يعتبر العراق من أوائل بلدان المنطقة التي انطلقت في بناء مجتمع مدني يقوم على أسس اقتصادية واجتماعية واضحة المعالم أخذت بنظر الاعتبار الطبيعة التاريخية والجغرافية والدينية والتقاليد والأعراف لسكان المجتمع المتنوع باختلاف مسمياتهم وانتماءاتهم، إلا أن الأزمات المجتمعية التي لم تُعالج وتم تأجيل حلها أو تحفيزها عمدًا في فترة ما بعد 2003 جعلت المجتمع العراقي يعيش حالة من التشظي ويصعب تلاحمه مرة أخرى، فلم يعد الشعب العراقي قوي الروابط ومنسجمًا ومؤتلفًا، إنما تكتلات بشرية قسمتها الخلافات السياسية بعد أن هبطت إلى القاع الاجتماعي ومزقته.
يرتكز الاستقرار المجتمعي على 3 ركائز رئيسية تؤثر عليه بشكل كبير في نهاية المطاف، وهي: الاستقرار السياسي والاستقرار الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، حيث تقود هذه الركائز في النهاية إلى استقرار المجتمع ككل.
المدن العراقية حاجاتها مختلفة ودون مشاريع حقيقية تعالج مشاكلها العالقة
سياسيًا، يعتمد الاستقرار السياسي بشكل أساسي على احترام الدستور والقانون وإيمان كل طرف سياسي بأهمية “العقد الاجتماعي” الذي قامت عليه السلطة السياسية داخل الدولة وأثر ذلك على استقرارها سياسيًا وبالتالي أمنيًا، ناهيك عن وجود آليات واضحة للتعامل مع المشاكل السياسية دون استخدام العنف والميليشيات وتوظيف الإرهاب. من جهة أخرى يرى صموئيل هنتغتون أن الاستقرار السياسي يتأثر بوجود مطالب سياسية وعدم استجابة المؤسسات السياسية لها كما هو الحال اليوم مع تسويف مطالب المتظاهرين وتقديم الحلول الترقيعية، فكلما ازدادت المطالب كان عدم الاستقرار أكبر، وتتناسب المطالب السياسية والاستجابة لها تناسبًا طرديًا مع بعضهما البعض، علمًا بأن تجاهل المطالب أو استخدام العنف ضد المطالبين ليس حلًا، لأن التجاهل والعنف لا يُلغيان حقيقة وجود حاجة حقيقية للمطالبين بها.
إن المدن العراقية حاجاتها مختلفة ودون مشاريع حقيقية تعالج مشاكلها العالقة، فمدينة البصرة مثلًا لا تزال تعاني من الفقر والبطالة وتلوث المياه ولم تُلب حاجات ساكنيها، إنما عولجت بالقمع والاغتيالات من الميليشيات مؤخرًا وتراشق التهم والمسؤوليات بين السلطات والمسؤولين.
أما مدينة الموصل لا تزال هي الأخرى تعاني من الإهمال ومدمرة وبحاجة لإعادة إعمار ونفخ روح الحياة الاقتصادية والاجتماعية فيها بعد استعادتها من قبضة داعش بمنطق “التحرير بالتدمير”، ناهيك عن وجود مشاكل في مدن منسية أخرى لا تقل أهمية عن الموصل والبصرة اللتين تعتبران من أكبر مدن العراق بعد بغداد وتعانيان من أزمات تنتظر حلول.
في ذات السياق، هناك عدد من المؤشرات السياسية التي يمكن من خلالها قياس هل هناك استقرار سياسي أم لا في أي بلد من البلدان في العالم التي من ضمنها العراق، أهمها: عدد الاغتيالات السياسية داخل الدولة وعدد وحجم المظاهرات في المدن ودرجة مقبولية وشرعية الحكومة من المجتمع ودرجة الولاء والانتماء للوطن ولهويته الوطنية وليس للهوية الفرعية ومعدل التغيرات في المناصب الحكومية وعدد القتلى في كل شهر والحروب الأهلية وحجم الفساد السياسي ودرجة احترام القانون والدستور وغيرها الكثير من المؤشرات السلبية التي يعاني منها العراق منذ فترة ما بعد 2003 وإلى اليوم.
