسطيني، وفي فترات معينة، قبل قيام الدولة، عملت هذه القيادات الصهيونية على مشروع نقل دروز فلسطين إلى جبل العرب في سوريا، حيث امتدادهم الديني.
وقامت بإرسال أشخاصٍ من دائرة عملائها من دروز فلسطين، للتفاوض مع دروز جبل العرب في سوريا، لكن سلطان باشا الأطرش رفض الأمر رفضًا قاطعًا، رغم أن القائمين على المشروع وعدوا بدفع تعويضات لدروز فلسطين مقابل تركهم قراهم وأراضيهم، إضافةً إلى تمويل عملية النقل “الترانسفير” تحت شعار: “هاجروا وبيعوا أراضيكم واسلموا من الخطر”.
لكن المشروع فشل، ليس فقط بسبب رفض سلطان باشا الأطرش، بل كذلك بسبب دخول الحرب العالمية الثانية على الخط، وما رافقها من ركود اقتصادي وأزمات مالية، ونفاد أموال الوكالة اليهودية المطلوبة لمواصلة تنفيذ المشروع، مما أجبر الحركة الصهيونية على إعادة تشكيل أولوياتها، والتوقف عن الاستمرار في هذا المخطط.
بعد فشل نقل الدروز إلى جبل العرب، وقيام الدولة العبرية، اتجهت إسرائيل إلى العمل على توسيع دائرة علاقتها مع المجتمع الدرزي وتوطيدها، من أجل توظيفها لاحقًا في تحقيق مشروع إنشاء “الدولة الدرزية” على الأراضي السورية واللبنانية، والذي كان قد تم طرحه يوم 10 تشرين الأول/ أكتوبر 1952، في اجتماع لقيادة الجيش الإسرائيلي، أثناء مناقشة فوائد فرض الخدمة الإلزامية على الدروز في إسرائيل.
ففي بروتوكول الجلسة جاء: “قادة الجيش يأملون أن تكون العلاقات الوطيدة بين دولة إسرائيل والدروز مدخلاً لتمكين الجيش الإسرائيلي من العمل بين دروز سوريا، بهدف تقويض وزعزعة النظام في سوريا”. وذهبوا إلى أبعد من هذا، فقد تناولوا فكرة تقديم إسرائيل وعدًا للدروز، بإقامة حكم ذاتي لهم في منطقة جبل الشيخ، ضمن إطار دولة إسرائيل.
انطلاقًا من هذه الخلفية، فقد أقدم البرلمان الإسرائيلي عام 1956، على إقرار قانون يفرض الخدمة العسكرية على الدروز.
في السنوات الأولى، واجه هذا القانون رفضًا واسعًا، إلا أنه مع مرور السنين، وفي ظل الحكم العسكري الذي فرضته إسرائيل على كل مكونات الشعب الفلسطيني (إسلام، مسيحيين، ودروز)، توسعت دائرة الاستجابة بين صفوف الدروز لقانون الخدمة العسكرية.
وفي ذات الوقت، رسمت إسرائيل سياسات ومخططات تستهدف الدروز -الحلقة الأصغر والأضعف في المُكوّن الفلسطيني-، وراحت تعمل بكل ما لديها من إمكانيات ووسائل لفصل دروز فلسطين (البالغ عددهم يوم قيام الدولة العبرية أقل من 14 ألف نسمة) عن امتدادهم وعمقهم العربي، على مبدأ “فرّق تسُد”، ومارست سياسة “العصا لمن عصى، والجزرة لمن أطاع”، وقسمت الدروز إلى فئتين: فئة المتعاونين، تحظى بالجزرة، وفئة المناهضين، نصيبها العصا.
وعملت على منع تشكُّل مجموعة واحدة، حيث قامت بغربلة القيادات الدرزية، ولعبت على وتر التنافس العائلي، الذي ساهم في تحقيق الولاءات للدولة العبرية. وأكثر من هذا، فقد عمل ناشطو الحركة الصهيونية على إبعاد الدروز عن بيئتهم الطبيعية، مستخدمين سلاح الشائعات، فلم يتركوا أي حادثة أو خلاف بين دروز ومسلمين إلا وقاموا بتوظيفها في هذا الاتجاه، بل وذهبوا إلى أبعد من ذلك، وعملوا بالأكاذيب على تشويه سمعة الدروز.
