في ظل التطورات الأخيرة التي شهدتها الساحة السورية، وخاصة توقيع اتفاق وصف بالتاريخي بين حكومة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، برزت قضية تنظيم داعش والسجون التي تحتجز مقاتليه وعائلاتهم، وبات مصير هذه السجون نقطة نقاش، خاصة في ظل استمرار “قسد” في استغلالها كورقة ضغط سياسية وأمنية.
وفي ظل تراجع نشاط التنظيم بعد سقوط نظام الأسد بشكل ملحوظ في المناطق التي باتت تحت سيطرة الحكومة السورية الجديدة، نحاول خلال السطور التالية تسليط الضوء على التحولات الجارية شرق سوريا، وتأثيرات الاتفاقية الأخيرة على مصير التنظيم والسجون التي تضم مقاتليه، خاصة وأن التطورات تزامنت مع إعلان اتفاق بين دول جوار سوريا لإطلاق غرفة عمليات لمواجهته.
ورقة “قسد”
على مدار السنوات الماضية، شكّلت محاربة تنظيم داعش ورقةً استراتيجية استخدمتها الولايات المتحدة لتبرير دعمها المستمر لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، باعتبارها القوة الرئيسية التي تتصدى لخطر التنظيم وتؤمّن السجون والمخيمات التي تحتجز مقاتليه وعائلاتهم.
وتحت هذا المبرر، واصلت واشنطن تقديم الدعم العسكري واللوجستي لـ”قسد”، متجاهلةً الانتقادات التركية التي تعتبر أن هذا الدعم يعزز نفوذ “وحدات حماية الشعب” الكردية، التي تصنّفها أنقرة كتنظيم إرهابي.
إلا أن الاتفاقية الأخيرة بين “قسد” ودمشق فتحت الباب أمام مرحلة جديدة، حيث بات تفكيك “قسد” وطرد المقاتلين الأجانب منها أمرًا أكثر واقعية من أي وقت مضى.
وتعتبر تركيا هذه التطورات فرصة سانحة لإنهاء وجود “قسد” واستبدالها بقوة بديلة، خاصةً أن استمرار سيطرة الميليشيات الكردية على السجون والمخيمات التي تحتجز عناصر داعش لم يكن سوى ذريعة سياسية تهدف إلى إضفاء شرعية على وجودها العسكري.
في هذا السياق، صرّح وزير الخارجية التركي “هاكان فيدان” لصحيفة فايننشال تايمز” بأن أنقرة تأمل في انسحاب القوات الأميركية من سوريا، مؤكداً أن بلاده تسعى إلى إنهاء الفكرة القائلة بأن “قسد” ضرورية لمنع عودة داعش.
كما ألمّح إلى احتمال أن تتولى القوات التركية مسؤولية إدارة السجون والمخيمات التي تضم عناصر التنظيم، في خطوة تهدف إلى قطع الطريق أمام استمرار استغلال الملف من قبل “قسد” وحلفائها.
وخلال اللقاء الأول بين فيدان ووزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو على هامش مشاركته في مؤتمر ميونيخ للأمن بحثا مسألة سجون مقاتلي “داعش” والحجج الأميركية بدعم قسد كونهم يتولون مهمة حراسة السجون، والمساعي التركية لتَبني ملف مكافحة التنظيم.
وتُرجمت هذه المساعي عمليًا من خلال الاجتماع الخماسي الذي انعقد في العاصمة الأردنية عمّان خلال مارس الجاري، والذي ضمّ وزراء الخارجية والدفاع، إضافةً إلى رؤساء هيئات الأركان ومديري أجهزة المخابرات في كلٍّ من الأردن، وتركيا، وسوريا، والعراق، ولبنان.
وأسفر الاجتماع عن توافق الدول المشاركة على تكثيف الجهود لمواجهة الإرهاب، والحدّ من خطر عودة تنظيم داعش في ظل التطورات المتسارعة.
