لم يعد التغلغل الإسرائيلي في الجنوب السوري محصورًا بالقوة العسكرية، بل بدأت سلطات الاحتلال تهجّن تدخلها بأساليب القوة الناعمة، ولا سيما تجاه المكون الدرزي في السويداء، لتكريس نفوذ اجتماعي طويل الأمد عبر التصريحات التي تدعي السعي لحماية هذه الأقلية، وعبر مغريات أخرى.
أول أمس، الخميس 13 آذار/ مارس الجاري، وفي خطوة إسرائيلية مثيرة للجدل تهدف إلى استقطاب الدروز السوريين، أُعلن أن وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، أرسل 10 آلاف طرد من المساعدات الإنسانية.
المساعدات الإنسانية نُقلت إلى الدروز في سوريا بالتعاون مع رئيس الطائفة الدرزية، الشيخ موفق طريف، وبالتنسيق مع المجلس الديني الدرزي، وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وجهات أخرى في المنطقة.
وحسب الخارجية الإسرائيلية، فإن العملية تمت خلال الأسابيع الأخيرة، إذ نُقلت المساعدات إلى المناطق التي يقطنها الدروز في محافظة السويداء، إضافة إلى قرى درزية قريبة من الحدود الإسرائيلية، وأضافت على لسان وزيرها ساعر: “لدينا تحالف شجاع مع إخواننا الدروز، ومن حقهم أن نساعدهم في منطقة سنكون فيها دائمًا أقلية. من الضروري والحق أن نساعد الأقليات الأخرى.”
سبق المساعدات محاولة استمالة أخرى، إذ صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، أن “إسرائيل ستكون مستعدة للدفاع عن الدروز باعتبار أنهم يحظون بعلاقات جيدة معها، كما سيتم السماح للدروز من الجانب الآخر من الخط الفاصل بدخول هضبة الجولان للعمل في تجمعات مرتفعات الجولان”، في نموذج يشبه تشغيل العمال الفلسطينيين في “إسرائيل”، وكذلك العمال من جنوب لبنان خلال فترة الوجود الإسرائيلي هناك، حيث يستطيعون الحصول على رواتب أعلى بكثير مقارنة بفرص العمل المحدودة والأجور المنخفضة في سوريا.
وكانت تقارير إسرائيلية قد أفادت، في شباط/ فبراير الفائت، بأن تل أبيب بدأت العمل على “برنامج تجريبي من شأنه أن يسمح للدروز السوريين بالعمل في البلدات الإسرائيلية في مرتفعات الجولان”، بعد إطلاق مبادرة من أبناء دروز الجولان، الذين طلبوا من المسؤولين الأمنيين والعسكريين الإسرائيليين مساعدة إخوانهم الدروز عبر الحدود.
ومما يتوافق مع هذا البرنامج، ما ذكرته صحيفة “معاريف” الإسرائيلية، أنه وفقًا لبيانات التأمين الوطني الإسرائيلي، فقد تمّ البدء باستبدال ثلث العمال الفلسطينيين فقط بعمال أجانب آخرين يأتون إلى “إسرائيل” بموافقة الحكومة، ولكن أجور الأجانب في الصناعة هي ضعف أجور الفلسطينيين.
استقطاب أوسع
للمرة الأولى، منذ خمسين عامًا، دخل وفد من رجال دين دروز سوريين إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة بغرض زيارة قبر “النبي شعيب” في بلدة جولس، بالقرب من طبريا في الجليل الأسفل، بعد دعوة الزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز في دولة الاحتلال، موفق طريف.
الوفد، الذي اقتصر على رجال دين دروز من المناطق الواقعة في القنيطرة وريف دمشق من جهة جبل الشيخ، دخل ضمن ثلاث حافلات كبيرة من معبر عين التينة في الجولان، باتجاه قرية حضر السورية عند الشريط الفاصل مع الاحتلال، قبل أن يصل إلى مجدل شمس في الجولان المحتل.
ووصفت وكالة “رويترز” الزيارة بأنها “أحدث مؤشر على دعم إسرائيل للدروز” منذ وقف إطلاق النار في لبنان، والإطاحة المفاجئة بالرئيس السوري السابق بشار الأسد، فيما استنكر أهالي وعائلات قرية حضر الدرزية في الجولان السوري المحتل الزيارة عبر بيان لهم.
