صاحب نجاح النموذج التونسي في تخطي إحدى عقبات الانتقال السياسي المتمثل في الانتخابات الرئاسية التي أفرزت وصول المرشح المستقل، أستاذ القانون الدولي قيس سعيد (61 عامًا) إلى قصر قرطاج، جدل واسع عن جدوى وحيادية تغطية المؤسسات الإعلامية للاستحقاق، ودورها في نشر الوعي الديمقراطي بين فئات المجتمع من أجل تحقيق أهداف الثورة وشعاراتها.
ودفعت مفارقة فوز قيس سعيد برئاسة تونس على حساب شخصيات سياسية معروفة ومسنودة من أحزاب كبرى تملك الوسائل اللوجستية (ماكينة المال والإعلام)، إضافة إلى عدم ظهوره في وسائل الإعلام الخاصة كباقي المترشحين، إلى التساؤل بشأن قدرة الإعلام التقليدي بعد ثورة 14 يناير على مسايرة التغيرات السياسية والثقافية والاجتماعية المصاحبة للحراك المجتمعي في تونس، ودور موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” كمصدر ومنصة تستعرض فيها الجماهير قوتها في خلق البديل.
الإعلام تائه بين زمنين
وبعد أن كان الإعلام التونسي قبل 2011 خاضعًا لسلطة الدولة وتحت رقابتها (وكالة الاتصال الخارجي تخضع مباشرة لبن علي) تأتمر بأوامر المسؤولين وتنتهي بنهيهم، عاش القطاع حالة من الحرية والانفتاح لم يعهدها من قبل وظهرت جليًا في تعدد المؤسسات (15 قناة) و(45 محطة إذاعية) وعدد كبير من المواقع الإلكترونية والصحف الورقية، وهو ما أفضى إلى وجود ممارسات جديدة للعمل الصحفي أثارت انتقادات كثيرة في مناسبات عدة مما دفع ببعض المراقبين إلى الحديث عن أزمة إعلام وصحافة في تونس.
أصبحت بعض وسائل الإعلام في خدمة أجندات ومشاريع تدجين وتنميط مجتمعي تدفع التونسيون قسرًا إلى التماهي مع أصوات الثورة المضادة والعودة إلى المربع الأول لما قبل 14 يناير
يرى بعض الخبراء أن انحياز وسائل الإعلام الخاصة “المفضوح” في الاستحقاقات الانتخابية الأولى التي مرت بها تونس عقب الثورة، وخاصة في 2014 وتمترسها وراء زعيم حركة نداء الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، أولى العلامات الواضحة لنكوص جزء من هذه المؤسسات عن الحقوق والمكتسبات التي حققتها وتخييرها للعبة التقاء المصالح وزواج المال بالإعلام.
وعوضًا أن يكون “الإعلام الجديد” مكرسًا لثقافة المساءلة والنقد وفي خدمة دولة المؤسسات والمواطنة والقانون ومسارًا مستمرًا من أجل تحقيق أهداف ومتطلبات الثورة أصبحت بعض وسائل الإعلام في خدمة أجندات ومشاريع تدجين وتنميط مجتمعي تدفع التونسيون قسرًا إلى التماهي مع أصوات الثورة المضادة والعودة إلى المربع الأول لما قبل 14 يناير.
واستبدل بذلك النقاش في الشؤون العامة المختلفة والمتنوعة في الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أخرى تُغذي الاستقطاب الإيديولوجي وتُثير “الفتنة” المجتمعية وصلت لمرحلة التصادم بين أجزاء كبيرة من الشعب، عبر برامج الحوارات يغيب فيها المختصون والأكاديميون ويحضر فيها “الكرونيكور”.
أزمة الإعلام التونسي
وفي تصريح لـ”نون بوست” قال الأكاديمي التونسي والأستاذ بمعهد الصحافة وعلوم الاتصال صلاح الدين الدريدي، إنّ الإعلام التونسي يشكو من عدة هنات أهمها غياب الحرفية والمهنية في التعامل مع مختلف الأحداث التي عاشتها تونس وآخرها الانتخابات، مرجعًا ذلك إلى انعدام “الأجندة الإعلامية” وتقهقر المفهوم الوظيفي لـ”السلطة الرابعة” في مواجهة باقي السلطات، مضيفًا أنّ الإعلام التونسي بات أجيرًا أخلّ بوظائفه الرئيسية كالرقابة والنقد والتقويم، واعتنى بالاصطفاف السياسي وارتمى في أحضان السياسيين.
وبخصوص التغطية الإعلامية الأخيرة للاستحقاق الرئاسي، أوضح الدريدي أنّ “الإعلام لم يقم بدوره مهنيًا، جلّ متابعاته وتغطياته سلّطت الضوء على الأحزاب الكبرى والشخصيات المعروفة وأهملت باقي المرشحين ولم تتابع أنشطتهم ولم تستقرأ واقع تحركاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، الكل تحدث عن مفاجأة صعود قيس سعيد وسيف الدين مخلوف (ائتلاف الكرامة) ووصفه بـ”اللطخة (سقوط) السياسية”، ولكن في حقيقة الأمر اللطخة الأشد كانت من نصيب الإعلاميين والصحافيين، فهي لطخة مهنية وحرفية”.
