حالة من الصدمة تخيم على الشارع المصري بعد التصريحات المنسوبة لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد التي أشار فيها إلى أن بلاده “ستحشد الملايين” إذا اضطرت لخوض حرب بسبب النزاع مع مصر على مشروع سد النهضة الذي تشيده إثيوبيا على نهر النيل.
تصريحات ربما هي الأجرأ والأخطر منذ رئاسة آبي أحمد – الفائز بجائزة نوبل للسلام قبل أيام – لحكومة بلاده، إلا أنها في الوقت ذاته ليست الأولى من نوعها في هذا الشأن، فقبل 4 أعوام تقريبًا خرج وزير خارجية إثيوبيا الأسبق تيدروس أدهانوم بتصريحات مشابهة قال فيها: “مصر أضعف من أن تدخل حربًا معنا”.
وبعيدًا عن السياق الذي خرجت منه تلك التصريحات العنترية التي يرجح خبراء أنها للاستهلاك المحلي واستعراض للقوة أمام البرلمان الإثيوبي، إلا أنها بالقطع ستلقي بظلالها القاتمة على المسار التفاوضي الذي يبدو أنه بهيأته الحاليّة يعاني موتًا إكلينيكيًا ما لم يستجد ما يعيده للحياة مرة أخرى.
تهديد علني وصريح بالحرب… هكذا فسر المصريون كلمات آبي أحمد، رغم لغة الطمأنة التي اختتم بها حديثه، الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على منصات السوشيال ميديا، إلا أنه وفي الجهة المقابلة جاء رد الفعل الرسمي عبر الخارجية المصرية على عكس ما كان يأمله الشارع، إذ اقتصر – كالعادة – على عبارات الشجب والإدانة والاستنكار.
حزمة من التساؤلات فجرتها قنبلة رئيس الوزراء الإثيوبي، زادت من غموض طلاسم المشهد الذي ازداد تعقيدًا تزامنًا مع ما يثار بشأن لقاء مرتقب من المقرر أن يجمع بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وآبي أحمد على هامش القمة الروسية الإفريقية، المقرر انعقادها في مدينة سوتشي الروسية يومي 23 و24 من أكتوبر الحاليّ.
القاهرة تأسف
لم يتأخر الرد المصري على تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي كثيرًا، حيث أصدرت الخارجية المصرية بيانًا أعربت فيه عن “صدمتها ومتابعتها بقلق بالغ وأسف شديد التصريحات التي نُقلت إعلاميًا ومنسوبة لرئيس الوزراء آبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي، إذا ما صحت، التي تضمنت إشارات سلبية وتلميحات غير مقبولة اتصالاً بكيفية التعامل مع ملف سد النهضة”.
البيان الذي نشر على الصفحة الرسمية للوزارة على موقع “فيسبوك” أوضح أنه لم يكن من الملائم الخوض في أطروحات تنطوي على تناول لخيارات عسكرية، وهو الأمر الذي “تتعجب له مصر بشدة باعتباره مخالفًا لنصوص ومبادئ وروح القانون الأساسي للاتحاد الإفريقي، خاصةً أن مصر لم تتناول هذه القضية في أي وقت إلا من خلال الاعتماد علي أُطر التفاوض وفقًا لمبادئ القانون الدولي والشرعية الدولية ومبادئ العدالة والإنصاف، بل دعت وحرصت دومًا على التفاوض كسبيل لتسوية الخلافات المرتبطة بسد النهضة بين الدول الثلاثة، وذلك بكل شفافية وحُسن نية على مدار سنوات طويلة”.
كما أعربت القاهرة عن دهشتها كون أن مثل هذه التصريحات تأتي بعد أيام من حصول رئيس الوزراء الإثيوبي على جائزة نوبل للسلام، وحفاوتنا جميعًا بها، وهو الأمر الذي كان من الأحرى أن يدفع الجانب الإثيوبي إلى إبداء الإرادة السياسية والمرونة وحُسن النوايا نحو الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم وشامل يراعي مصالح الدول الثلاثة الشقيقة مصر وإثيوبيا والسودان، حيث لا يمكن التعامل مع قضية بهذا القدر من الحساسية والتأثير على مقدرات الشعوب الثلاث استنادًا لوعود مرسلة.
