لم يتوانَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن استغلال نفوذه لمعاقبة كل من تحدى “إسرائيل” أو وقف في وجه جرائمها أمام المحافل الدولية، سواء عبر المحكمة الجنائية الدولية أو من خلال الإجراءات القانونية التي قادتها جنوب أفريقيا ضد الاحتلال.
منذ عودته إلى البيت الأبيض، تبنّى نهجًا عقابيًا صارمًا تجاه الدول والكيانات التي أدانت الممارسات الإسرائيلية، مستخدمًا مختلف الأدوات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية للانتقام من خصومه.
وكانت البداية من المحكمة الجنائية الدولية بفرض عقوبات على مسؤوليها وصولًا إلى جنوب إفريقيا حيث أعلن وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، يوم الجمعة الماضي، عن طرد السفير لدى واشنطن إبراهيم رسول، موجهًا إليه اتهامات بمعاداة الولايات المتحدة ورئيسها دونالد ترامب.
وفي منشور على منصة “إكس”، صرّح روبيو: “ليس لدينا ما نناقشه معه، لذا فهو يُعتبر شخصًا غير مرغوب فيه”، في إشارة إلى السفير إبراهيم رسول، مما يعكس تصاعد الخلافات الدبلوماسية بين البلدين.
South Africa’s Ambassador to the United States is no longer welcome in our great country.
Ebrahim Rasool is a race-baiting politician who hates America and hates @POTUS.
We have nothing to discuss with him and so he is considered PERSONA NON GRATA.https://t.co/mnUnwGOQdx
— Secretary Marco Rubio (@SecRubio) March 14, 2025
وصف روبيو سفير جنوب أفريقيا بأنه “سياسي محرض على العنصرية”، مرفقًا منشوره برابط لمقال من موقع “بريتبارت” اليميني، يتناول فيه تصريحات رسول في كلمة أمام معهد مابونغوبوي للأبحاث، حول انتخاب ترامب ورئاسته.
وكان رسول قال: إن “ترامب يقود حركة للعنصريين البيض في أمريكا وحول العالم”، مضيفًا “ما يشنه دونالد ترامب هو هجوم على القائمين على السلطة من خلال حشد التفوق العرقي العنصري في الداخل وفي الخارج أيضًا”.
وأضاف: “حركة (لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا) لم تكن استجابةً لغريزة عنصرية فحسب، بل للتحولات الديموغرافية الأمريكية حيث من المتوقع أن يصبح 48% من الناخبين البيض في الولايات المتحدة، وأن احتمالية وجود أغلبية من الأقليات تلوح في الأفق”.
البداية من إيقاف المساعدات
يأتي طرد السفير الجنوب أفريقي ضمن تصعيد متزايد في العلاقات بين واشنطن وبريتوريا، في أعقاب قرار ترامب، في فبراير/ شباط الماضي، بوقف المساعدات الأميركية لجنوب أفريقيا.
ووفقًا لبيانات حكومية، فإن الولايات المتحدة كانت قد خصصت نحو 440 مليون دولار من المساعدات لجنوب أفريقيا خلال عام 2023، وهو الدعم الذي قررت إدارة ترامب إلغاؤه بالكامل ضمن إجراءاتها العقابية ضد بريتوريا.
وجاء هذا الإجراء ردًا على موقف بريتوريا المناهض لـ”إسرائيل”، بعد أن رفعت قضية أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها الاحتلال بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة.
وأشار بيان البيت الأبيض إلى هذه القضية كدليل على اتخاذ جنوب أفريقيا مواقف معادية لواشنطن وحلفائها، ما يعكس نهج إدارة ترامب في معاقبة كل من يتحدى سياساته الخارجية.
وحمل بيان المكتب البيضاوي انتقادات أخرى لقانون أقرته بريتوريا الشهر الماضي بخصوص مصادرة الممتلكات اعتبر أنه ينطوي على تمييز ضد المزارعين البيض.
فيما ردت جنوب إفريقيا على الاتهامات الأمريكية، بالتأكيد على أنها ماضية قدمًا في قضيتها المتعلقة بالإبادة الجماعية ضد “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية، على الرغم من الأمر التنفيذي الذي وقّعه الرئيس الأمريكي لمعاقبة البلاد على موقفها “العدواني” تجاه حليفة الولايات المتحدة، وفق ما أوردته صحيفة “فايننشال تايمز“.
وقال وزير خارجية جنوب إفريقيا رونالد لامولا إنه “لا توجد فرصة” لجنوب أفريقيا لسحب قضيتها أمام محكمة العدل الدولية على الرغم من تهديدات ترامب. وأضاف للصحيفة البريطانية: “التمسك بمبادئنا له عواقب في بعض الأحيان، لكننا نظل ثابتين على أن هذا مهم للعالم وسيادة القانون”.
