بعد مكوثه ما يقرب من 32 شهرًا في سجون الولايات المتحدة الأمريكية، حطت طائرة المصرفي التركي محمد هاكان أتيلا في مطار إسطنبول بعد رحلة انطلقت من مطار جون كيندي الدولي في مدينة نيويورك، حيث وصل رفقة السفير التركي لدى الولايات المتحدة سردار كيليتش والقنصل التركي العام في نيويورك ألبر أقطاش بعد أن أخلت السلطات الأمريكية في ولاية بنسلفانيا، سبيله.
شهد المطار الجديد في مدينة إسطنبول أجواءً احتفالية بعودة أتيلا حيث كان في استقباله وزير الخزانة والمالية بيرات البيرق، ووزير المواصلات والبنية التحتية محمد جاهيد بالإضافة إلى أفراد من عائلته، وعبّر الوزير البيرق عن سعادته بلقاء أتيلا، حيث أكد أن أتيلا سوف يخضع لفترة نقاهة يعود بعدها إلى خدمة بلده وأداء واجبه.
وفي اتصال تليفوني هنأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المصرفي أتيلا بعودته سالمًا إلى أرض الوطن، متنميًا له دوام التوفيق.
رحلة الصعود
ولد محمد هاكان أتيلا في العاصمة أنقرة عام 1970، حيث التحق بكلية الاقتصاد والعلوم الإدارية تخصص الاقتصاد في جامعة غازي بمدينة أنقرة. وعلى الصعيد العائلي تزوج أتيلا من السيدة بورتشان في مرحلة مبكرة من حياته، حيث تعمل زوجته في ذات البنك، الأمر الذي منعها من زيارته طول فترة اعتقاله خوفًا من توقيفها في الولايات المتحدة، ولديه ابن يبلغ من العمر 25 عامًا.
بدأ اسم أتيلا يعلو في الإدارة العليا للبنك مع تعيينه عضوًا في مجلس إدارة البنك، وليرأس لاحقًا مجلس إدارة “هالك بنك” في دولة مقدونيا
التحق أتيلا بالعمل في بنك “هالك” عام 1995، حيث بدأ مسيرته المهنية كمساعد خبير في قسم التخطيط والأبحاث التطويرية في البنك، ليلتحق بعد ذلك بإدارة البطاقات المصرفية والنقد حيث عمل مستشارًا وخبيرًا، لينتقل منها لاحقًا إلى قسم التخطيط الإستراتيجي، حيث عمل مشرفًا ومديرًا، ومنها انتقل ليشغل رئيس قسم العلاقات مع المستثمرين والمؤسسات المالية، ومنها إلى عضوية لجنة تدقيق الحسابات في هالك بنك.
بدأ اسم أتيلا يعلو في الإدارة العليا للبنك مع تعيينه عضوًا في مجلس إدارة البنك، وليرأس لاحقًا مجلس إدارة “هالك بنك” في دولة مقدونيا، حيث استمر في هذا المنصب حتى العام 2011 الذي شهد بداية عمله كنائب المدير العام لشؤون الخدمات المصرفية الدولية، حيث استمر في هذا المنصب حتى اعتقاله في مطار جون إف كينيدي الدولي عام 2017.
الجدير بالذكر أن هالك بنك تأسس عام 1933 وتملك الدولة 51% من أسهمه، وتمثل الهدف الأساسي للبنك في دعم المشاريع المتوسطة والأسر التركية، حيث تعرض البنك لاحقًا إلى جملة من التحديات والصعاب التي أثرت على نشاطه، لكن السنوات الأخيرة حملت فرصًا كبيرةً للبنك الذي استطاع الوصول إلى أفضل 10 بنوك في الجمهورية.
هاكان في المحاكم الأمريكية
ظلت قضية المصرفي محمد هاكان أتيلا، عاملاً من عوامل التوتر المتعددة في العلاقات الأمريكية التركية في السنوات الأخيرة التي شهدت اعتقال الولايات المتحدة للمصرفي أتيلا عند وصوله إلى مطار جون إف كينيدي عام 2017 على خلفية اتهامات متعلقة بمساعدة الجمهورية الإيرانية على التهرب من العقوبات الأمريكية.
شكلت قضية أتيلا نموذجًا لتداخل السياسي بالقانوني، حيث سعت واستخدمت الولايات المتحدة الأمريكية القضية كسيف مشرع على النظام المصرفي التركي طيلة السنوات الماضية.
بدأت القضية مع اعتقال رجال الأعمال الإيراني التركي رضا ضراب في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2016 على خلفية تهم غسيل أموال والتحايل على إجراءات وزارة الخزانة الأمريكية، لتمتد قائمة الاعتقالات لاحقًا بتوقيف هاكان أتيلا في 2017 حيث وجهت تهم لـ”هالك بنك” – الذي شغل أتيلا منصب نائب المدير العام للشؤون الدولية فيه – بمساعدة إيران على التهرب من العقوبات الأمريكية من خلال المساهمة في عدد من الإجراءات الالتفافية التي ساهمت في كسر عزلة إيران عن النظام المالي العالمي، وفقًا للادعاءات الأمريكية فإن النظام الإيراني باع النفط والغاز إلى تركيا التي كانت تحول الدفعات إلى حسابات “هالك بنك” الذي كان يحول بدوره هذه الأموال إلى حسابات رجل الأعمال رضا ضرب الذي يحول هذه الدفعات إلى ذهب، ليرسل لاحقًا إلى إمارة دبي، ومنها نقدًا إلى الجمهورية الإيرانية.