في ضوء هذه التطورات، تتجه الأنظار إلى مصير السجون التي تديرها “قسد”، وما إذا كانت دمشق وأنقرة ستتفقان على صيغة جديدة لإدارتها، خاصةً مع تراجع نشاط داعش في سوريا.
وتُشرف “قسد” على 24 منشأة احتجاز ومخيمين هما الهول وروج، وتحتوي هذه المنشآت على ما يقارب 56 ألف شخص بينهم 30 ألف طفل.
ويتوزع المعتقلون من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على 26 سجناً بينها 7 سجون مكتظة في مدن وبلدات خاضعة لسيطرة قسد، أكبرها سجن غويران أو الصناعة والذي يقع في مدينة الحسكة ويحوي نحو 5 آلاف معتقل بينهم أجانب من جنسيات مختلفة من عناصر التنظيم، في حين كان السجن شهد أعمال شغب وعصيان تطورت لتمرد مسلح قبل خمس سنوات.
وبالنظر إلى المتغيرات الحاصلة في المنطقة، يبرز ثلاثة سيناريوهات رئيسية حول مصير مقاتلي داعش المحتجزين في سجون شمال شرقي سوريا: نقلهم إلى العراق برعاية التحالف الدولي، أو تولي الدولة السورية مسؤولية احتجازهم وإدارتهم، أو تسليم تركيا مسؤولية هذه السجون وهو ما سبق أن عرضته أنقرة على واشنطن كبديل محتمل، في إطار مساعيها لتقويض نفوذ “قسد” وإعادة تشكيل التوازنات الأمنية في المنطقة.
داعش بعد سقوط الأسد
منذ بداية ديسمبر 2024، ومع انطلاق عملية “ردع العدوان” في 27 من تشرين الثاني، التي أعلنتها المعارضة السورية ضد قوات النظام السوري، وتمكنت خلالها من إسقاطه خلال 11 يومًا، لوحظ تراجع غير مسبوق في نشاط تنظيم “داعش” في البادية، حيث توقفت هجماته تمامًا.
خلال العام المنصرم 2024، نفّذ تنظيم داعش 240 هجومًا مؤكدًا، أسفرت عن مقتل 440 عسكريًا من قوات النظام البائد والميليشيات الموالية له، إضافةً إلى 38 مدنيًا في هجمات مباشرة (باستثناء الضحايا الذين سقطوا نتيجة الألغام، حيث لم يتم تضمينهم في الإحصائية).
كما استهدف التنظيم 26 عملية ضد رعاة الأغنام وجامعي الكمأة في البادية، فيما شن 24 هجومًا ضد قوات النظام داخل مناطقه الحضرية، حيث تبنّى التنظيم بعضها، بينما بقيت الهجمات الأخرى مجهولة الجهة. وكان شهر يونيو 2024 الأكثر دموية بالنسبة لقوات النظام البائد، حيث قُتل خلاله 93 جنديًا في عمليات داعش.
أما في ديسمبر 2024، وهو الشهر الذي شهد نهاية نظام الأسد، سجل التنظيم أدنى مستوى من النشاط في تاريخه، حيث لم يُنفذ أي هجوم، كما لم يسجل خلال العام الجاري 2025، أي نشاط لمقاتلي داعش في المنطقة، وانعدمت هجماته ضد قوات الحكومة السورية الجديدة بنسبة 100%، مما يشير إلى تحولات جذرية في المشهد الأمني داخل سوريا.
ورغم غياب الهجمات العسكرية، إلا أن الحرب الإعلامية التي يشنها التنظيم عبر منصاته الإعلامية الرسمية ضد الحكومة السورية الجديدة لم تتوقف، حيث واصل التنظيم استهداف الإدارة السورية في خطابه الإعلامي، الذي تصدّر صفحات صحيفة “النبأ”، واجهته الإعلامية الأبرز، منذ بدء عملية “ردع العدوان” وحتى اليوم.