وهنا أذكر شيئًا مما قرأته: أنه إبان العدوان الثلاثي على مصر وقطاع غزة عام 1956، تم ارتكاب مجزرة في مدينة خان يونس، راح ضحيتها قرابة 500 شخص، وحين تم تسريب خبر الحادثة، خرج متحدث باسم الجيش الإسرائيلي مُصرّحًا بأن من نفّذ هذه المجزرة هم المجندون الدروز، ودون تلقيهم أوامر مباشرة…، وذات الشيء فعلوه مع الدروز أيام الانتفاضة الأولى، والثانية، أيام رابين، عرّاب سياسة “كسر العظام”.
أكثر من أماط اللثام عن هذه العلاقة، وفضح كمائن الدولة العبرية لسلخ دروز فلسطين عن جسدهم العربي، وحاضنتهم القومية، وامتدادهم الثقافي، ودأب الحكومات الإسرائيلية على صناعة هوية درزية جديدة، عمادها الدين، وخلق “وعي درزي إسرائيلي” مضاد للوعي القومي العروبي، كان البروفيسور الراحل قيس فرو، الذي استقى المعلومات عن هذه العلاقة من الأرشيف الإسرائيلي، وجمعها في كتابه المشهور: “الدروز في زمن الغفلة: من المحراث الفلسطيني إلى البارودة الإسرائيلية”.
عام 1967، وفي إطار مشروعها التوسعي – الاستيطاني، أقدمت إسرائيل على شن حرب على الدول العربية المجاورة، والتي انتهت باحتلال سيناء والضفة الغربية، والجزء الأكبر من الجولان. ولعب حافظ الأسد (وزير الدفاع آنذاك) دورًا مفصليًا في سقوط الجولان بقبضة الاحتلال.
كانت الأوامر العسكرية لقوات الاحتلال “بتنظيف الجولان” من سكانه، باستثناء الدروز، وهذا ما حصل، حيث قام جيش الاحتلال بطرد 95% من سكان الجولان بالقوة إلى الداخل السوري، والبالغ عددهم ما يقارب 147 ألف نسمة، ومن ثم قام بتدمير قراهم بالكامل (340 قرية، إضافةً إلى مدينة القنيطرة)، لكي تقطع الطريق على إمكانية عودة السكان إلى بيوتهم، وبالتالي ضمان تحقيق مشروعها الاستيطاني في الجولان دون عوائق.
لم يتبقَّ في الجولان سوى ست قرى، خمس منها (مجدل شمس، مسعدة، بقعاثا، عين قنية، سحيتا) سكانها من أبناء الطائفة الدرزية وبعض العائلات المسيحية. أما القرية السادسة، وهي الغجر، فسكانها من أبناء الطائفة العلوية. وفي عام 1970، قامت قوات الاحتلال بتهجير سكان قرية سحيتا إلى قرية مسعدة، ثم دمرت القرية، كونها تقع على خط وقف إطلاق النار.
كثيرًا ما طُرح السؤال من المتابعين، وبحق، عن سبب استثناء القرى الدرزية من مشروع التطهير العرقي، الذي مارسته قوات الاحتلال بحق سكان الجولان. والجواب على هذا السؤال يقدمه مشروع إسرائيل لإقامة “الدولة الدرزية”، والذي تبلورت فكرته عام 1952.
وبالفعل، بعد احتلال الجولان، تواصلت إسرائيل مع شخصيات درزية من الجولان ولبنان بهذا الشأن، لكن سرعان ما تم إجهاض هذا المشروع وفضحه، من قِبل الذين تواصلت معهم، فأعادت إسرائيل أوراق المشروع إلى الدُرج، دون أن تتخلى عن الفكرة، لكنها أبقت عيونها على الدُرج، منتظرةً الفرصة المناسبة.
مع اندلاع انتفاضة الشعب السوري على السلطة الحاكمة، ولاحقًا ظهور سلطات عديدة على الأرض السورية، ارتأت إسرائيل أن الوقت أصبح مناسبًا لتكثيف العمل على تفتيت الدولة السورية، فسارعت إلى إنشاء قنوات تواصل مع فصائل كردية في شرق سوريا، تحرضهم على الانفصال، كما قامت بالتواصل مع شخصيات درزية في جبل العرب، وبدأت بعملية استقطاب مخفية في ثوب حملات تبرع، تم تنظيمها بين صفوف الطائفة الدرزية في إسرائيل، لإخوانهم في جبل العرب.
