عامٌ يتفتق بالأزمات وتتخلله موجات عارمة من الاحتجاجات خلال مدة حكم عادل عبد المهدي، فعلى وقع أزمات محلية وإقليمية وأخرى دولية جميعها لها انعكاساتها على المشهد العراقي المتأزم، يطفئ رئيس الوزراء عادل عبد المهدي شمعته الأولى في الحكم ويدخل عامه الثاني الذي بدأ باحتجاجات شعبية وانتهى كذلك.
يسلط “نون بوست” الضوء على ما جرى للحكومة العراقية في عام على مختلف الصعد الأمنية والمحلية والدولية والاقتصادية منها بالتزامن مع تاريخ تسلم عبد المهدي السلطة.
تشكيل الحكومة.. ومخاض عسير!
في العراق، لا تسير الأمور بما يتوافق مع القانون، حتى في تشكيل الحكومة التي تعسرت ولادتها في ظل عدم الاستقرار والشكوك في شرعية الحكومة التي شكلت بتوافق بين كتلتين هما “الفتح وسائرون”، وهذا أهم ما يجابه هذه الحكومة منذ تشكيلها، لكونها شكلت على عكس ما نص عليه الدستور العراقي، إذ تنص المادة الـ76 على أن “يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددًا، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال خمسة عشرَ يومًا من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية”، وهو ما لم يحدث بالفعل، حيث تتلاعب الكتل السياسية بالدستور وتفسره وفق ما ترغب في كل انتخابات برلمانية، حتى ولادة الحكومة بالطريقة القيصرية المعقدة تلك في كل مرة.
الحكومة.. ومراحل تشكيل معقدة
الحكومة التي ولدت بعد سير طويل وزفير متلاحق، تواجه منذ اليوم الأول لتشكيلها بمواقف مناوئة من قوى سياسية وشعبية، في تعبير واضح أنها ولدت عرجاء ولا إجماع عليها غير الكتلتين، ففي جلسة منح الثقة مثلًا وافق البرلمان على تعيين 14 وزيرًا في جلسة ماراثونية شهدت خلافًا على 8 حقائب وزارية من بينها الدفاع والداخلية والعدل.
وبعد ثمانية شهور من الخلافات بين الكتل السياسية المختلفة، تمحورت على وجه الخصوص حول وزارتي الدفاع والداخلية، صوَت البرلمان أيضًا على تعيين 3 وزراء لشغل حقائب الدفاع والداخلية والعدل الشاغرة، لتبقى بذلك مكتملة إلا من التربية.
استقالة العلوان كانت لها مدلولات كثيرة في مقدمتها أن النزاهة والمهنية لا يمكنهما الاستمرار في مؤسسات الدولة التي تطفو على بحر من الفساد
ولم يكد يكتمل تشكيل الحكومة الذي طال أمده، حتى تقدم وزير الصحة علاء الدين العلوان باستقالته إلى عبد المهدي إثر الضغوط وحملات الابتزاز والتشهير التي تعرض لها في مؤسسة عانت أشكالًا من الفساد، بيد أن عبد المهدي لم يقبلها وعدها إجازة مفتوحة، من دون التحقيق في أسبابها، لكن استقالة العلوان كانت لها مدلولات كثيرة في مقدمتها أن النزاهة والمهنية لا يمكنهما الاستمرار في مؤسسات الدولة التي تطفو على بحر من الفساد، وبعد أشهر من تقديمها قبلت استقالة العلوان وأُختير جعفر علاوي بديلًا له.
أما وزارة التربية فبقيت شاغرة، نتيجة الخلافات السياسية داخل البرلمان، وحتى مع بدء العام الدراسي الجديد فإن التربية بقيت من دون وزير، وعلى وقع الاحتجاجات الشعبية وضغط الشارع في أكتوبر عُينت سهى خليل وزيرة للتربية.
العراق.. ساحة للصراع الإقليمي
العراق باعتباره جزءًا من المسرح الإستراتيجي والإقليمي بحكم قوانين الجغرافيا، فإن موقعه الجغرافي فرض عليه أن يصطلي بلهب ما يجري من أحداث في الرقعة المحيطة به، فلا يمكن النظر إلى ما يجري فيه بمعزل عن التطورات المتسارعة والخطيرة التي يشهدها الشرق الأوسط.
أما التناحر بين السياسيين وانقسامهم بين فريق مؤيد لواشنطن وآخر لطهران، فقد زاد عن حده في عهد عبد المهدي، وكان الصورة الأولى لانعكاس التوتر في المنطقة على الساحة العراقية، الساحة الخصبة التي تزرع فيها السفارات ما تريد، وتخطط وتفعل المخابرات الدولية ما تشاء.