ففي 6 ديسمبر 2024، نشرت صحيفة “النبأ” عددها رقم 472، حيث وصفت ثوار سوريا بأنهم عملاء لتركيا، كما هاجمت سياسة الفصائل في تعاملها مع الأقليات الدينية في البلاد، إضافة إلى انتقادها لمشروع الدولة المدنية الذي تسعى المعارضة إلى إقامته، قائلة: “لا فرق بين الطرفين، الثوار والنظام”.
وتبع ذلك العدد الصادر في 19 ديسمبر 2024، والذي هاجم الإدارة السورية الجديدة في افتتاحية حملت عنوان “صيدنايا والنفاق العالمي”. وفي 24 يناير 2025، نشر التنظيم أول إصدار مرئي له بعد سقوط النظام، إلا أنه لم يحمل جديدًا، حيث أعاد تكرار نفس الرسائل الإعلامية التي وردت في صحيفة “النبأ” ووسائل الإعلام المناصرة له.
وواصل التنظيم في هذا الإصدار نعته لثوار سوريا بأنهم “بيادق تركيا”، كما ركّز على طبيعة نظام الحكم المقبل في سوريا، متسائلًا عن شكل الحكم الذي ستطبقه الفصائل هناك. كما وصف الثورة السورية بأنها “ثورة جاهلية” لأنها “تسعى لترسيخ مفهوم الدولة المدنية، وليست جهادًا في سبيل الله”، وفقًا لزعمه.
اين أختفى التنظيم؟
انعدم نشاط تنظيم الدولة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية الجديدة، ويُعزى هذا التراجع إلى حدث كبير عممتهُ قيادة التنظيم على أعضائه ومناصريه، وهو إلغاء “الولاية الأمنية” في البادية الشامية. وبموجب هذا القرار، قام التنظيم بتفكيك غالبية مفارزه الأمنية ومجموعاته القتالية، التي كانت تُقاتل نظام الأسد والميليشيات المدعومة من إيران منذ عام 2019.
وجاء هذا القرار في أواخر ديسمبر 2024، عقب سقوط النظام مباشرة، حيث أصدر التنظيم تعميمًا لأعضائه السوريين، أو من يُطلق عليهم “الشوام“، بالعودة إلى مناطقهم الأصلية داخل سوريا، دون إصدار أي تعليمات جديدة بشن هجمات ضد القوات الحكومية السورية حتى الآن.
في المقابل، توجه غالبية عناصر التنظيم الأجانب والعراقيين نحو العراق، في حين لا تزال مجموعات صغيرة تابعة للتنظيم، من مناصري “التيار الحازمي” من السوريين، متواجدة في بعض البلدات ببادية حمص، حيث يبدو أنهم يسعون إلى مواصلة القتال ضد الحكومة السورية، وعلى الرغم من هذه التغيرات، لا يزال تنظيم الولايات القديم يحتفظ بنفس التراتبية الهيكلية.
وبحسب مصادر مطلعة على نشاط التنظيم تحدثت لـ”نون بوست” فإن التنظيم يعتزم إطلاق عمليات تجنيد قريبة في مناطق سيطرة الحكومة السورية، تمهيدًا لما وصفوه بـ”مرحلة مستقبلية”.
وخلال الفترة الممتدة من منتصف يناير وحتى فبراير من العام الجاري 2025، لوحظت عودة العشرات من الأشخاص المعروفين بأنهم مقاتلون سابقون في تنظيم “داعش”، ممن كانوا متمركزين في البادية الشامية، إلى بلداتهم الأصلية في أرياف حلب، وحمص، ودير الزور، وشرق الرقة.
وأثناء حديثنا مع عدد من سكان البادية العائدين إليها بعد سنوات من الغياب، أكدوا أن البادية اليوم لم تعد تشكل خطرًا كما في السابق، باستثناء الألغام المنتشرة فيها. كما شهدت المنطقة عودة المئات من رعاة الأغنام إلى بوادي دير الزور، والرقة، وحمص، وحماة، وخناصر، بعد غياب دام قرابة تسع سنوات.