بطبيعة الحال لم يرق لترامب تجُرُّؤ جنوب أفريقيا على رفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي كان يرتكب الإبادة الجماعية في غزة، على مدى قرابة عامين خلفت نحو 160 ألف قتيل وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 14 ألف مفقود.
ففي نهاية العام 2023، رفعت جنوب أفريقيا دعوى قضائية ضد “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية، التي تتخذ من لاهاي مقرًا لها، قائلةً إنها انتهكت اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 بشأن منع الإبادة الجماعية.
ومطلع 2024، أمرت محكمة العدل الدولية “إسرائيل” باتخاذ إجراءات لمنع الإبادة الجماعية في غزة والتحريض المباشر عليها، ورفضت المحكمة طلبًا إسرائيليًا برفض الدعوى التي أقامتها جنوب أفريقيا. وصوّتت أغلبية كبيرة من أعضاء لجنة المحكمة المؤلفة من 17 قاضيًا لصالح اتخاذ إجراءات عاجلة تلبي معظم ما طلبته جنوب أفريقيا.
واكتسبت قضية جنوب أفريقيا أهمية كبرى إذ أحرجت الاحتلال وداعميه، كما انضمت إلى الدعوى لاحقًا العديد من الدول المؤثرة بموجب بند في النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية يسمح لأطراف ثالثة بالانضمام إلى الإجراءات إذا رأوا أن لديهم “مصلحة ذات طبيعة قانونية قد تتأثر بأي قرار في القضية”.
اونضمت نيكاراغوا كأول دولة تتقدم بطلب رسمي للتدخل في قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في يناير 2024، تلتها كولومبيا في أبريل، ثم ليبيا في مايو من العام ذاته. قبل انضمام لاحقا كل من بوليفيا، إسبانيا، المكسيك، تركيا، وإيرلندا، إلى جانب دول أخرى، مما زاد من عزلة إسرائيل وحلفائها على الساحة الدولية.
توبيخ شديد
وفقًا للأعراف الدبلوماسية، يُعد إعلان دبلوماسي ما “شخصًا غير مرغوب فيه” تصعيدًا كبيرًا، يُلزم المعنيّ بمغادرة البلاد فورًا، وهو ما حصل مع السفير الجنوب أفريقي الذي مُنح 48 ساعة فقط لمغادرة الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من حدة القرار، جاء ردّ الرئاسة الجنوب أفريقية مقتضبًا، حيث أكّدت التزامها بالحفاظ على العلاقات الثنائية لما فيه مصلحة البلدين، دون التلويح بإجراءات انتقامية ضد واشنطن.
ويشير هذا النهج إلى رغبة بريتوريا في تجنّب تصعيد الأزمة، لا سيما في ظل رئاسة ترامب، الذي يُعرف باتخاذه قرارات متسرعة تستند إلى اعتبارات شخصية وحسابات ضيقة. كما أن أحد أبرز حلفائه، الملياردير إيلون ماسك، الذي ينحدر من جنوب أفريقيا، يملك تاريخًا طويلًا من الخلافات مع حكومة بريتوريا، مما قد يُعقد المشهد أكثر.
PRESIDENCY NOTES RASOOL EXPULSION
The Presidency has noted the regrettable expulsion of South Africa’s Ambassador to the United States of America, Mr. Ebrahim Rasool.
The Presidency urges all relevant and impacted stakeholders to maintain the established diplomatic decorum in…
— The Presidency 🇿🇦 (@PresidencyZA) March 15, 2025
على الرغم من تبرير وزير الخارجية الأمريكي قرار طرد سفير جنوب أفريقيا بسبب انتقاداته لترامب ووقوفه ضد حركة “ماغا” (التي تعني: لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا)، فإن هذا الإجراء يُعد تصعيدًا غير مسبوق، لا يُتخذ عادةً إلا في حالات النزاعات الحادة بين الدول، مثل قطع العلاقات الدبلوماسية أو التحضير لمواجهة سياسية أو عسكرية كبرى.
لكن يبدو أن الدافع الحقيقي وراء التصعيد الأمريكي ليس مجرد تصريحات السفير، بل رغبة ترامب في الانتقام من بريتوريا بسبب موقفها القانوني ضد “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية. فمنذ عودته إلى البيت الأبيض، كثّف ترامب إجراءاته العقابية ضد كل من انتقد الاحتلال الإسرائيلي، مستخدمًا العقوبات والضغوط السياسية، وهو ما يتضح في القرارات الأخيرة التي استهدفت جنوب أفريقيا وغيرها من الدول والجهات المناهضة لإسرائيل.
يمكن تلخيص أبرز الإجراءات العقابية التي اتخذها ترامب ضد الدول والجهات المناهضة لإسرائيل في النقاط التالية:
- في السادس من فبراير/شباط الماضي وقع دونالد ترامب مرسومًا يقضي بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية لاتهامها بـ”مباشرة إجراءات قضائية لا أساس لها ضد الولايات المتحدة وحليفنا المقرب إسرائيل”. ويحظر المرسوم دخول مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية وموظفيها وعناصرها إلى الولايات المتحدة وتجميد أصول الأعضاء.