وأضاف الأكاديمي التونسي أنّ البلاد تعيش أزمة في قطاع الإعلام والصحافة بسبب غياب منظومة متكاملة وشاملة تؤسس لإعلام وظيفي حر ومتوازن، واقتصاره على برامج تلفزيونية و”بلاتوهات” توجيه إعلامي مفضوح يؤثثها غير مختصين “الكرونيكور”، ويُمكن تسميتها بالـ”صحافة الجالسة” تقوم على النقل لا التفسير والاستقراء والنقد والبناء، يغيب فيها الحس الإعلامي والسياسي.
عدد من الصحفيين اتصلوا بي اليوم لآستطلاعي حول الحملة الفايسبوكية ضد بعض من الاعلاميين ومن وسائل الاعلام . من الاجابات…
Posted by Salaheddine Dridi on Friday, October 18, 2019
وفي سؤال لـ”نون بوست” حول تأثير الإعلام التقليدي (قنوات تلفزيونية) في الواقع التونسي ومتغيراته السياسية والاجتماعية، أكّد الدريدي أنّ “تونس تعرف مرحلة ما بعد الإعلام وهي نتيجة لانتشار سلطة الجمهور بفضل الإمكانيات التقنية المستعملة، نحن الآن في عصر تجاوزت فيه السلطة الجديدة كل النظريات الإعلامية التقليدية في انتاج المعاني والفكرة والصورة والخطاب بأنواعه سياسي اجتماعي اقتصادي، وأصبح هو المحدد لبعض المسارات والخيارات”، متابعًا القول: “هي أيضًا مرحلة ما بعد الحقيقة، وهي مرحلة تزييف الواقع وقصف العقول والتلاعب بالرأي العام، وكانت انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية وصعود ترامب إعلان لهذه المرحلة، حيث تم إغراق السوق باسم ترامب والاستعانة بجيوش إلكترونية وخوارزميات متطورة للإطاحة بمنافسته هيلاري كلينتون.
الكرونيكور تهديد للصحافة
بحسب الأكاديمي التونسي والأستاذ بمعهد الصحافة وعلوم الاتصال صلاح الدين الدريدي، يكون عادة الـ”كرونيكور” شخصًا على اطلاع واسع بعدد من القضايا وقادرًا على الخوض فيها ومناقشتها من خلال تملكه لأدوات التحليل المنهجي والسياسي المطلوب.
ويصف الباحث التونسي سامي براهم هذا الصنف من المادة الإعلامية التي يقدمها من يطلق عليه “الكرونيكور” والكرونيكوز بالمختلف عما يقدمه المحلل والخبير والأكاديمي حيث يكون المضمون وفق معايير الموضوعية والضبط مطلوبًا، إلا أنه في تونس يُستثمر كأداة استشهار لوجوه وشخصيات مثيرة للجدل في إطار منافسات الأوديمات حيث الأخلاق ليست معيارًا أمام قيم السوق القائمة على مبدأ من يرفع نسب المشاهدة أكثر أو يحافظ على سقفها.
وفي هذا الإطار، نشر مراسل بي بي سي في شمال إفريقيا بسام بونني تدوينة جاء فيها: “تخليص الإعلام من “الكرونيكور” بمعناه التونسي.. واجب! المعنى التونسي للكلمة: على الجانب الشخصي يفيد: شخص لا علاقة له بالصحافة حتى إن تسمى بها يفتي في كل شيء ومن دون أدنى خطوط حمراء في اللياقة واللباقة وهو أصلاً مكلف بمهمة في معظم الأحيان من صاحب القناة أو من صاحب صاحب القناة، على الجانب المهني: هو قاتل للمهنة ومعرض أصحابها الحقيقيين للخطر.. تقول Marie Peltier والكلام هنا في بلجيكا فما بالك في تونس”.
Posted by Lotfi Messaoudi on Tuesday, October 15, 2019
وفي تدوينة على حسابه بموقع فيسبوك كتب الصحافي التونسي محمد اليوسفي منتقدًا استعانة بعض القنوات بأشخاص غير أكاديميين لتحليل بعض الملفات ودورهم في حالة الانقسام المجتمعي من خلال آرائهم: “الكرونيكور مهنة من لا مهنة له، كناطرية أما المرة هاذي في قطاع الإعلام، مجرمون في حق القطاع والجمهور يتدثرون بعباءة حرية التعبير، سود وجهك تولي كرونيكور”.
الكرونيكور.. مهنة من لا مهنة له. كناطرية اما المرة هاذي في قطاع الإعلام. مجرمون في حق القطاع والجمهور يتدثرون بعباءة حرية التعبير. سود وجهك تولي كرونيكور.