وباتت مناطق مثل وادي الضبيات، والتليلة، وحُمّيمة، وجبل البشري، ورحوم، ورحوب، التي كانت تُعد من أخطر المناطق على الإطلاق، تعج مجددًا بقطعان الأغنام والإبل، بعدما كانت مسرحًا لعمليات ميليشيا فاغنر الروسية، وميليشيات إيران، والتنظيم.
هذه المناطق شهدت على مدار السنوات الماضية حالات قتل واختفاء لعدد كبير من المدنيين، لكنها اليوم تعود تدريجيًا إلى الحياة، بعد أن كانت بؤرة للصراعات المسلحة.
وفي الوقت ذاته، بدأ السكان بالعودة تدريجيًا إلى مناطق مثل السخنة، والطيبة، والكوم، وهي مناطق ارتبط اسمها خلال السنوات الماضية بالخطورة الشديدة بسبب نشاط التنظيم فيها.
تواصل “نون بوست” مع عدد من سكان البادية، والذين أفادوا بالعثور على مقرات متنوعة ومتفاوتة الحجم كان يستخدمها تنظيم”داعش”، بعضها محفور في الجبال على غرار المقر الذي تم العثور عليه في جبل الضاحك قرب السخنة، وأخرى مبنية بشكل مُحصن ومخفية، كما هو الحال في مناطق تياس، والباردة، والصوانة في البادية.
وبهذا، يمكن القول إن جميع مقرات التنظيم في البادية تم إخلاؤها بالكامل، حيث انتقل التنظيم إلى مرحلة التجنيد وإعادة التأسيس داخل المناطق الحضرية.
العبور نحو العراق.. الخاصرة الضعيفة
خلال السنوات الماضية، ومع استمرار القتال بين تنظيم “داعش” وقوات النظام السوري البائد وحلفائه، اعتمد التنظيم على تعزيز قواته في البادية عبر مسارين أساسيين:
المسار الأول: التعويل على سكان مناطق البادية، خاصة في بلدات ومدن شرق حمص، وحماة، وريف حلب، ومناطق دير الزور والرقة التي كانت خاضعة للنظام. ففي تلك المناطق، كان هناك ثلة من مناصري التنظيم أو المتعاطفين معه، الذين أيدوا عملياته ضد النظام والإيرانيين والروس، وساهموا في إمداده بالموارد الكافية للصمود في بيئة قاسية كالبادية الشامية.
وقد تم ذلك من خلال وسائل عدة، من بينها إيصال المتطوعين الجدد إلى مناطق محددة داخل البادية، حيث يتسلمهم التنظيم ويضمهم إلى صفوفه، ومن بينهم مراهقون وأطفال. وكانت هذه التحركات تتم داخل البادية الشامية نفسها، معتمدة على شبكات محلية موالية للتنظيم.
المسار الثاني: جلب المقاتلين من مناطق الجزيرة، حيث تسيطر قوات (قسد). واعتمد التنظيم على شبكات تهريب متمرسة موالية له، كان لها دور كبير في نقل عناصره. واعتُبر ريف الرقة الشرقي والغربي أكثر المناطق فاعلية في عبور مقاتلي التنظيم نحو البادية، حيث كانت توجد ما يُعرف بـ “المضافات” الخاصة بداعش، وهي منازل أو خيام داخل قرى أو مخيمات في الرقة والحسكة، يتجمع فيها الراغبون في الالتحاق بالتنظيم.
وبحسب مصادر مطلعة على عمل التنظيم، فإن عملية الانتساب تتطلب تزكية من قبل مقاتلين مخضرمين داخل التنظيم، حيث لا يُسمح لأي شخص بالانضمام بشكل مباشر.
وعقب الموافقة، يتم نقل المنتسبين بين منطقتي الجزيرة والشامية عبر هذه الشبكات، التي لا تزال فاعلة حتى اليوم، وتصل أيضًا إلى العراق. واستغلت هذه الشبكات الفساد داخل المنظومة العسكرية للنظام السوري سابقًا، وقوات قسد، والجيش العراقي، وميليشيات الحشد الشعبي الشيعية.