وأكدوا أن “إسرائيل”، التي لم تكن يومًا حريصة على حقوق الأقليات، تستغل هذه الزيارة الدينية كأداة لزرع الانقسام في الصف الوطني، وتسعى لاستخدام الطائفة الدرزية كخط دفاعي لتحقيق مصالحها التوسعية في الجنوب السوري.
تشير صحيفة “معاريف” الإسرائيلية إلى أن “إسرائيل” مهتمة بالقرى الدرزية الواقعة على الكتف الشرقي لجبل الشيخ، وتدرك أن حسن الجوار مع سكان القرى الدرزية في مرتفعات الجولان السورية قد يزيد من أمنها القومي شمال مرتفعات الجولان.
وتحاول “إسرائيل” تقديم نفسها على أنها الجهة الوحيدة القادرة على حماية الدروز والحفاظ على حقوقهم في المنطقة التي يعيش فيها نحو 150 ألف درزي تحت حكمها، ويعتبر غالبيتهم أنفسهم إسرائيليين ويخدمون في الجيش إجباريًا، منذ العام 1956، في إطار ما يُعرف بـ”حلف الدم”، بينما يقيم 23 ألف درزي في هضبة الجولان، ويتمسك غالبيتهم بالهوية السورية، ويرفضون الجنسية الإسرائيلية والخدمة في الجيش، فيما يُقدَّر عدد الدروز في سوريا بحوالي مليون نسمة، يشكلون قرابة خمسة في المئة من سكان سوريا، حسب إحصاءات غير رسمية، يتمركز أكثر من تسعين في المئة منهم في محافظة السويداء، بينما تنتشر البقية في تجمعات ريفية في محافظات إدلب والقنيطرة وريف دمشق.
وفي ذروة تعقيد الواقع الإقليمي، الذي تتشكل فيه الحكومة السورية، تسعى “إسرائيل” إلى فرض حضور في المعادلة السورية، فبحسب موقع “أسباب” للشؤون الجيوسياسية، فإن الاختراقات الإسرائيلية والتدخلات الجارية بملف الأقليات وفرض واقع جديد في الجنوب يمنح الاحتلال وضعية تفاوضية جيدة ضمن أية تسويات مستقبلية لهذا الواقع المعقد.
ويبدو أن الوضع تجاوز ذلك، فقصف مواقع سورية في الجنوب، والسيطرة على مصادر المياه، وتقدم آليات عسكرية، وبناء قواعد، والقيام بإحصاء سكاني، كلها مقدمات تشير فعليًا إلى تنفيذ خطة لإنشاء إقليم درزي منفصل عن سوريا.
يقرأ الباحث في مركز جسور للدراسات، وائل علوان، المشهد في الجنوب السوري على أن هناك استقواءً من قبل القوى الداخلية الدرزية، لا سيما “الهجري” ومعه “المجلس العسكري”، بالمحركين الخارجيين، وعلى رأسهم “إسرائيل”، بسبب وجود نزاع داخلي وتنافس على الزعامة والسلطة بين القوى السياسية والمجتمعية في السويداء.
مضيفًا في حديثه لـ”نون بوست” أن “إسرائيل”، من حظها ومن مكاسبها، أن تدعم هذه المجموعات عبر التصريحات السياسية، وإرسال المساعدات، والوعود بتشغيل الشباب وتأمين فرص العمل، لتحقق خرقًا داخليًا ضمن البيئة المجتمعية في السويداء، التي ترفض بمعظمها أي علاقة أو تعاون مع “إسرائيل”، لكن التنافس والصراع الداخلي أوجد هذه الثغرة التي تستثمرها “إسرائيل” وتستغلها بشكل كبير جدًا.
التغلغل في المجتمع الدرزي
يريد الاحتلال الإسرائيلي تحويل الدروز إلى حرس حدود لكيانه، وإقامة كانتون درزي يشمل المناطق التي تقدم فيها في الجنوب السوري، ولا سيما ريف درعا الغربي، ومنه إلى جبل العرب، ثم إلى جبل الشيخ والقنيطرة.
ولربما تابع مشروعه حتى مناطق حاصبيا وراشيا في لبنان، إضافة إلى منطقة الشوف ومحيطها، ذات الكثافة الدرزية من جهة، والقريبة شرقًا من جبل الشيخ من جهة أخرى، مع تعهدات بتحسين الوضع الاقتصادي والأمني.
تشير عدة كتب، ومن ضمنها كتاب محمد خالد قطمة، قصة الدولتين المارونية والدرزية، الصادر في بيروت عام 1985، إلى مراسلات إسرائيلية إبان حرب حزيران 1967 حول مشروع قيام كيان خاص بالدروز على خلفية احتلال الجولان.