يقود الساسة العراقيون حملة للنأي بالبلد عن تحويله إلى ساحة صراعات خارجية وتصفية حسابات، لكن هذا في المؤتمرات الصحفية وفي العلن، أما ما تعرضت له مقار الحشد الشعبي من عمليات قصف منظمة فأثبتت عكس ذلك، إذ أكدت أن العراق في عين العاصفة ولا مفر منها.
وحاول عبد المهدي وعدد من الساسة قيادة جهود الوساطة لرأب الصدع بين طهران وواشنطن وحلفائهم في المنطقة، لكن العراق المثقل بالهموم والأزمات فشل مرات عدة في إجرائها، لأن هناك من يراه غير مؤهل لقيادتها لأنه يفتقد ميزة الحياد ويميل نحو كفة طهران. ووفقًا لما جرى في عام من أحداث متسارعة أثبتت أغلبها أن عبد المهدي أصبح خيار إيران، وأنها ستقاتل من أجل تثبيته في منصبه، بعد أن خسر الجانب الأمريكي، ويظهر ذلك جليًا بعد أن حددت له واشنطن ثلاث زيارات، لكن الجانب الأمريكي كان يلغيها أو يؤجلها.
أمن مفقود وفوضى سلاح!
تعهد رئيس الوزراء في برنامجه الحكومي الذي قدمه للبرلمان في الأشهر الأولى من تسلمه السلطة بنقل ملف الأمن في المدن بشكل تدريجي من وزارة الدفاع إلى وزارة الداخلية مع دعمها ومساندتها في إدارة الأمن الداخلي. الخطوة جاءت بالتزامن أيضًا مع تغييرات في المناصب الأمنية والعسكرية، لكنها لم تُجدِ نفعًا ولم تحد من الخروقات الأمنية في المحافظات العراقية، إذ شهدت مدن عدة خروقات وهجمات لداعش الإرهابي.
مع مرور سنة على حكم عبد المهدي لم يشهد الملف الأمني أي تقدم، خصوصًا في قضية حصر السلاح بيد الدولة
حيث شهدت كركوك عمليات اغتيال منظمة استهدفت ضباطًا، فيما كانت الخروقات في نينوى متمثلة في هجمات على الأهالي العزل، ارتكب على إثرها التنظيم مجازر بحق عدد كبير من العوائل. كربلاء هي الأخرى لم تسلم من مسلسل الهجمات الإرهابية، إذ تعرضت نقاط تفتيش فيها لهجمات انتحارية خلفت ضحايا وأضرارًا مادية ومعنوية.
أما ديالى ومناطق حوض حمرين في صلاح الدين فقد شهدت عمليات مختلفة لداعش، وفي بغداد العاصمة لم يكن الأمر أفضل حالًا، إذ شهدت عملية منظمة لهروب سجناء متهمين بتعاطي وتجارة المخدرات من سجن القناة شرقي بغداد، أقيل على إثرها العديد من المسؤولين الأمنيين في العاصمة.
ومع مرور سنة على حكم عبد المهدي لم يشهد الملف الأمني أي تقدم، وخصوصًا في قضية حصر السلاح بيد الدولة، إذ تشهد مدن الجنوب بالتحديد نزاعات عشائرية تستخدم فيها حتى الأسلحة المتوسطة، وفي صورة أخرى لفوضى السلاح تتعرض الشركات الأجنبية، وخصوصًا الأمريكية، لعمليات قصف صاروخي، وذلك يحدث في أكثر من مناسبة. حتى السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء المحصنة ببغداد لم تسلم هي الأخرى من خطر فوضى السلاح، فهي تتعرض لقصف شبه شهري.
أضواء خافتة في أفق الاقتصاد
تحسن الاقتصاد العراقي بسبب ارتفاع أسعار النفط وتحسن الوضع الأمني، لكن القيود على الإنفاق الرأسمالي ستعيق تسارع النمو المدفوع بالانتعاش، ويتوقع البنك الدولي ارتفاع النمو إلى 8.1% عام 2020، ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى ارتفاع إنتاج النفط.
ويؤكد البنك الدولي أيضًا في تقريره أن موازنة العراق عام 2019 شهدت زيادة كبيرة في الإنفاق المتكرر، وما لم تكن هناك إعادة توجيه كبيرة في السياسة المالية العامة لنهج الانتعاش الشامل فستكون هناك مساحة محدودة في الأجل، وسيؤدي ارتفاع الإنفاق بالتزامن مع انخفاض أسعار النفط إلى ارتفاع عجز الموازنة بنسبة 5.4% من إجمالي الناتج المحلي في العام الحاليّ قبل تقليصه إلى نحو 3% خلال الفترة 2020 – 2021.
في السنة الأولى من حكم عبد المهدي عقد العراق عددًا من الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية مع دول عدة، منها إيران والسعودية وتركيا والأردن ومصر، وكان آخرها الصين، الاتفاقيات كانت في مجالات النفط والكهرباء والمواصلات بالإضافة إلى إنشاء المدن الصناعية.