Posted by Mohamed Yousfi on Tuesday, October 15, 2019
تذهب بعض التقييمات إلى أن الحريات الجديدة التي اكتسبت بعد الثورة في تونس لا تصنع بالضرورة إعلامًا جديدًا متماهيًا مع المتغيرات السياسية والاجتماعية يحمل رسالة توعوية قصد المشاركة في البناء السياسي ونقد الظواهر الهدامة، لأن الإعلام نظام متعدد الأبعاد لا يمكن اختزاله في الصحفي الحر الذي يحترم أخلاقيات المهنة ومواثيق الشرف، بل منظومة القوانين المنظمة للعمل الإعلامي والصحفي ينخرط فيها جميع الفاعلين من مؤسسات إعلامية وصحافيين وإعلاميين ونقابة الصحافة والهيئات الدستورية كالهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (Haika).
حراس البوابة وقوة الجماهير
وفي سياق ذي صلة، أكد الأكاديمي التونسي والأستاذ بمعهد الصحافة وعلوم الاتصال صلاح الدين الدريدي أن نظرية “حارس البوابة” (الرقابة التحريرية على المعلومات التي تبثها وسائل الإعلام) أصبحت تقليدية بأتم معنى الكلمة وهي مفهوم من العصر القديم ومصطلح لم يعد رائجًا في ظل المتغيرات التي يشهدها العالم على المستويات الاقتصادية والسياسية والتحولات الاجتماعية ناهيك عن التطور المطرد للتكنولوجيات الحديثة.
الدريدي: “تونس تعرف مرحلة ما بعد الإعلام وهي نتيجة لانتشار سلطة الجمهور بفضل الإمكانات التقنية المستعملة”
وبين الدريدي أن التكنولوجيات الحديثة مكنت من صعود سلطة الجمهور على حساب الإعلام التقليدي مدفوعةً بخصائص مهمة كالتفاعلية (تفاعل الجمهور مع المضامين والأخبار الأحداث)، والتشاركية ويُقصد بها التقاء مجموعة ما لتحديد أو تعريف مصطلح ما أو صناعة محتوى (ويكيبيديا)، مضيفًا أن صحافة المواطنة وحركة التدوين التي عرفها العالم العربي شكلت بدورها صورة من صور سلطة الجمهور وتأثيره في المتلقي بمجالات عدة اقتصادية كانت أو سياسية أو اجتماعية.
وأوضح الأكاديمي التونسي أنه بتطور التقنيات والتكنولوجيات الحديثة في مجال التواصل الاجتماعي، نمت سلطة الجمهور أكثر وأصبح تأثيرها جليًا، في مقابل ذلك تقلص دور الإعلام إلى درجة الحديث عن أزمة قطاع فقد ثقته وثقة الجماهير، ولم يعد يُنتج مضامينه واكتفى باستهلاك وإعادة التعاطي مع ما تطرحه سلطة الجمهور (فيسبوك وتويتر) من أخبار وصور وفيديوهات.
ويؤكد مختصون في مجال الإعلام والصحافة، أنّ قصور عمل الإعلام التقليدي وعجزه على مواكبة المتغيرات ساهم نشوء مفهوم الرأي العام الإلكتروني في شبكات التواصل الاجتماعي، وتحديداً الفيسبوك الذي أصبح منصة تثار من خلالها القضايا العامة والملفات الحارقة، وأصبح قوة جماهيرية تمارس ضغطها على السلطة التنفيذية، وتحمل هامشاً أكبر من حرية الرأي والتعبير، وكسرت كل الحواجز والقيود، وانفردت بقوة التأثير في صناعة المواقف ونشرها وتغذية ردود الفعل تجاهها، ولم تعد الجماهير كتلة سلبية متلقية للمعلومات بل أصبحت مصدرًا ومحركًا رئيسيًا في الواقع السياسي الجديد في تونس من خلال تأثيرها في نتائج الانتخابات وترجيح كفة قيس سعيد.
مراقبة وإصلاح
بين تراجع دور الإعلام في تونس و”تغول” سلطة التكنولوجيا الحديثة المتمثلة في مواقع التواصل الاجتماعي، يرى بعض المختصين أن الفيسبوك يساهم في تشظي المجتمع إلى جماعات صغيرة منغلقة على نفسها ومتصارعة ومجتمعة حول أنساق سياسية وفكرية وإيديولوجيات متنافرة (إسلامية، لائكية، قومية، تقدمية، ليبرالية)، ما يؤسس لنوع هجين من الاتصال يقوم على الريبة والشك وعلى تخمة من الأخبار والإشاعات (fake news) والصور وطوفان من الفيديوهات، وجب تعديل استخداماتها ومراقبتها خاصة أن المعلومات المنبثقة منها لم تصل بعد إلى درجة الموثوقية.
وعلى الجهة الأخرى، يؤكد الأكاديمي التونسي الصادق الحمامي في كتابه “الإعلام التونسي.. أفق جديد” أن بناء الإعلام الجديد الملتزم بالمعايير الكونية الديمقراطية والقائم على معايير المهنية، يمثل عملية مركبة طويلة المدى ويحتاج إلى شروط تشريعية (نصوص قانونية)، وآليات تنظيمية تضمن إدارة مستقلة للقطاع برمته، وإلى مؤسسات إعلامية قوية متطورة قادرة على إنتاج مضامين إعلامية ذات جودة عالية وصحفيين أكفاء وملتزمين بأخلاقيات المهنة في كل ممارساتهم.