إضافةً إلى أنها قامت سرًّا بضخ أموال من الدولة إلى محافظة السويداء، لبناء بنية تحتية بشرية (عسكرية ومدنية)، تستخدمها لاحقًا في تنفيذ مشروعها التقسيمي، من خلال إقامة “الدولة الدرزية”.
بعد أربعة عشر عامًا من انطلاق انتفاضة الشعب السوري، وُلدت على الأرض السورية وقائع جديدة، تميّزت بسقوط النظام الأسدي، واعتلاء الثوار السلطة. وسريعًا، بدأت إسرائيل بتوظيف هذا التغيير لصالح مشروعها التوسعي، فقامت فورًا، بعد هروب الأسد وسقوط سلطته، وانسحاب جيشه من المواقع العسكرية، بإدخال قوات عسكرية إلى الأراضي السورية، واحتلت كل المواقع العسكرية في الخطوط الأمامية، أهمها معسكر شارة حرمون، الواقع فوق أعلى قمة في جبل الشيخ، والمشرف على العاصمة دمشق، ومناطق واسعة تمتد من لبنان حتى جنوب سوريا.
ثم قامت بتنفيذ مئات الغارات الجوية، ودمّرت البنية التحتية العسكرية للجيش السوري، ثم شرعت ببناء بنية تحتية عسكرية لها في المنطقة العازلة، بحجة أن السلطة الجديدة (الإسلامية) في سوريا تهدد أمنها.
على المقلب الآخر، سارع الصف الأمامي من قادة الدولة العبرية إلى تبنّي خطاب “حماية الأقليات” (خطاب الأسد)، ومارسوا التصعيد في تصريحاتهم بشأن “الأقليات” عامةً، مع التركيز على الطائفة الدرزية خاصةً.
ومنذ سقوط نظام الأسد، لم يوفّروا فرصة للكشف عن استعدادهم لتقديم كل مساعدة لدروز سوريا، فتارةً كان يخرج نتنياهو (رئيس الحكومة)، وتارةً جدعون ساعر (وزير الخارجية)، وأخرى يسرائيل كاتس (وزير الدفاع)، مُلوّحين بورقة حماية الدروز، ووصل الأمر بهم، في “حادثة جرمانا”، إلى إصدار تعليمات للجيش الإسرائيلي بالاستعداد لحماية الدروز، بزعم تعرضهم لهجوم من قبل قوات السلطة السورية الجديدة.
تصريحات قادة الدولة العبرية، بالتركيز على خطاب حماية الأقليات (الدروز في الجنوب، الأكراد في الشرق، والعلويين في الغرب)، يُراد منها ضعضعة الدولة السورية، من خلال إثارة الفتنة بين مكونات الشعب السوري، لإيقاف عجلة الاندماج في الدولة الجديدة، بما يخدم أجندات انفصالية، تلتقي مع أهداف إسرائيل في تقسيم سوريا إلى كيانات طائفية، يُسهّل لها السيطرة على هذه الكيانات، ويمنحها مساحة واسعة للتوسع في الجنوب السوري.
ففي كلمة له أمام تخريج دفعة جديدة من الضباط، طالب نتنياهو بجعل منطقة جنوب سوريا “منزوعة السلاح”، وقال: “لن نسمح لقوات تنظيم هيئة تحرير الشام أو للجيش السوري الجديد بدخول المنطقة جنوب دمشق”. وأضاف قائلًا: “لن نتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية في جنوب سوريا”، وتابع: “قواتنا ستبقى في قمة جبل الشيخ وفي المنطقة العازلة إلى أجل غير مسمى”.
مسار الأحداث في الفترة الأخيرة في السويداء يشير إلى أن إسرائيل نجحت في استقطاب متعاونين معها على الدفع بمشروع “الدولة الدرزية”، أو على الأقل مشروع الحكم الذاتي، كمرحلة أولى. فها هي قد نجحت في إنشاء مثلث درزي، أضلاعه: موفق طريف، شيخ الطائفة في إسرائيل، وحكمت الهجري، شيخ الطائفة في سوريا، ووئام وهاب في لبنان. فمواقفهم وتصريحاتهم وتحركاتهم تشي بأن إسرائيل ماضية على قدمين وساقين في مشروع “الدولة الدرزية”، وضعضعة استقرار سوريا.
