ترجمة وتحرير: نون بوست
لم يكن الأمر سوى مسألة وقت قبل أن تخترق حقائق الواقع السوري الروايات الأخيرة المتفائلة والمشجعة في الغالب بشأن انتقال البلاد من حكم عائلة الأسد. ففي 7 مارس/ آذار، نظمت شخصيات موالية للرئيس السابق بشار الأسد انتفاضة ضد النظام السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع، حيث اشتبكوا مع السلطات في محيط اللاذقية وطرطوس وجبلة. وبعد تحقيق الموالين للأسد بعض النجاحات الأولية، سارعت القوات الموالية للشرع إلى التحرك وتمكنت من قمع الانتفاضة.
وتظل تفاصيل هذه الأحداث غير واضحة إلى حد كبير، نظرًا لطوفان الشائعات والمعلومات المضللة والمغلوطة التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى ندرة الصحفيين الفعليين في المنطقة.
وحسب الجهة التي يختار المراقبون تصديقها، إما أن هناك مجازر ارتُكبت بحق العلويين والأكراد والمسيحيين السوريين، أو أنها لم تقع، وإما أن الشرع كان على علم بهذه المجازر، أو لم يكن، وإما أن رئيس سوريا جهادي متشدد لم يتغير، أو أنه انشق عن ماضيه ويحاول إعادة بناء سوريا جديدة بعد خمسة عقود من حكم عائلة الأسد.
وتشير التقارير الموثوق بها إلى أن القوات الحكومية والفصائل الموالية للشرع سحقت الموالين للأسد بوحشية صادمة، ما أسفر عن مقتل نحو 1000 شخص، كان معظمهم من المدنيين.
وتبدو تفاصيل الانتفاضة – بقدر ما هي متاحة وبقدر ما تمكن المحللون من استيضاح ما حدث – أقل تعقيدًا من التحديات والعقبات التي تواجه بناء مجتمع يتفق فيه الجميع على معنى أن يكون المرء “سوريًا”.
لا شك أن الغالبية العظمى من السوريين سيقولون إن الجميع في البلاد – العلويون والأكراد والدروز والمسلمون والإسماعيليون والمسيحيون والقلة المتبقية من اليهود – هم سوريون. وهذه رؤية إيجابية، لكنها هشة. وكما رأينا للتو، في وقت الأزمة، يمكن لهذه الفكرة التعددية تقويضها بسهولة، وبعنف. وهذا لا يبشر بالخير لمستقبل البلاد القريب.
وتشكل الأوضاع الراهنة في سوريا فرصة مثالية تقريبًا لأصحاب المشاريع السياسية والقوى الخارجية الساعية إلى تقويض الشرع وفرعه السابق في القاعدة، هيئة تحرير الشام. عندما كانت فرنسا قوة استعمارية في بلاد الشام، عززت مكانة العلويين والدروز باعتبارهم أقليات مميزة، بل ذهبت إلى حد إنشاء كيانات شبه مستقلة لكليهما.
وتم دمج هذه الكيانات لاحقًا في سوريا، لكن الأمر كان مختلفًا بالنسبة للدولة المسيحية التي اقتطعتها فرنسا مما يسميه القوميون الذين يتبنون رؤية توسعية لبلادهم بـ”سوريا الطبيعية”، لإنشاء دولة ذات أغلبية مارونية أُطلق عليها اسم لبنان. جرى كل ذلك على حساب السكان السنّة، الذين كانوا يشكلون شريحة كبيرة ولم يكونوا عمومًا على استعداد لتقبل المشروع الأوروبي في المنطقة.
وأدى التلاعب الاستعماري بالطوائف والمجموعات العرقية إلى خلق مجموعة من التبعيات التي ثبت أنه من الصعب على السوريين التخلص منها منذ مئة سنة.
وكان حافظ الأسد، الذي حكم من سنة 1971 حتى وفاته سنة 2000، عضوًا بارزًا في حزب البعث، الذي يُعد النموذج الأمثل للحركات القومية العربية. وكما هو الحال مع الأحزاب والفصائل القومية العربية في مختلف أنحاء المنطقة، روّج لفكرة زائفة بأن الشرق الأوسط عربي بامتياز، متجاهلًا التنوع العرقي والديني الغني الذي كان جزءًا أصيلًا من هذه المنطقة.
ولم يكن التزام حافظ الأسد بالبعثية ذا أهمية كبيرة من الناحية العملية أو السياسية. فبالرغم من كونه الرجل القوي في سوريا لعقود، لم يستطع أبدًا التخلص من حقيقة أنه علوي، ينتمي إلى طائفة عانت من الفقر على مدار التاريخ، تتبع مذهبًا غير تقليدي، ولعب قادتها دورًا في التعاون مع السلطات الاستعمارية الفرنسية.