وحسب المخطط الإسرائيلي، فإن “إسرائيل” تشن هجومًا على جنوب سوريا لتصل إلى جبل الدروز هناك، وبالمقابل تشن هجومًا انطلاقًا من جنوب لبنان لتصل إلى جبال الشوف، بذريعة الوجود الفلسطيني، ثم يُعلن قيام دولة درزية تمتد من جنوب سوريا، مرورًا بالجولان، وصولًا إلى جبل الشوف، وتكون عاصمتها السويداء أو بعقلين في لبنان، ويكون معترفًا بها أمريكيًا وإسرائيليًا، وبالتالي تشكيل حزام درزي بين “إسرائيل” والجانب العربي.
ومع ما تعانيه محافظة السويداء، ذات الأغلبية الدرزية، من واقع اقتصادي متردٍّ في ظل غياب مؤسسات الدولة الجديدة وارتفاع نسب البطالة بين صفوف الأهالي، وخاصة أن المحافظة فقيرة بالموارد الحيوية وتعتمد على الزراعة فقط، كما لم تشهد أي تغيرات اقتصادية أو اجتماعية في عهد الأسدين، لكونها معزولة ومهمشة كحال كثير من المناطق والمدن السورية الأخرى، فإن الجانب الإسرائيلي وجد الفرصة مواتية لتقديم عروض مغرية للسكان المحليين، من تقديم مساعدات مع استغلاله توظيف الانتماء المذهبي، واختراقه النخب ورجال الدين الدروز الفلسطينيين، الذين ساهموا في نمو تيار داخل البيت الإسرائيلي لحماية الدروز في جنوب سوريا كامتداد لدروز “إسرائيل”.
يشير جمال الشوفي، وهو ناشط سياسي في السويداء، إلى أن “إسرائيل” تعمل على التغلغل في المجتمع الدرزي عبر استغلال الأوهام المتعلقة بإدارة ذاتية أو فيدرالية عند القلة الذين لم يستطيعوا التأقلم مع المرحلة الحالية من عمر الدولة السورية، إضافة إلى استغلال أصحاب الحاجة والشباب العاطل عن العمل، كما تمّ استغلالهم من عصابات الأمن السوري في عهد المخلوع بتجارة وترويج المخدرات.
مضيفًا لـ”نون بوست”، أن “إسرائيل” تتبع نهج الأسد المخلوع بادعائه حماية الأقليات في سوريا واستثمارهما لنفس الورقة، وما هذا إلا عبث سياسي أثبتت السويداء، بكل لحظة في تاريخها الوطني ومظاهراتها في ساحة الكرامة، وبالرفض الشعبي، أنها لا تقبل بهذه الحماية، من نظام الأسد بدءًا، وصولًا إلى “إسرائيل”، التي تريد من وراء ذلك كله الضغط وابتزاز المرحلة الحالية في سوريا.
ويعلّل الشوفي ذلك الابتزاز برغبة “إسرائيل” في تحقيق مصالحها في أمنها القومي، من خلال تغيير اتفاقية 1974، اتفاقية “فض الاشتباك”، وترسيم حدودها في الجولان وإطلالتها على جبل الشيخ، إضافة إلى رغبتها في الاستفادة من خيرات الجولان بشكل كامل وفق القانون الدولي.
خيارات دمشق
ينقسم الشارع الدرزي في السويداء إلى موقفين: موقف الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في السويداء، والرافض لحكومة دمشق بالمجمل، أما الموقف الثاني، الذي يمثل غالبية المحافظة، فهو موقف الشيخ يحيى الحجار، قائد حركة رجال الكرامة، إضافة إلى “لواء الجبل”، المواليَين لحكومة دمشق والمعاديَين للاحتلال، وهو ما يعكس انقسامًا واضحًا بين أبناء الطائفة ذاتها.
فيما تتباين مواقف المرجعيات الدينية الثلاث في السويداء أيضًا، فمواقف حمود الحناوي ويوسف الجربوع رافضة لأي مشاريع انفصالية في المحافظة، على عكس الهجري، الرافض لتسليم السلاح وحلّ الفصائل، والداعي إلى تدخل دولي يضمن إنتاج دولة مدنية.