ليس هذا فقط، بل هناك دول عربية مشاركة في هذا المشروع، وعلى رأسها الإمارات، إمارات ابن زايد، الذي استقبل قبل أشهر الشيخ موفق طريف بحفاوة. هذا الحدث والاستقبال الحميم تفوح منه رائحة التمويل. فهل ستكون الإمارات هي الجسر الذي سيمر عبره الدعم المادي واللوجستي لفصائل درزية مسلحة؟ وإلى أي مدى يمكن أن تمضي إسرائيل في مخططاتها قبل أن تذهب الأمور إلى مواجهة مباشرة مع الدولة السورية الوليدة حديثًا؟
السؤال شرعي، كون أحداث كثيرة في منطقتنا تشهد على أن الإمارات عرابة المؤامرات، وصانعة الفتن والخيانات.
من سوء حظ إسرائيل أن الساحة الدرزية في سوريا ولبنان ليست خالية، حتى تسرح وتمرح كيفما تشاء، فهناك في السويداء شيوخ عقل آخرون -الشيخ حمود الحناوي، والشيخ يوسف جربوع-، وفي لبنان هناك شيخ العقل سامي أبو المنى، والسياسي وليد جنبلاط، إضافةً إلى شريحة واسعة من الناشطين والأكاديميين، الذين لن يتركوا الأمور تسير كما تشاء قوارب الصيادين.
في ظل هذه الظروف، يبقى الخوف أن تأخذ الأمور منحى الصدام بين الإخوة، ولأن التاريخ لم ينتهِ بعد، فعلى الأهل في السويداء أن يدركوا جيدًا مخاطر الانجرار وراء الخطاب الإسرائيلي، الذي يتلاعب بورقة الحماية الطائفية، وأنّ مستقبلهم ليس في يد إسرائيل، بل في البقاء ضمن النسيج السوري، فالسقوط في فخ المشاريع التقسيمية ينطبق عليه المثل القائل: “من تحت الدلفة إلى تحت المزراب”.
إذا كان دروز فلسطين آنذاك طائفة لا يفوق تعدادها أربعة عشر ألف نسمة، غالبيتها العظمى أمية، وسوادها الأعظم فلاحين بسطاء، وفقراء موزعين على قرى جبلية صغيرة، شبه مقطوعة عن العالم الخارجي، وفي غفلة أخذتهم إسرائيل إلى ضفتها، دون أن يدركوا ما يُحاك ضدهم من سياسات ومؤامرات صهيونية، حتى وصل الأمر إلى إنتاج هوية جديدة لهم، بعيدة وغريبة عن سيرورتهم التاريخية، ويغلب عليها لون الانخراط في مؤسسات الدولة العبرية، خاصةً المؤسسة العسكرية، إلى حدّ التماهي، فماذا نقول اليوم، في زمن المعرفة، زمنٍ أمسى فيه العالم قرية صغيرة؟
بعد ثلاثة وسبعين عامًا من الخدمة في الجيش الإسرائيلي، ومنهم من حفظ نشيد “هتيكفا” (النشيد الإسرائيلي) عن ظهر قلب، ومنهم من تصهّين حتى آخر نفس، لكن في المقابل، كافأتهم الدولة العبرية بـ”قانون القومية”، قانون حدّد للكبير والصغير أن الدولة لليهود فقط، دون غيرهم.
قانون القومية الذي يُجسّد إرادة يهودية جماعية في تكريس التفوّق العرقي لليهود، ويؤسس لوضع سيادي، لا يُمكن تسميته إلا بـ”نظام الأبارتهايد”.
حين تصنع تاريخك بنفسك، فأنت قادر على البقاء، وحين يصنع الآخر تاريخك، فأنت إلى الزوال.
كتاب “دروز في زمن الغفلة: من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية” يحمل في طياته وصيّة لأجيالنا القادمة. وإذا كان المؤرخ قيس فرو قد وصف تلك الحقبة بزمن الغفلة، فإني أقول إننا اليوم في زمن الكشف.
وأخيرًا، لا أتمنى يومًا أن يأتي مؤرخ، ويكتب مؤلفًا عن دروز سوريا، تحت عنوان: “دروز في زمن الكشف: من المحراث السوري إلى بوز المدفع الصهيوني”.