الغالبية العظمى من الشعوب العربية تسيطر عليها معتقدات تاريخية كثير منها ربما يكون على سبيل الخطأ، وسواء كان ذلك خطأ مقصودًا أم غير مقصود فالنتيجة واحدة، تشكيل العقلية الفكرية والتاريخية للمجتمع على أسس غير سليمة، ومن ثم يكون البناء على هذه العقلية غير سليم بالتبعية كذلك، فما بني على باطل فهو باطل.
قد يكون المعتقد الأبرز الذي يخيم على الأجواء العقلية للجزء الأكبر من البقعة العربية أننا شعوب ديكتاتورية بالوراثة، وأن أنظمة الحكم الديكتاتورية التي تحكمنا هذه الأيام نتاج طبيعي ومنطقي لموروث قديم، ومن ثم لا يجوز لنا الاعتراض أو التصدي، وما علينا إلا قبول الأمر الواقع مهما كانت قسوة وسلطوية الحاكم.
التاريخ العربي لم يكن كما نُقل لنا، والسياسة في حضاراتنا القديمة لم تكن على النهج الديكتاتوري كما كنا نظن
هذا المعتقد ساعد بشكل كبير في ترسيخ أركان النظم الديكتاتورية في العالم العربي، حتى بات من الصعب أن تجد نظامًا يجافي تلك الوضعية، وعليه جاءت الشعوب رافعة راياتها البيضاء، مستسلمة خانعة لمثل هذه الديكتاتوريات، إيهامًا منها أنها الحتمية التاريخية التي تفرض علينا السمع والطاعة وإلا فلن نستطيع تغيير نواميس الحياة.
لكن يبدو أن العقل العربي عاش قرونًا طويلة على معتقد خاطئ، فالتاريخ العربي لم يكن كما نُقل لنا، والسياسة في حضاراتنا القديمة لم تكن على النهج الديكتاتوري كما كنا نظن، إذ قدمت حضارات الشرق الأزلية على رأسها الفرعونية في مصر وبلاد الرافدين في العراق أنصع نماذج الديمقراطية والشورى بياضًا، وهو ما كشفته المؤرخة إيف شميل في كتابها “السياسة في الشرق القديم”.
دستور الشيوخ
يعد الكتاب الذي ترجمه مصطفى ماهر شهادة تبرئة ناصعة ضد وصم الحضارات العربية القديمة بالدكتاتورية، إذ كشف أن مصر وبلاد الرافدين كان يحكمهما ما قد يمكن تسميته “دستور الشيوخ” وهو عبارة عن مجموعة من القواعد والأعراف التي تنظم العلاقة بين الملك وشعبه الذي تمثله مجالس الأعيان، أهل الحل والعقد.
وأشار إلى أن سلطات الملوك الرافديين والمصريين كانت في واقع الأمر محدودة، وكان هناك مثل أعلى سياسي قوامه الحكمة، له ثقله على ضميرهم، وكانت هناك ثقافة ديمقراطية اتحاداتية تحد من الإغراءات الديكتاتورية، وعليه ما كان أمام الملوك آنذاك إلا الالتزام بهذه الضوابط.
وعن دور الشيوخ في استقامة حياة الملوك، أوضحت المؤرخة أن وجودهم كان ضروريًا لتفادي إفراطات الملك ومساعدته على مقاومة الإغرءات الاستبدادية، واصفة دورهم بأنهم كانوا مثل “الألهة الشخصية” التي تهدي الحكام إلى طريق الرشاد وتقوض لديهم النزعات الشخصية التي يغلب عليها الديكتاتورية.
فحين يريد الملك اتخاذ قرار ما عليه دعوة ما أطلق عليه “مجلس الشيوخ أو الأعيان” للانعقاد، الذي بدوره يدعو الشعب كله للحضور والاجتماع لمناقشة هذا القرار، فيجلس الملك أمام شيوخه ويعرض عليهم ما في جعبته، ثم يدور حديث مغلق بينهم، وبعد ذلك يتم عرض الأمر كله على الشعب الذي بدوره يقرر ما إن كان يقبل ذلك أم لا.
وفي حال عدم تحقيق الملك أو الحاكم لوعود قطعها على نفسه، يعقد ما يسمى “مراسيم العدل” حين يأتي الملك برفقة الشيوخ الذين يذكرونه بتلك الوعود وأنه لم يف بها، وفي بعض الأحيان كان للشيوخ سلطة عزل الملك حال التشكك في قدرته أو نواياه على تحقيق رغبات الرعية.
الغزاة الأوروبيون في القرون الوسطى واللاحقة لها سعوا إلى تصدير صورة مشوهة عن التاريخ القديم لحضارت الشرق، لا سيما أنها كانت قبلتهم نحو توسعة أطماعهم، في محاولة لخلق ملامح سلبية عن تاريخ شعوب تلك المنطقة
ويشير الكتاب أن سلطة الشيوخ لم تقتصر فقط على المسائل السياسية والدبلوماسية، بل تجاوزت ذلك إلى الشئون المالية والمجتمعية ومجالات الحياة العامة، غير أن أكثر ما أجادوا فيه كانت السياسة كونها كانت العنوان الأبرز لتقييم الحاكم ومدى قدرته على تلبية أحلام شعبه.
وتختتم المؤرخة هذا الفصل باستعراض بعض النماذج الحية لدور الشيوخ في تقويم وتقييم أداء الملوك، وكيف أن سلطتهم في بعض الأحيان كانت تفوق سلطة الملك، الأمر الذي جعل رضاهم وقناعتهم بما يقوم به الحاكم شرطًا أساسيًا لتجديد فترة الحكم، ومن ثم كان الملوك يخشون سطوتهم بالرضوخ لمطالب شعوبهم والالتزام بما يقطعونه من تعهدات.