ولا يسود جو كبير من التفاؤل في الشارع العراقي بتحسن الأوضاع الاقتصادية من دون أن يلمس المواطن العراقي أيًا منها على أرض الواقع، فالوعود يسمعون عنها منذ عقد ونصف من السنين، والأزمات والمشاكل تتفاقم يومًا بعد آخر وإن بات العراق ينعم بجو من الاستقرار الأمني النسبي بعد حروب أكلت الأخضر واليابس.
الفساد ينخر عظم المناطق المحررة
من الموصل إلى صلاح الدين، وصولًا إلى الأنبار، يحتدم التنافس بين سياسيي المحافظات المحررة من سيطرة داعش، ليس على تقديم الخدمات وانتشال واقع مدنهم المنكوبة والمدمرة وإنهاء ملف النزوح فيها، بل على تقاسم النفوذ والسلطة.
وفي أبلغ صورة مأساوية لما جرى فترة الحكومة الحاليّة للمناطق المحررة ودليل على سلبية الأوضاع فيها، تبرز فاجعة عبارة الموصل، الحادثة التي كان سببها الأبرز الجشع والفساد لدى السلطات المحلية فيها، إذ تحول أحد أكثر أيام العام بهجة لدى الموصليين إلى مأساة خطفت أرواحًا بريئة جمة، بعد أن غرقت عبارة كانت مكتظة بمحتفلين بـ”عيد النوروز” في نهر دجلة بمدينة الموصل.
الحادث الذي أسفر عن مقتل العشرات، بينهم 56 امرأةً وطفلاً على الأقل، أزال كل الأغطية التي كانت تحاول إخفاء الفوضى الإدارية والأمنية التي تشهدها الموصل منذ تحريرها من سيطرة تنظيم داعش الإرهابي في 2017.
وبعد الغضب الشعبي والحزن الكبير الذي انتشر بسبب الحادثة الأليمة، تحولت التحذيرات من تنامي الفساد وعمليات التهريب وتحكم المجاميع المسلحة بالمدينة، إلى كلام “مكشوف” واتهامات مباشرة، تُطرح في الحكومة والبرلمان والإعلام والمجتمع.
وكالعادة كانت الوعود الحكومية تسبق شفاه المسؤولين مرة في تعويض الضحايا ومرة في محاسبة المقصرين، لكن ومع مرور أكثر من سبعة أشهر على الحادثة لم يتحقق شيء على أرض الواقع أيضًا.
الاحتجاجات.. التحدي الأكبر
الاحتجاجات الشعبية التي هزت أركان السلطة العراقية، جوبهت بالرصاص الحي وخراطيم المياه الحارة، وأسفرت عن عشرات القتلى وآلاف الجرحى، وفتحت جرحًا لن يندمل.. كل ذلك حدث في العام الأول من حكم عبد المهدي أيضًا.
ساحة التحرير أيقونة التظاهرات تحولت إلى ميدان حرب بين المتظاهرين والسلطات الأمنية، وعلى مدار العام بدأت شرارة الاحتجاجات من البصرة ثم انتقلت في محافظات الجنوب، ثم عادت إلى البصرة في تظاهرات موسمية بسبب انعدام الخدمات.
تفجرت عقب ذلك ثورة الخريجين بعد أن شرعوا باعتصامات أمام الدوائر الحكومية طلبًا للتعيين، كل ما سبق قوبل بالتجاهل والتسويف من الحكومة، فكانت كتلة الحطب بحاجة إلى عود ثقاب لاشتعالها، فجاءت احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول التي اتسمت بالعفوية وكانت خالية من أي بعد طائفي.
ولا شك أن موجة الاحتجاجات الأخيرة كانت الأعلى صوتًا من بين سابقاتها، في رفض مجمل العملية السياسية والمطالبة بإسقاط الحكومة والتركيز على إخراج إيران من العراق، وهو ما أعلنته صراحة شعارات وهتافات المحتجين.
يطوي رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي سنته الأولى، وهو المسؤول “الزاهد” في المناصب تخلى فيما سبق عن منصبين، الأول منصب نائب رئيس الجمهورية والثاني وزارة النفط، كان يؤكد سابقًا أيضًا أن استقالته في جيبه وسيقدمها سريعًا مع أي إخفاق له. “الزاهد” يراه ذوو ضحايا الاحتجاجات الأخيرة قاتلاً لأولادهم، ويعده كثير من العراقيين متمسكًا بالسلطة، وحكومته مقرصنة من طهران ولا تلبي طموحاتهم، ويعلنون أيضًا مجابهتها ونظام الحكم في البلاد بتظاهرات حتى إسقاطهم جميعًا.