ورغم أن النظام السوري خلال حكم الأسد الأب ضم شخصيات من خلفيات متنوعة، فإنه اعتمد على العلويين كقاعدة سلطته، ما أدى إلى إعادة خلق وتعميق الفروقات الطائفية والعرقية بين السوريين.
وخلال فترة حكمه، قيل إن المسيحيين كانوا محميين، بينما تعرّض الأكراد للقمع إلا إذا تم استغلالهم ضد الأتراك، في حين كان كثير من السنّة غير راضين عن ذلك. وقد ثار بعضهم – وتحديدًا الإخوان المسلمون وأنصارهم – وكان أشهر تمرد لهم في حماة سنة 1982. أما الدروز، فمن جهتهم، انخرطوا في التقية، أي إخفاء معتقداتهم تحت الضغط السياسي.
وهذه بالطبع تعميمات؛ فلم يكن كل علوي مؤيدًا لنظام الأسد، ولم يكن كل سنّي معارضًا له. وكان هناك مسيحيون وقفوا ضده، ودروز تبنوا النزعة القومية السورية. وفي النهاية، كان معظم السوريين يريدون ما يريده أي إنسان في أي مكان، أن يعيشوا حياة كريمة وأن يروا أبنائهم يكبرون ويزدهرون. ومع ذلك، فإن هذه الفوارق الدقيقة لا تقلل من البعد الطائفي في السياسة السورية، الذي يظل مهيأً للاستغلال.
ليس من المستحيل على السوريين تجاوز المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي تقسمهم وتصنفهم وفقًا للطائفة والعرق، لكنه سيكون أمرًا بالغ الصعوبة. ولا يزال من المبكر معرفة ما إذا كانت السياسة الجديدة في سوريا ستقوّض هذه الأنماط، التي ترسخت في الحياة السياسية والاجتماعية للبلاد على مدى القرن الماضي، أم ستعززها. وهذه الطبيعة “الراسخة” تفسر سبب تحول العنف، بمجرد تحرك أنصار الأسد الذين تدور مظالمهم ظاهريًا حول السلطة والسياسة، إلى طابع طائفي وعرقي. وذلك لأن السلطة والسياسة في سوريا متشابكتان بشدة مع هذه الانقسامات.
ولا شك في أن جهات عدة – أفرادًا وجماعات ودولًا، مثل إيران وروسيا وإسرائيل؟ – سواء داخل سوريا أو خارجها، سعت إلى تضخيم هذه الانقسامات وترسيخ فكرة أن ما يجري هو هجوم جهادي شامل على الأقليات السورية.
ويبدو – بحسب التقارير المتفرقة الواردة من غرب سوريا – أن هناك جزءًا من الحقيقة في هذه الروايات. فلا يمكن إنكار أن أتباع الشرع قتلوا أعدادًا كبيرة من العلويين، وقد ذهب البعض خارج البلاد إلى حد تبرير مقتلهم بالقول إنهم استحقوا ذلك. وفي المقابل، نفى ناشطون وشخصيات على وسائل التواصل الاجتماعي الاتهامات بأن مؤيدي النظام الجديد قتلوا مسيحيين، لكن يبدو أنهم كانوا مستهدفين. ولا ينبغي أن يكون ذلك مفاجئًا، فالمتطرفون الإسلاميون دأبوا على تهديد رجال الدين المسيحيين وكنائسهم منذ سقوط الأسد.
ولا يعتبر هذا دفاعًا عن أنصار الأسد؛ فقد كانت سوريا مكانًا شديد القمع ودمويًا خلال العقود التي امتدت بين صعود حافظ الأسد إلى السلطة سنة 1971 وسقوط بشار الأسد أواخر سنة 2024. لقد استمد الابن إصراره على قمع الانتفاضة ضده سنة 2011 بالقتل من الدرس الذي تعلمه من والده، والذي قتل عشرات الآلاف ردًا على انتفاضة حماة سنة 1982.
بل إن ما أقصده هو الإشارة إلى أن السوريين، مثل جيرانهم في لبنان والعراق، سيواجهون صعوبات في التعامل مع الهياكل الاجتماعية التي ورثوها عبر التاريخ. ولا توجد نماذج كثيرة يمكنهم الاحتذاء بها؛ فالنظام السياسي الطائفي في لبنان يعمّق الانقسامات، بينما أدى النظام في العراق إلى فوضى المحاصصة والشلل السياسي. ومع ذلك، أدلى الشرع بتصريحات صحيحة حول أن سوريا وطن لجميع السوريين.
إنها رؤية إيجابية لمستقبل سوريا، ولا شك أن العديد من مواطنيه يتفقون معها. ولكن، إلى جانب التعبير عن هذا الشعور، لم يقدّم الزعيم السوري بعدُ خطة حقيقية للمضي قدمًا. وفي الوقت الحالي، يحقّ للسوريين أن يتساءلوا: “إلى أي سوريين يشير؟”.
المصدر: فورين بوليسي