صور ذهنية مشوهة
بعد هذا التأصيل التاريخي يبقى السؤال: من أوصل هذه الصورة المشوهة عن آليات عمل النظم السياسية الحاكمة لحضارات الشرق القديم؟ وفي هذا الشأن يجيب الدكتور أحمد حبيب، أستاذ الرأي العام المصري قائلاً: “فتش عن أوروبا”.
حبيب في تصريحاته لـ”نون بوست” كشف أن الغزاة الأوروبيين في القرون الوسطى واللاحقة لها سعوا إلى تصدير صورة مشوهة عن التاريخ القديم لحضارت الشرق، لا سيما أنها كانت قبلتهم نحو توسعة أطماعهم، في محاولة لخلق ملامح سلبية عن تاريخ شعوب تلك المنطقة”.
وأضاف أن هذه الصورة ساعدتهم كثيرًا في تحقيق العديد من النجاحات الاستعمارية، إذ قارن البعض بينهم وبين النظم القديمة بعد أن تم تصدير صورتها كنظم ديكتاتورية عاتية، ومن هنا مورست عملية “غسيل مخ” كاملة لتلك الشعوب، ما مهد الطريق نحو امتصاص عمليات الغزو والاحتلال بصورة بطيئة ودون مقاومة.
للأسف لم يكن هذا ديدن الحضارات القديمة فقط، بل حتى التاريخ الحديث والمعاصر كتب بأيادٍ غير عربية، ولنا في الصراع العربي الإسرائيلي المثل
وتابع “معظم الدراسات التأريخية التي وثقت مظاهر الحياة في الحضارات القديمة كتبت بأياد غربية، وما كان لأصحاب تلك الحضارات نصيب منها، ومن ثم كانت هناك أريحية كاملة في تقديم الصورة المراد تصديرها التي تتناسب مع أجندات وأيديولوجيات الدول الأوروبية”.
وللأسف لم يكن هذا ديدن الحضارات القديمة فقط، بل حتى التاريخ الحديث والمعاصر كتب بأيادٍ غير عربية، ولنا في الصراع العربي الإسرائيلي المثل، فهل يعرف أحد أنه لم يوجد توثيق عربي واحد للسنوات العشرة الأولى من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية بجانب حرب الاستنزاف وصولاً إلى حرب أكتوبر، وكل ما وصل إلينا كان عن طريق كتاب إسرائيليين، وما نأخذه الآن ونتناوله إعلاميًا مصبوغًا بالشخصية الإسرائيلية بامتياز.
العسكر.. كلمة السر
مع مرور الوقت وضعف النظم الحاكمة في الحضارات القديمة وبلوغها مراحل الوهن وما تلاها من تفكيك وانحدار، تقلص دور الشيوخ وأنزوى دستورهم رويدًا رويدًا، حتى تقلد العسكر مقاليد الأمور حين نشبت الحروب والصراعات بين الأمم بعضها البعض، ومن هنا كانت بداية ظهور الديكتاتوريات في عالمنا العربي.
الدكتور أحمد عفيفي أستاذ التاريخ الحديث بمركز البحوث والدراسات العربية، كشف أن معرفة العرب بالنظم الديكتاتورية رافق صعود العسكريين إلى أنظمة الحكم، وتحت دعاوى الحروب والدفاع عن الأوطان تراجع الحديث عن الديمقراطية والشورى وحق الشعب في مراجعة قرار الحاكم.
وأضاف في حديثه لـ”نون بوست” أن مرحلة الضعف التي بدا عليها العرب منذ أكثر من قرنين مهدت الطريق نحو ظهور حكام يفتقدون للخبرة السياسية، بل كان معظمهم ليسوا عربًا، وكانت كل مؤهلاتهم عسكرية من الدرجة الأولى، حيث ركزوا على الجانب القتالي في بناء الدول دون النظر إلى الجوانب الأخرى وهو ما أدى إلى دخول الكثير من الشعوب العربية أتون حروب لا قبل لهم بها.
رغم ما يعانيه العرب الآن من أنظمة فاشية، دينية كانت أو عسكرية، لا ينكرها أحد، فإن التاريخ كان أكثر إنصافًا للحضارات القديمة
كما أشار أستاذ التاريخ الحديث أن تعرض المنطقة العربية للحملات الاستعمارية الكبرى بدءًا من الصليبية والتترية وصولاً إلى الصهيونية والحلف الذي يدعمها، كان أرضًا خصبة لنمو هذا الفكر الديكتاتوري في عقلية الحكام الذين تقلدوا أمور الحكم في تلك الدول.
وتحت شعارات القومية والوطنية والتصدي للمؤامرات الخارجية وتعزيز مفاهيم “لاصوت يعلو فوق صوت المعركة” وخلق المعارك الوهمية، نسج الحكام العرب على مرّ العقود أقوى بنايات الديكتاتورية في العالم، حتى باتوا اللاعب الأول في هذا المضمار بشهادة مؤشرات الديمقراطية الصادرة عن المنظمات الأممية.
ورغم ما يعانيه العرب الآن من أنظمة فاشية، دينية كانت أو عسكرية، لا ينكرها أحد، فإن التاريخ كان أكثر إنصافًا للحضارات القديمة التي كانت ألوية الديمقراطية ترفرف فوق أعمدتها، لتصحح المفاهيم الخاطئة عن هذه الحقبة الزمنية التي ربما تكون يومًا ما نقطة انطلاق نحو استعادة هذه الألوية مرة أخرى.