تواجه الحكومة السورية الجديدة خيارات محدودة في ظل الاختلال الكبير في موازين القوى العسكرية مع “إسرائيل”، ويبدو أنها أمام حقل ألغام كبير، وسيناريوهات محتملة تستطيع من خلالها وقف التمدد الإسرائيلي ومنع انزلاق المحافظة في أتون توترات أمنية وانقسامات داخلية جسيمة، أو فتح باب الوصاية الإسرائيلية ونيل الفرصة الذهبية للتدخل في المحافظة.
فحسب دراسة لمركز “حرمون” للدراسات المعاصرة، فإن الحكومة أمام اتفاق كامل مع المجموعات المسلحة، ويتضمّن هذا السيناريو حدوث اتفاق على مستويين متتاليين: الأول بين فصائل المدينة على المطالب المحلية، والآخر مع الدولة. وسيكون هذا السيناريو هو الأنجع، في حال حدوثه.
أما السيناريو الثاني، فيكون اتفاقًا جزئيًا بين بعض الفصائل المحلية والدولة، وبذلك تكون المجموعات المسلحة على موقفين: موقف مع الحكومة، وموقف ضدها. وهنا يبرز دور المرجعيات الدينية، وأولهم الشيخ حكمت الهجري، فإما أن يكون للمرجعيات دور في إيصال المجموعات المسلحة إلى اتفاق داخلي، وإما أن تزيد التمترس في الخلافات التي قد تؤدي إلى تهديد السلم الأهلي في المحافظة عبر مواجهة مباشرة.
فيما تُصرّ إسرائيل على تعزيز وجودها ونفوذها في الجنوب السوري، لا سبيل أمام الحكومة السورية سوى الدفع نحو تعزيز الجهود الدبلوماسية للضغط على “إسرائيل” لوقف تصعيدها رغم ضعف نتائجها
فيما يكون السيناريو الأخير متمثلًا بغياب الاتفاق بين المجموعات المسلحة والدولة، وهذا السيناريو هو الأكثر سلبية على المشهد الوطني السوري، وسينعكس على شكل تدخل دولي يدعم السويداء، وقد يكون التدخل إسرائيليًا.
تعليقًا على السيناريوهات المحتملة وأوراق الحكومة السورية الجديدة، يرى خالد خليل، باحث في الشؤون الإسرائيلية، أن أغلب الأصوات الدرزية السورية وطنية ورافضة لعروض “إسرائيل” ووعودها البراقة، فتل أبيب تبحث عن حليف لفرض واقع أمني جديد في المنطقة عبر استجرار الطائفة الدرزية والبحث عن مبررات للتدخل وإحراج الحكومة السورية، بعد خسارة نظام الأسد.
مضيفًا لـ”نون بوست”، أن التوصيات التي تصدرها مراكز الأبحاث الإسرائيلية تنبّه إلى عدم اعتماد “إسرائيل” على الخيار العسكري في التوغل والسيطرة على جبل الشيخ والمنطقة العازلة فقط، بل الذهاب نحو استمالة السكان الدروز عبر المغريات المالية والمساعدات وتقديم فرص العمل، لا سيما أن “إسرائيل” تنظر إلى المجتمعات العربية بنظرة استشراقية استعلائية، في دعمها للأقليات وتصويرهم أنهم في خطر، وأنها الحامي لهم.
من جهته، يتفق الباحث علوان على أن الرئيس السوري، أحمد الشرع، مطمئن إلى وجود قسم كبير جدًا من القوى السياسية والمجتمعية في السويداء الرافضة لتدخل “إسرائيل” والتعاون معها، لكن في الوقت نفسه، لا يمكن إنكار الأدوات التي تمتلكها “إسرائيل”، فهي تحتاج إلى مجرد ذريعة، وهذه الذريعة حاضرة، فالموضوع مقلق، ويحتاج إلى تحرك الفواعل المجتمعية داخل السويداء من أجل قطع الطريق على “إسرائيل” بسرعة.
ختامًا، فيما تُصرّ “إسرائيل” على تعزيز وجودها ونفوذها في الجنوب السوري، لا سبيل أمام الحكومة السورية سوى الدفع نحو تعزيز الجهود الدبلوماسية للضغط على الاحتلال لوقف تصعيده رغم ضعف نتائجها، لكن الأهم، وغير المختلف فيه، هو تعزيز دمشق وجودها الإداري والأمني، ولا سيما في محافظة السويداء، والبدء بدعم السكان المحليين، وتعزيز تماسك المجتمع السوري، وإفشال أي محاولات لإثارة الفتنة عبر الفصائل المحلية الدرزية الوطنية.