بيان صحفي ___ أعربت جمهورية مصر العربية، في بيان صادر عن وزارة الخارجية اليوم ٢٢ أكتوبر الجاري، عن صدمتها ومتابعتها…
Posted by الصفحة الرسمية لوزارة الخارجية المصرية on Tuesday, October 22, 2019
التدويل.. الورقة المتاحة
البيان ذكر أن مصر تلقت دعوة من الإدارة الامريكية، في ظل حرصها علي كسر الجمود الذي يكتنف مفاوضات سد النهضة، لاجتماع لوزراء خارجية الدول الثلاثة مصر والسودان وإثيوبيا في واشنطن، وهي “الدعوة التي قبلتها مصر على الفور اتساقًا مع سياستها الثابتة لتفعيل بنود اتفاق إعلان المبادئ وثقةً في المساعي الحميدة التي تبذلها الولايات المتحدة”.
وفي الإطار ذاته يعقد المصريون آمالاً على قمة سوتشي التي تستضيفها روسيا اليوم وغدًا، فربما تكون فرصة طيبة لعقد لقاء بين السيسي وآبي أحمد برعاية الرئيس فلاديمير بوتين، وهو اللقاء الذي يعول عليه المفاوض المصري في تقريب وجهات النظر من أجل التوصل لنقطة مشتركة بشأن تلك الأزمة.
وكان الرئيس المصري قد أكد قبل أسبوعين أنه اتفق مع رئيس الوزراء الإثيوبي، على الاجتماع في روسيا للتباحث بشأن سد النهضة، وذلك بعد أيام قليلة من إعلان القاهرة فشل مفاوضات سد النهضة بصورة رسمية بعد أن وصلت إلى طريق مسدود إثر رفض أديس أبابا مقترحات الجانب المصري في هذا الشأن.
القاهرة تعلم جيدًا أن طريق المفاوضات والضغوط الدولية هو الحل الأكثر فاعلية، وربما الوحيد، في الوقت الراهن، بعدما خسرت الكثير من نقاطها التفاوضية بتوقيع إعلان المبادئ 2015، هذا الإعلان الذي أعطى أديس أبابا الضوء الأخضر في بناء السد وشرعنة تدشينه عالميًا، إذ كان الورقة التي حصل من خلالها الجانب الإثيوبي على تمويل السد من عدد من المؤسسات المالية الدولية.
“رعاية طرف ثالث أو رابع للمفاوضات، ليس بالضرورة شرطًا لضمان نجاحها، وإنما يعتمد نجاحها على استخدام منطق سليم ومقنع، وليس بالعودة إلى المنطق ذاته، الذي انتهى إلى الجمود
إرهاصات تدويل القضية بدأت بعد ساعات من إعلان فشل المفاوضات، ففي الأسبوع الماضي على سبيل المثال عقد نائب وزير الخارجية المصري السفير حمدي لوزا، اجتماعًا مع سفراء الدول التي تعمل شركاتها في عملية بناء السد وعلى رأسها ألمانيا وإيطاليا والصين.
الاجتماع هدف في المقام الأول إلى توصيل رسالة لحكومات تلك الدول باستياء الجانب المصري من مشاركة شركات هذه الدول في السد، رغم الافتقاد للدراسات الخاصة بالآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لهذا المشروع على الجانب المصري، فضلاً عن الخلاف الدائر بين أطراف المشروع الذي كان من المفترض أن يكون سببًا كافيًا لتعليق مشاركة تلك الشركات لحين الوصول إلى اتفاق بشأنه.
سبق هذا مخاطبة السيسي للمجتمع الدولي بأداء دوره لحلحلة هذه الأزمة، وذلك خلال كلمته التي ألقاها في الـ23 من سبتمبر الماضي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حين أوضح أن “استمرار التعثر في المفاوضات، له انعكاسات سلبية على الاستقرار في المنطقة عامة وفي مصر خاصة”، مؤكدًا أن مياه النيل بالنسبة لمصر مسألة حياة وقضية وجود، وهذا “يضع على المجتمع الدولي مسؤولية للتوسط لحلول مرنة تضمن حقوق كل دولة”.
عقلية تفاوضية جديدة
بالطبع فإن السنوات الثمانية الماضية كشفت بشكل كبير فشل الإستراتيجية التفاوضية للجانب المصري، ومن ثم وبالمنطق السياسي للدول فإن الاستمرار على ذات الإستراتيجية بعدما وصل الملف إلى هذه المرحلة الحرجة يعني باختصار شديد الإجهاز على ما تبقى من أمل للوصول إلى حلول تقي الجميع مغبة الولوج في مستنقع أكثر كارثية مما يعتقد البعض.
التعويل على واشنطن وموسكو لإنهاء الخلاف والضغط على الجانب الإثيوبي ليس مسألة سهلة كما يتوقع الكثيرون، فالعلاقات بين العاصمتين وأديس أبابا ربما تتفوق في كثير من مجالاتها على العلاقات مع القاهرة، رغم تشابك الملفات العالقة ذات المصالح المشتركة بين الأطراف.
