تفجّرت حالة كبيرة من الغضب الشعبي في لبنان وذلك احتجاجًا على الإجراءات التقشفية وفرض الحكومة اللبنانية رزمة جديدة من الضرائب منها ضرائب متعلقة بتطبيق واتساب للاتصالات، ورغم أن الحكومة تراجعت عن الرسوم الأخيرة، إلا أن آلاف اللبنانين تدفقوا إلى الشوارع مطالبين برحيل القيادة السياسية التي اتهموها بالفساد والعجز عن إدارة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد.
وتتسم المظاهرات الحاليّة في لبنان التي بدأت يوم الخميس 17 من أكتوبر بانتشارها الجغرافي وتنوعها الديمغرافي والمناطقي، إضافة إلى لامركزية الاحتجاجات التي توحدت جميعها تحت مطلب واحد وهو إسقاط الحكومة وجميع رموز السلطة اللبنانية وقواها الحزبية، لذلك ارتفع صوت الثائرين في الميادين قائلين بصوت واحد ومرتفع “كلن يعني كلن” بمعنى تحميل كل أحزاب السلطة والقوى السياسية مسؤولية تردي الوضع المالي والاقتصادي في البلاد، وتعد هذه التظاهرات الأكبر التي يشهدها لبنان منذ أعوام وتختلف عن سابقتها بمشاركة جميع أطياف الشعب فيها من مختلف الطوائف.
خصوصية الوضع الاجتماعي والسياسي في لبنان
يوجد في لبنان 18 طائفة 6 منها لها حضور سياسي مهم وهي: السنة والشيعة والموارنة والأرثوذكس والكاثوليك والدروز، وقد تغيرت التركيبة الديمغرافية للبنان كثيرًا في السنوات الأخيرة، وبالنسبة للنظام السياسي في لبنان فإنه يقضي منذ استقلاله عن فرنسا عام 1943 بتولي مسيحي ماروني رئاسة الجمهورية، ومسلم سني رئاسة الحكومة، ومسلم شيعي من أجل رئاسة مجلس النواب.
والتقاسم الطائفي للمناصب في لبنان لا يقتصر على تلك الرئاسيات الثلاثة، بل يمتد ليشمل كل المناصب المهمة، فرئيس الجيش ماروني ووزير الداخلية سني ومدير المخابرات العسكرية شيعي ومدير قوى الأمن الداخلي سني، وبسبب هذه البنية الطائفية للنظام السياسي في لبنان لا يمكن اتخاذ أي قرارات كبرى دون توافق جميع القوى السياسية الموزعة على أساس طائفي، فعلى سبيل المثال منذ مايو 2014 وحتى 2016 فشلت 45 جلسة لمجلس النواب في انتخاب رئيس الجمهورية خلفًا للرئيس اللبناني ميشال سليمان وذلك بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني بسبب عدم توافق القوى السياسية اللبنانية.
في 13 من أبريل 1975 اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية واستمرت حتى عام 1990 وسقط خلال هذه الحرب أكثر من 150 ألف قتيل و20 ألف مفقود بالإضافة إلى تشريد ونزوح مئات الآلاف، واستمرت الحرب حتى أقر النواب اللبنانيون وثيقة الوفاق الوطني في مدينة الطائف بالسعودية.
كيف جسد الأدب اللبناني تاريخ وجذور الصراع الطائفي؟
قدم الأدب اللبناني عشرات الروايات التي تمخضت عن الصراع الطائفي في لبنان، كما رصد الأدب جذور الحرب الأهلية اللبنانية بتداعيتها ونتائجها: كيف بدأ الصراع المسلح بين الطوائف اللبنانية؟ ما الآثار المادية والنفسية المدمرة التي خلفها صراع الطوائف؟ ومن أشهر الروايات اللبنانية التي تقف على جذور وتاريخ الصراع الطائفي اللبناني:
“طواحين بيروت”.. رواية تنبأت بالحرب قبل اندلاعها
كُتبت رواية طواحين بيروت للأديب اللبناني توفيق يوسف عواد قبل عامين من اندلاع الحرب الأهلية، وبدا أن الكاتب يتنبأ بها، إذ رسم في روايته صورة سوداء عن مدينة بيروت في منتصف السبعينيات حيث كانت حينها ومن خلال أحداث الرواية مختبرًا للأفكار والأيدولوجيات والأحزاب، وكانت ملجأ للطلاب الجامعيين ومأوى لمرتادي الحانات الليلية، في طواحين بيروت يحكي عواد عن تناقضات المجتمع اللبناني والشيء الذي لاح في الأفق القاتم من انهيار للنسيج الوطني الاجتماعي.