الاستقرار الأمني والسياسي يؤثران سلبًا على الاستقرار الاقتصادي، وهناك مؤشرات اقتصادية عديدة تعطينا تصوّرًا عن عدم الاستقرار الاقتصادي كاعتماد الدولة على الاقتصاد الريعي وفشل التخطيط الاقتصادي ووجود مشاريع وهمية أو غير ذات جدوى
إن العامل الأمني له تأثير كبير على الاستقرار الاقتصادي والاستقرار السياسي وهي معادلة تشبه أضلاع المثلث يؤثر كل ضلع على الآخر في حال حصول أي تغيير يحمل ارتدادات، فالوضع الاقتصادي داخل الدولة يعتمد على الوضع السياسي والأمني في المجتمع، لأنه يعتمد بشكل أساسي على قلة الأخطار الناتجة عن عدم الاستقرار السياسي والعكس صحيح، وذلك لأن الاستثمارات تتدفق على المجتمع بشكل ثابت عند وجود الاستقرار السياسي لأن المستثمرين أول ما يبحثون عنه في دراسة جدوى مشاريعهم هو الأمن والاستقرار لنجاح استثماراتهم، فغياب الأمن لا يشجع على النمو وبناء اقتصاد مزدهر لذا لن يخاطر المستثمر بماله وسيتضرر الاقتصاد في النهاية.
الاستقرار الأمني والسياسي يؤثر سلبًا على الاستقرار الاقتصادي وهناك مؤشرات اقتصادية عديدة تعطينا تصوّرًا ونتيجة عن عدم الاستقرار الاقتصادي كاعتماد الدولة على الاقتصاد الريعي وفشل التخطيط الاقتصادي ووجود مشاريع وهمية أو غير ذات جدوى والتراجع في النمو الاقتصادي وانعدام الاستثمارات الخارجية والفساد المالي وغسيل الأموال والتهريب والتراجع الكبير في القطاع الصناعي والزراعي وانتشار الفقر والبطالة بنسب مرتفعة، فجميع هذه المؤشرات لها نصيب في عدم استقرار الاقتصاد العراقي المعتمد على النفط وأسعاره المتذبذبة والمرتبطة بالأسواق العالمية والتوترات الإقليمية التي يتأثر بها العراق بشكل مباشر لأن هناك دول (كإيران) تعتبر العراق ساحة لتصفية حساباتها وتعتاش مشاريعها على عدم الاستقرار السياسي والأمني، كما تعتبر العراق رئتها الاقتصادية لتنفيس ضغط العقوبات الأمريكية عليها، ناهيك عن استخدامه كخندق لمواجهة الأخطار الأمريكية المحتملة عليها.
عدم الاستقرار المجتمعي هو النتيجة النهائية للتأثر المتبادل بين عدم الاستقرار الاجتماعي الذي يتأثر بدايةً بعدم الاستقرار السياسي ومن ثم الاقتصادي والاجتماعي، فانعدام الاستقرار السياسي دفع إلى حدوث عدم الاستقرار الاقتصادي وأحيانًا يحدث العكس في بعض بلدان العالم الثالث بسبب السياسات الاقتصادية الفاشلة وعدم القدرة على خلق وظائف تستوعب جيوش العاطلين عن العمل وعدم قدرة الحكومة على الاستجابة للمطالب الشعبية التي تدفع الناس للخروج إلى الشارع أو الانضمام لجماعات العنف أو أعمال الشغب ضد النظام السياسي، إلخ.
تفاقم الأزمات أو تأجيل حلها عن طريق استخدام العنف وقمع المتظاهرين، يؤدي إلى عدم الاستقرار المجتمعي على المدى البعيد بسبب حالة المجتمع والضغط المتراكم اجتماعيًا.
أخيرًا، العراق اليوم يشهد استقرارًا ظاهريًا لكن وضعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتداخل يعتبر حرجًا جدًا ويُنذر بمشاكل كبيرة، لعدم تقديم حلول حقيقية لكل أزمة بسبب ضعف الحكومة وتغول الأحزاب المتنفذة والمليشيات التي تعيق بناء مؤسسات الدولة وتقديم إصلاحات حقيقية، ناهيك عن وجود صراع نفوذ واستقطاب إقليمي حاد، حيث يرغب كل طرف أن يكون العراق في خندقه العسكري والسياسي، رغم أن البلد لم يعد قادرًا أن يكون طرفًا في أي محور لأنه سيتضرر بجميع الأحوال لوجود نفوذ إيراني كبير ومتغلغل في جميع الملفات العراقية ويستطيع إدخال العراق بمتاهات جديدة لن يخرج منها إلا بمزيد من الدماء.