وخلال السنوات الماضية، شكلت مناطق الجزيرة السورية أكبر مصدر لتمويل تنظيم “داعش” وتجنيد العناصر، حيث أسس التنظيم هناك “ولايات أمنية” عقب سقوط آخر معاقله في الباغوز في مارس 2019. وعلى الرغم من أن نشاط خلاياه تراجع بسبب الضربات التي نفذها التحالف الدولي، إلا أنها لا تزال نشطة، وإن كان بوتيرة منخفضة، حيث تنفذ هجمات ضد قسد، وتجبي الأموال من السكان المحليين.
وخلال شهر مارس الجاري، تبنى التنظيم هجومين ضد قسد، إلا أن نشاطه العسكري تراجع بشكل ملحوظ مقارنة بالسنوات السابقة، مما يعكس ضعف قدرته على شن عمليات واسعة النطاق كما في الماضي.
وبالعودة إلى عمليات التهريب نحو العراق، وخلال تواصل “نون بوست” مع أشخاص مطلعين على هذا النشاط، أفادوا بأن العشرات من مقاتلي تنظيم الدولى عبروا إلى العراق قادمين من البادية السورية.
وكانت إحدى أكبر عمليات التهريب في تاريخ 21 ديسمبر 2024، حين تمكنت مجموعات من مقاتلي التنظيم المتمركزة في البادية من العبور إلى العراق، مستغلين السيطرة الهشة آنذاك على ريف الرقة الشرقي من قبل قسد، لا سيما في مناطق “معدان” و”السبخة“، حيث عبر هؤلاء المقاتلون نهر الفرات إلى الضفة الأخرى، مستخدمين شبكات تهريب نشطة موالية للتنظيم، تعمل منذ سنوات في المنطقة.
وبعد وصولهم إلى ريف الحسكة، واصلوا تحركهم عبر الحدود السورية-العراقية، من خلال شبكة تهريب ثانية مرتبطة بالأولى، حيث تمكنوا من العبور إلى العراق بمساعدة عسكريين عراقيين على الحدود، مستفيدين من تفشي الفساد داخل المؤسسات الأمنية هناك.
كما نُفذت عملية تهريب أخرى في منتصف يناير 2025 بالطريقة ذاتها، حيث عبرت مجموعات من مقاتلي داعش، غالبيتهم من العراقيين واللبنانيين، ما يعكس توجه التنظيم نحو إعادة ترتيب صفوفه في العراق، بالتوازي مع تقليل ثقله في سوريا وتجميد غالبية نشاطاته هناك.
ورغم التصريحات العراقية الرسمية التي تؤكد ضبط الحدود مع سوريا، إلا أن الواقع يشير إلى فشل أمني واضح في هذا الملف، إذ يصعب السيطرة على مسافات طويلة كالحدود العراقية-السورية.
وكانت قيادة قوات الحدود العراقية قد أعلنت عن إنجاز جدار كونكريتي بطول 90 كم، يمتد من جبل سنجار حتى منفذ ربيعة غربي نينوى، على الشريط الحدودي مع سوريا، إلا أن هناك مساحات واسعة لا تزال مفتوحة بين البلدين، مما يترك ثغرات أمنية يمكن استغلالها.
ويُعزز هذا الخلل الأمني أيضًا الفساد المستشري داخل المنظومتين العسكريتين المسؤولتين عن حماية الحدود، وهما القوات العراقية من جهة، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) من الجهة الأخرى، مما يتيح لتنظيم”داعش” حرية التحرك بين البلدين، مستغلًا هذه الثغرات لإعادة تنظيم صفوفه وتهريب عناصره.
وكانت القيادة المركزية الأمريكية أعلنت في بيان لها، بتاريخ 13 مارس الجاري، أنها حيّدت القائد الثاني في التنظيم عبد الله مكي مصلح الرفاعي، الملقب بـ”أبو خديجة”، وذلك خلال غارة جوية في محافظة الأنبار غربي العراق، حيث قُتل برفقته عنصر آخر.