خبراء يشيرون إلى أن الدبلوماسية الإثيوبية نجحت خلال السنوات القليلة الماضية في تقوية علاقاتها الخارجية بصورة تجعل من تصريحات آبي أحمد على أرض صلبة بحسب وصف البعض، فالرجل الحائز على ثقة العالم مؤخرًا بمنحه جائزة نوبل يعلم أن هناك من يدعمه ويقف خلفه، ليس أفرادًا وحكومات فحسب، بل منظمات أممية كذلك.
المرشح الرئاسي السابق والحقوقي المصري، خالد علي، يرى أن الأمر لو” تُرك للدبلوماسيين المصريين -دون تدخلات من جهات أخرى بالدولة المصرية – سنصل لنتائج إيجابية
الخبير الاقتصادي المصري إبراهيم نوار، يرى أنه على المفاوض المصري أن يقرأ جيدًا وبعناية وجهة نظر الولايات المتحدة في مشاكل المياه في الشرق الأوسط وإفريقيا، وهي وجهة نظر ترتكز على الحلول الإقليمية التنموية، إضافة إلى الحلول التكنولوجية، كذلك ضرورة دراسة دفوع أديس أبابا التي تستند إليها في موقفها، “وأن يعدوا ردودًا مقنعة عليها، وهي كلها دفوع معروفة للمفاوض المصري، وتم عرضها خلال المفاوضات في السنوات السابقة”.
نوار في تعليقه المنشور على صفحته على “فيسبوك” يعتبر أن “رعاية طرف ثالث أو رابع للمفاوضات، ليس بالضرورة شرطًا لضمان نجاحها، وإنما يعتمد نجاحها على استخدام منطق سليم ومقنع، وليس بالعودة إلى المنطق ذاته، الذي انتهى إلى الجمود، ولن أقول الفشل”، محذرًا من وجهة النظر الأمريكية في أزمة مياه نهر النيل، ليست محابية لمصر، ولن تكون، “لأنها كما قلت، تقوم على أساس منطق مختلف تمامًا عن المنطق الذي ما زال مسيطرًا على المفاوض المصري حتى الآن”.
وعليه يرى أنه على المفاوض المصري حين يذهب إلى واشنطن، عندما يحدد الأمريكان موعدًا للاجتماع، أن يكون متسلحًا برؤية مصرية جديدة وخطة جديدة للتفاوض ومعرفة دقيقة برؤية الولايات المتحدة التي ستتداخل مع غيرها من الرؤى خلال المفاوضات.
المرشح الرئاسي السابق والحقوقي المصري، خالد علي، يرى أن الأمر لو “تُرك للدبلوماسيين المصريين – دون تدخلات من جهات أخرى بالدولة المصرية – سنصل لنتائج إيجابية تساهم فى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومن ثم يجب إطلاق العنان لكوادر الخارجية من أجل اتخاذ كل الخطوات اللازمة للحفاظ على حقوق مصر”.
وعلى صفحته على “فيسبوك” أضاف: “رغم أن مصر أخطأت فى التوقيع على الاتفاقية الإطارية 2015، فإنها أبدت مرارًا وتكرارًا حُسن نيتها ورغبتها فى تحقيق الاستفادة المشتركة لكل دول حوض النيل، وكان خطابها فى هذا الشأن متزن وهادئ ويعي خطورة الموقف وأهمية المصالح المشتركة لشعوب دول حوض النيل وأهمية التفاوض من أجل الوصول لحلول يرتضيها جميع الأطراف”.
الولايات المتحدة تدعو مصر والسودان وإثيوبيا للقاء ثلاثي في واشنطن بشأن أزمة المياه.. مصر تقبل الدعوة. إبراهيم…
Posted by Ibrahim Nawar on Tuesday, October 22, 2019
الخيار العسكري.. مستبعد ولكن
بعد دقائق معدودة من تناقل وسائل الإعلام المحلية والدولية لتصريحات آبي أحمد، فرضت المواجهة العسكرية نفسها كخيار وحيد الآن أمام الجانب المصري وفق ما ذكر نشطاء وسياسيون مصريون على منصات التواصل الاجتماعي، لا سيما أن قضية المياه بالنسبة للمصريين مسألة حياة أو موت، قضية لا تقبل القسمة على اثنين كما يؤكد الشارع القاهري.
البعض ذهب في ترجيحه لهذا الخيار إلى عقد مقارنات عسكرية بين قوة جيشي البلدين حال نشوب حرب بينهما، التي تأتي بطبيعة الحال لصالح الجيش المصري الذي يحتل المرتبة الـ12 عالميًا، في قائمة أقوى جيوش العالم، لعام 2019، مقارنة بنظيره الإثيوبي الذي يحتل المرتبة 47 عالميًا من بين 137 دولة.