- بدأت إدارته في استهداف النشطاء الداعمين لفلسطين في الولايات المتحدة، حيث اعتقلت سلطات الهجرة مؤخرًا الناشط محمود خليل بسبب آرائه، حيث يحاول ترامب ترحيله وترحيل كل المؤيدين لفلسطين من الطلاب وهو ما يشكل تهديدًا كبيرًا للدستور الأمريكي بحسب واشنطن بوست. والاثنين الماضي، تفاخر ترامب، باعتقال خليل، محذرًا على موقعه “تروث سوشيال” من أن “هذا هو أول اعتقال من بين العديد من الاعتقالات القادمة”.
- بدأت إدارة ترامب في اتخاذ إجراءات تبدو جديدة في ما يتعلق بالمساعدات العسكرية لمصر، بالتوازي مع موقف القاهرة إزاء رفض تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، وعدم دعم الخطة التي طرحها ترامب لتهجير الغزّيين. وكشفت مصادر دبلوماسية مصرية عن تلقي القاهرة إخطارًا رسميًا من الولايات المتحدة بشأن قرار خفض قيمة المساعدات العسكرية لمصر في عهد ترامب، على أن يدخل هذا القرار حيّز التنفيذ بدءًا من العام المقبل، وفقًا لقناة DW الألمانية.
تحسب لمزيد من انتقام ترامب
يتوقع خبراء من جنوب أفريقيا مثل الأكاديمي البارز آدم حبيب، مزيدًا من التصعيد الأمريكي في ظل رئاسة ترامب، إذ حذّر في سلسلة منشورات له على منصة “إكس” من إقدام ترامب على اتخاذ خطوة أبعد من طرد السفير وقطع المساعدات البالغة 440 مليون دولار.
يلفت حبيب إلى إمكانية إلغاء الرئيس الجمهوري وصول جنوب أفريقيا المعفي من الرسوم الجمركية إلى الأسواق الأمريكية بموجب قانون النمو والفرص في أفريقيا (أغوا)، في ظل سياساته المتهورة القائمة على الانتقام.
وقول حبيب إن “الولايات المتحدة أقدمت على الطرد بهذه الطريقة غير الدبلوماسية والمهينة لأنها تريد أن تجعل من جنوب إفريقيا مثالًا. تريد أن ترسل رسالة إلى بقية العالم النامي مفادها أن هناك عواقب لتحدي مصالح الولايات المتحدة وسياستها الدولية”، في إشارة منه إلى القضية التي رفعتها حكومة جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل”.
1. The debate on Rasool’s public expulsion as SA’s ambassador to the US has focussed on the wisdom of his remarks.But this debate misses the substantive issues at stake. First, the public way the expulsion was done suggests that the US is looking for a political showdown with SA. https://t.co/4g6T2YwZNA
— Adam Habib (@AdHabb) March 16, 2025
واقترح الأكاديمي تقليل الاعتماد الاقتصادي على الولايات المتحدة، مشيرًا إلى أن بلاده بحاجة إلى أن تكون أقل عرضة للإجراءات العدائية الأمريكية. مبينًا أن “الإجراءات العدوانية لترامب ضد حلفاء واشنطن تفتت الغرب وتخلق تحالفات بديلة في جميع أنحاء العالم. نحتاج إلى أن نكون منفتحين على التعامل مع هذه التحالفات للاستفادة من الفرص”.
أخيرًا، يمكن اعتبار تصريحات الكاتب الأمريكي البارز توماس فريدمان دليلاً واضحًا على أن سياسة ترامب الخارجية تفتقر إلى التماسك المؤسسي، حيث وصفها بأنها مدفوعة بالمظالم الشخصية، والسعي للانتقام، وعقلية الولاء المطلق داخل إدارته. فبدلاً من اتباع نهج دبلوماسي قائم على المصالح الاستراتيجية، يتصرف ترامب وفقًا لاعتباراته الشخصية، متجاهلًا الأعراف التقليدية للسياسة الخارجية الأمريكية، مما يعزز الطابع العشوائي والانتقامي لقراراته على الساحة الدولية.
وفي مقاله الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز قبل أيامٍ بعنوان ” انهيارٌ كبيرٌ يجري على قدم وساق“، يرى فريدمان أن ما يشهده العالم اليوم من قرارات ومراسم متضاربة ينفذها جميعا وزراء وموظفون في الحكومة يجمعهم الخوف من تغريدة هنا وهناك، مشيرًا إلى أنّ مستشاري ترامب يشجعونه على تنفيذ خطط غير واقعية مثل تهجير الفلسطينيين وتحويل غزة إلى منطقة استثمارية.