تضيع تميمة بين النموذجين المتناقضين، وبعد ذلك تدخل في صراع كبير مع شقيقها جابر الذي يمارس عليها سلطته الذكورية في الوقت الذي يرتاد فيه الحانات والمواخير
وتحكي رواية “طواحين بيروت” قصة البطلة تميمة أيقونة مدينة بيروت صاحبة الآراء الرافضة للقيم والتقاليد المجتمعية، تتعرف تميمة على الكاتب الصحفي رمزي رعد، وهو شخص نرجسي وعبثي محرض. تقع تميمة في حب رمزي الذي أوقعها في الفخ ولكنها تبتعد عنه أثناء أحد الاحتجاجات الطلابية لأنها تدرك أنه محرض هدفه إثارة الفوضى بين الطوائف، وخلال المظاهرات تتعرف تميمة على هاني الطالب الجامعي الذي يدرس في كلية الهندسة، كان هاني رمزًا للبطل المعتدل الإيجابي الذي يدعو إلى التظاهر دون استخدام العنف، تشعر تميمة ببعض العاطفة تجاه هاني ولكنها تتذكر أنه مسيحي وطوال أحداث الرواية تظل تميمة ضائعة بين نموذج رمزي السلبي الذي علمها التمرد على كل شيء وحتى عائلتها وهاني الذي حدثها عن الاعتدال.
تضيع تميمة بين النموذجين المتناقضين، وبعد ذلك تدخل في صراع كبير مع شقيقها جابر الذي يمارس عليها سلطته الذكورية في الوقت الذي يرتاد فيه الحانات والمواخير، ويصل الصراع بينهما إلى محاولة جابر لقتل تميمة بإطلاق النار عليها ولكنه لا يصيبها وتأتي الرصاصة في صديقتها ماري أبو خليل التي تموت في الحال، وهنا تهيم تميمة على وجهها في شوارع بيروت، وأمام إحساسها بالضياع تقرر الالتحاق بصفوف المقاومة الفلسطينية لأنها أخيرًا وجدت في كنفهم معنى التضحية التي تقاوم الظلم.
بين طيات الرواية وفي خلفية الأحداث يحكي عواد عن الشرخ الذي أصاب المجتمع اللبناني، التفكك والتخبط وفقدان الشعور بالانتماء ومحاولة البحث عن الهوية والخيبات التي أصابت شخصياته، أما طواحين بيروت فهي ليست طواحين هواء ولكنها طواحين من فولاذ، راحت تطحن شخصيات الرواية طحنًا وفي مقدمتهم البطلة تميمة نصور.
“رواية التائهون”.. الثمن الفادح للصراع الطائفي اللبناني
طوال 555 صفحة هي عدد صفحات رواية التائهون يحكي لنا الأديب اللبناني أمين معلوف بحس سردي جميل أحداث جيل بأكلمه ومعاناة قرن برمته وما خلفته تلك المعاناة في نفوس أصحابها، ويستلهم معلوف أحداث روايته من مشاهد حياة مجموعة من الأصدقاء “الشلة البيزنطية” كما أطلق عليهم، وتضم تلك المجموعة أصدقاء من كل الأطياف: حالمين، ماركسيين، مسيحيين، يهوديين، مسلمين فرقتهم الحرب ومزقتهم وألقت بهم في أصقاع الأرض.