وبعيدًا عن لغة العاطفة التي تسيطر على العقلية المصرية في هذا الطرح، فإن لجوء القاهرة لهذا القرار سيضع البلاد تحت طائلة عقوبات دولية باعتبارها دولةً معتدية، وذلك بعدما أقرت ابتداءً بموافقتها على بناء السد عبر إعلان المبادئ التي وقعت عليه قبل 4 سنوات.
علاوة على هذا فإن خطوة كهذه من المرجح أن توقعها في أزمة دبلوماسية مع دول كإيطاليا والصين وفرنسا التي تعمل شركاتها في تشييد هذا المشروع، إضافة إلى مليارات الدولارات التي قد تدفعها القاهرة للحكومة الإثيوبية ومواطنيها في صورة تعويضات عن الأضرار المرجح وقوعها حال استهداف السد.
لكن هل يعني ذلك أن سيناريو التعامل العسكري مع السد غير قائم بالمرة؟ وللإجابة عن هذا السؤال نعود بالذاكرة إلى السيناريو الذي سرب عام 2012 حين كان الخيار العسكري يجول في ذهن الدوائر العسكرية والسياسية المصرية آنذاك، في اللقاء الشهير الذي أُذيع لأحد اجتماعات الرئيس الراحل محمد مرسي وكبار قادة الدولة.
لم يكن هذا الخيار على أجندة مرسي وفقط، بل سبقه في ذلك الرئيس الأسبق حسني مبارك، وهو ما كشفه مركز ستراتفور للدراسات الأمنية حين نشر عام 2012 رسائل إلكترونية تعود للعام 2010 بشأن تفاصيل محادثة بين رئيس المخابرات العامة آنذاك عمر سليمان، ورئيس الجمهورية.
الرسائل تضمنت خطة مصر العسكرية بالتعاون مع السودان لحماية حصة الدولتين في مياه نهر النيل، وفيها ذكر لموافقة الرئيس السوداني السابق عمر البشير على طلب مصر ببناء قاعدة عسكرية في منطقة كوستي جنوب السودان لاستيعاب قوات مصرية خاصة “قد ترسل إلى إثيوبيا لتدمير مرافق المياه على النيل الأزرق”، بحسب نص الرسالة
“مصر نفذت عملية في منتصف السبعينيات، أعتقد في عام 1976، عندما حاولت إثيوبيا بناء سد ضخم. لقد فجرنا المعدات التي كانت في طريقها إلى إثيوبيا بحريًا”، رئيس المخابرات المصرية الراحل عمر سليمان
وفي رسالة بعثها سليمان لمبارك قال فيها: “الدولة الوحيدة التي لا تتعاون هي إثيوبيا، نحن مستمرون في الحديث معهم باستخدام النهج الدبلوماسي، نعم نحن نناقش التعاون العسكري مع السودان”، وتابع “إذا تحول الأمر إلى أزمة، سنرسل طائرة لقصف السد وتعود في نفس اليوم، هكذا ببساطة، أو يمكننا أن نرسل قوات خاصة لتخريب السد”.
رئيس المخابرات الراحل في رسائله لمبارك لفت إلى عملية عسكرية مصرية سابقة بقوله “مصر نفذت عملية في منتصف السبعينيات، أعتقد في عام 1976، عندما حاولت إثيوبيا بناء سد ضخم، لقد فجرنا المعدات التي كانت في طريقها إلى إثيوبيا بحريًا”.
الاحتمال الأكثر صعوبة وخطورة في آن واحد، ويخشاه المصريون، أن ترضخ القاهرة للأمر الواقع، وتبحث عن بدائل للنقص المتوقع في المياه مع دخول السد حيز التنفيذ، وهو ما بدا يلوح في الأفق عبر تصاعد موجة الحديث عن مشروعات لتحلية المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي، إلا أن هذا الاحتمال ربما يعيد تشكيل خريطة مصر السياسية مرة أخرى وفق ما ذهب البعض.
موقف صعب وضعت القاهرة فيه نفسها بتوقيعها إعلان المبادئ، وهو السلاح الذي تستند إليه أديس أبابا للدفاع عن حقها في بناء السد، وما بين وساطة دولية ربما لا تؤتي ثمارها، وتجديد خطاب التفاوض الدبلوماسي، وطرح المواجهة العسكرية كخيار أخير وإن كان مستبعدًا.. تبقى كل الخيارات متاحة وهو ما ستكشفه الأيام القليلة القادمة.