وفي وقت سابق من العام 2018 أدانت محكمة مانهاتن الاتحادية في مدينة نيويورك المصرفي التركي هاكان أتيلا، بخمس تهم من أصل ست تهم وجهها إليه الادعاء الأمريكي، حيث اتهم بخرق العقوبات الأمريكية على إيران، والاحتيال المصرفي والمشاركة في خداع الولايات المتحدة الأمريكية والمشاركة خداع البنوك الأمريكية، بالإضافة لتهم المشاركة في غسيل الأموال، لينال أتيلا حكمًا وصل إلى 32 شهرًا.
رفضت الحكومة التركية الحكم ووصفته بالسياسي والمتآمر، ودعت الولايات المتحدة للإفراج فورًا عن أتيلا، كما اتهمت الحكومة التركية جماعة فتح الله غولن بالوقوف وراء جزء كبير من القضية التي تعود جذورها إلى محاولة الانقلاب القضائية عام 2013 التي استهدفت رموز الدولة التركية وعلى رأسها الرئيس التركي وعائلته.
رسائل التعيين
منذ اللحظة الأولى لعودة أتيلا إلى الجمهورية التركية، شاع في الأوساط التركية قرب توليه منصب جديد، وأنه لن يكون البطة السوداء الواجب إبعادها عن المشهد، ففي 21 من شهر اكتوبر الحاليّ أعلن وزير الخزانة والمالية التركي بيرات البيرق تعين المصرفي التركي محمد هاكان أتيلا مديرًا عامًا لبورصة إسطنبول خلفًا لمراد أتشنكايا الذي عين مساعدًا لمحافظ البنك المركزي التركي، وأشار البيراق في تغريدة له على موقع تويتر أن فترة استراحة أتيلا وصلت لنهايتها متمنيًا لهاكان وبورصة مدينة إسطنبول التوفيق والنجاح.
Haksız bir mahkumiyetin ardından ailesine ve ülkesine kavuşan Hakan Atilla‘nın dinlenme dönemi bitti. Borsa İstanbul Genel Müdürü olarak göreve başlıyor.
Bu görevin kendisi ve BIST için hayırlı uğurlu olmasını diliyorum.
— Berat Albayrak (@BeratAlbayrak) October 21, 2019
وفي أول رد فعل على القرار، أعلن البنك الأوروبي للإعمار والتنمية قلقه البالغ من هذا التعيين، حيث أكد البنك أنه لم يستشر في هذا التعين ولن يدعمه، مؤكدًا رغبته في بحث هذا التعيين مع الجهات المختصة.
وسبق تعيين أتيلا بأيام، الحديث عن تحقيقات امريكية حول تورط “هالك بنك” الحكومي في أنشطة تساهم في اختراق العقوبات الامريكية على إيران من خلال المساهمة في عمليات نقل مليارات الدولات من عائدات النفط الى الحسابات الايرانية.
عبرت الدولة التركية عن رفضها هذه الاتهامات على لسان وزير الخارجية مولد جاويش أوغلو، الذي أكد أن القضية لن تصل الى شيء في حال تم تطبيق القانون.
وفي ظل المعطيات السابقة فإن تعيين أتيلا في هذا المنصب الحساس والهام في المنظومة الاقتصادية والمالية التركية يحمل عدد من الرسائل التي ترغب الدولة التركية في التأكيد عليها، فأنقرة ما زالت ترى في ما تعرض له أتيلا وبنك هالك، مؤامرة حاكتها الولايات المتحدة برفقة أعضاء في جماعة فتح الله غولن، بالتالي فهذا التعيين يعبر عن موقف حكومة أردوغان الواضح تجاه هاكان أتيلا، فهي لاترى فيه شخص مجرم أو مدان بقدر ما ترى فيه شخص وطني وقع ضحية لمؤامرة خارجية.
أما الرسالة الأخرى التي ترغب الدولة التركية في إيصالها فهي التأكيد على استقلالية منظومتها المالية والاقتصادية ورفضها التهديدات الأمريكية والغربية، حيث يتجلى ذلك في تعيين شخصية من المفترض أن لا تنال رضًا غربيًا نتيجة للتجربة السابقة لأتيلا.
ختاماً، من المؤكد أن المصرفي التركي محمد هاكان أتيلا يمتلك سيرة مهنية تؤهله لتولي أهم المناصب المالية والاقتصادية في تركيا، لكن الظروف التي مر بها جعلت منه شخصية تمثلت فيها معاني الاستقلالية الوطنية والرغبة في مساحات أوسع من التي تقررها وزارة الخزانة الامريكية، فمن المؤكد أن المصرفي التركي دفع جزء من حريته وسمعته ثمنًا لذلك – كما سوف يدفع النظام المصرفي والمالي التركي ثمنًا لهذا التوجه- لكن المؤكد أن تركيا بهذه الخطوات خطت وتخط لمسار جديد في علاقتها ونظرتها للعالم. العالم الذي ترى فيه القيادة التركية الحالية أن مكونات القوة فيه لم تعد حصرًا في يد الغرب والولايات المتحدة وأن مساحات التحرك والمناورة قد ازدادت في السنوات الأخيرة، مما يفرض على الدولة التركية التحرك بجرأة وقوة لحماية مصالحها القومية، والتي يقف على رأسها استقلالية قرارها الوطني.