الرواية مقسمة على 16 يومًا، يبدأ اليوم الأول باستيقاظ بطل الرواية آدم على صوت زوجة صديقه “تانيا” التي تخبره بأن صديقه مراد يحتضر ويريد أن يراه قبل أن يموت، يتردد آدم في الذهاب لرؤية صديقه خاصة أنه قاطعه منذ 25 عامًا، وفي النهاية يقرر آدم السفر لرؤية صديقه وفي الطريق يتذكر تعارف الأصدقاء التسع ” آدم، بلال، مراد، تانيا، سمى، رمزي، رامز، ألبير، نعيم” قبل اندلاع الحرب الأهلية، ثم يتذكر آدم مشاهد الحرب الموحشة التي فرقت بينه وبين أصدقاء عمره، اتصلت تانيا ببقية الأصدقاء مثلما فعلت مع آدم وفي الطريق أحس آدم بسعادة بالغة لأنه أخيرًا سيرى أصدقاءه ولكن هذا لم يحدث لأن سيارة آدم سقطت من فوق الجبل ودخل هو في غيبوبة كاملة.
رواية التائهون تفضح ببراعة انتكاسة جيل بأكمله عايش الحرب الأهلية ومزقته الصراعات الطائفية وشتت أفراده، وبين طيات الرواية يثير معلوف على لسان أبطاله الكثير من التساؤلات الفلسفية بشأن جذور الوضع في لبنان وتاريخ هذا الصراع الدامي وهل من الممكن أن ينتهي هذا الصراع يومًا ما؟
رواية “الذكريات الملغاة”.. الآثار النفسية التي خلفتها الحرب الأهلية
في فن الرواية هناك نوعان من الواقعية: الواقعية المجتمعية التي تنقل الواقع كما هو دون أن تفتش عما خلفه وهي واقعية استنفدت أغراضها أواخر القرن الماضي، وهناك الواقعية النفسية التي تهدف إلى تشريح الواقع والإشارة بأصابع الاتهام المخفي غالبًا إلى مكامن النقص والخلل، كما تتجاوز في شخصياتها المدلولات المباشرة إلى المدلولات النفسية، وإلى هذا النوع من الواقعية تنتمي رواية “الذكريات الملغاة” للكاتبة اللبنانية نازك سابا يارد.
الجحيم الذي خلفته الحرب والصراعات الطائفية في لبنان هائل، ذلك الجحيم الذي حمل الأدب اللبناني جزءًا من هم سرده وتذكره وأخذ على عاتقه مهمة رد الاعتبار لكل من دفع أثمانًا كبرى ومن انجرف رغمًا عنه
تدور أحداث الرواية بشأن أسرة لبنانية تعيش في ظل ظروف مادية صعبة للغاية تجبر رب العائلة شريف، الواقع تحت سيطرة تغلغل الفساد في مؤسسات الدولة بعد الحرب، على هجر زوجته وابنته بعد فشله في التعايش مع الوضع الاقتصادي الجديد، وذلك على عكس صديقه جواد الذي تساعده طائفته وانتماءاته في تحقيق مكاسب مادية واجتماعية كبيرة. وعلى خلفية الأحداث تتذكر الأسرة الخراب والدمار الذين خلفتهم الحرب الأهلية، ولكن هناك أثرًا آخر تركته الحرب وهو تفكيك الإنسان اللبناني وتدمير علاقاته الأسرية والاجتماعية، إنها رواية تتحدث عن الآثار النفسية المدمرة للحرب التي تخبرنا في النهاية أن لبنان لن يتمكن من الخروج من خندق الطائفية البغيضة ما لم يتجاوز اللبنانيون خلافاتهم الدينية والسياسية ويجدون مظلة غير الطائفة تحتويهم داخل الوطن.
في النهاية، الجحيم الذي خلفته الحرب والصراعات الطائفية في لبنان هائل، ذلك الجحيم الذي حمل الأدب اللبناني جزءًا من هم سرده وتذكره وأخذ على عاتقه مهمة رد الاعتبار لكل من دفع أثمانًا كبرى ومن انجرف رغمًا عنه، حفظ الأدب تاريخ كل هؤلاء عبر شخوص روايته كما تذكر أيضًا الناجين بندوبهم العميقة.