وبتتبع سيرة أبو خديجة، تبيّن أنه كان يشغل منصب رئيس اللجنة المفوضة في التنظيم، إضافةً إلى كونه أحد أعضاء مجلس الشورى وقائد العمليات العسكرية في سوريا. وتشير المعلومات إلى أن عودته من سوريا إلى العراق قد تكون حديثة، وهي فرضية قائمة.
وعلى الرغم من محاولات التقليل من أهمية هذا الرجل داخل التنظيم، إلا أن سجله القيادي يثبت أنه كان الرجل الثاني في منظومة الدولة الإسلامية من حيث الهرم القيادي، ما يجعل مقتله ضربة مهمة للتنظيم.
احتواء التنظيم
أصبحت مسألة احتواء خطر “داعش“ الشغل الشاغل لدول المنطقة اليوم، إلى جانب الولايات المتحدة، في ظل سباق كبير لتعزيز الأمن بعد سقوط نظام الأسد في سوريا.
البداية كانت عبر اجتماع الدول الخمس في عمّان خلال مارس الجاري، أعقبته زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى العراق لتعزيز التعاون مع بغداد بهدف التصدي لخطر التنظيم.
ولا يمكن تجاهل التنسيق الأمريكي مع الحكومة السورية الجديدة، والذي تجلّى في 11 يناير الماضي، عندما أفشلت السلطات السورية مخططًا لداعش لتفجير قنبلة في ضريح السيدة زينب، وهو موقع شيعي مقدس ووجهة حج رئيسية في ضواحي دمشق. وقد شاركت الولايات المتحدة معلومات استخباراتية مباشرة مع الحكومة السورية المؤقتة، ما أسهم في إحباط العملية قبل تنفيذها.
ورغم دخول التنظيم مرحلة من الخمول، إلا أن ذلك لن يستمر طويلًا، إذ يسعى التنظيم لإعادة ترتيب صفوفه، ولكن هذه المرة بعيدًا عن البادية، التي لم تعد مركزًا لعملياته. فوجود عناصره بات داخل المدن والبلدات التي تسيطر عليها الحكومة السورية.
ومع ذلك، فإن عودة داعش بحجم قوته السابقة في 2014 لم تعد واردة، إذ اختلفت الظروف اليوم عما كانت عليه في الماضي، ما لم تحدث فوضى كبيرة يستغلها التنظيم.
كما أن الذريعة التي كان التنظيم يستند إليها لاستقطاب الدعم من المجتمعات المحلية—وهي قتال نظام الأسد والميليشيات الإيرانية، باعتبارهم “عدو الشعب”—لم تعد قائمة بعد سقوط النظام، ما أفقده حاضنة شعبية كبيرة داخل المجتمع السني، الذي بات يبحث عن الاستقرار والأمان، ويدعم الدولة الجديدة. ومن المرجح أن يقف هذا المجتمع إلى جانب الحكومة السورية ضد أي محاولات لزعزعة الأمن.
إضافةً إلى ذلك تمتلك الحكومة السورية الجديدة، تاريخًا جيدًا في محاربة تنظيم داعش. ومع أن بعض الأطراف قد تعارض هذا الطرح نظرًا لاتساع رقعة سوريا الجغرافية، إلا أن التجربة في إدلب، التي نجحت في اجتثاث داعش، لا يمكن مقارنتها بالموقف الحالي، حيث يعاني التنظيم اليوم ضعفًا حادًا ونقصًا في الزخم البشري.
كما أن التنسيق الأمريكي مع السلطات في دمشق في هذا الملف، إلى جانب الاندماج الجديد بين الحكومة السورية وقسد، سيسهم في تعزيز الجبهة ضد “داعش”، وسيقع العبء الأكبر في التصدي للتنظيم على الدولة السورية والعراق، اللذين سيكونان في الخطوط الأمامية لمواجهة أي محاولات لعودة التنظيم إلى الساحة بقوة.