في رحلة تدوم لساعاتٍ طويلة أو حتى أيام، يغادر آلاف الفلسطينيين قطاع غزة سنويًا، عبر معبر رفح البري، أملًا في بدء حياة جديدة ومختلفة عن تلك التي مزقتها الحرب، فرغم حالة الشك والضياع التي تصاحبهم طوال طريق السفر وحتى بعد وصولهم إلى وجهتهم، فإن خياراتهم الضئيلة في مدينتهم المشوهة اقتصاديًا وسياسيًا تجعلهم يستبعدون خيار البقاء ولا يتراجعون عن قرار الرحيل.
المؤسف أن عملية الهجرة المحفوفة بالكثير من الاحتمالات الخطيرة والمحبطة، لن تكون بعد الآن مدفوعة فقط بطموحات الشباب وإصرارهم على البحث عن ملجأ أكثر استقرارًا وأمانًا، لأنه اتضح مؤخرًا أن “إسرائيل” تسعى لتسهيل هذا الملف ضمن خطة إستراتيجية مدبرة لإضعاف معنويات الغزيين والضغط عليهم للهجرة.
الهروب من أكبر سجن مفتوح في العالم
تُعرف غزة بهذا الاسم “أكبر سجن مفتوح في العالم” منذ عام 2007 بسبب الحصار البري والجوي والبحري الذي تفرضه “إسرائيل” على حدودها، لتسلب حرية الحركة والتنقل من نحو مليوني شخص، ومن وقت لآخر، يُسمح لهم بالمرور عبر معبر رفح البري، للوصول إلى العاصمة المصرية، القاهرة، ومن ثم السفر إلى وجهتهم، وعادةً ما تأخذ عملية الخروج شهورًا ومحاولات عدة، كما تستلزم في أحيان أخرى دفع الرشاوى للخروج سريعًا، وبما أنه ما باليد حيلة، يدفع الغزيون أي ثمن مقابل حريتهم.
تقدم نحو ألفين و500 شخص من سكان غزة بطلب لجوء سياسي إلى بلجيكا، وذلك لعام 2018 وحده
وفقًا لتقديرات إسرائيلية، غادر القطاع نحو 35 ألف فلسطيني، العام الماضي، دون عودة، وكان معظمهم من الشباب وفئة المتعلمين، ومن بينهم 150 طبيبًا يعملون في مستشفيات غزة، تتجه الغالبية إلى تركيا، البلد الأكثر شعبيةً بين المهاجرين والأقرب لحدود أوروبا، حيث يلتقون على سواحلها بالمهربين للمرور إلى اليونان ومن ثم إلى البلدان الأوروبية الأخرى، وأكثرها تفضيلًا ألمانيا والسويد.
وحديثًا انضمت بلجيكا إلى القائمة، فبحسب دومينيك إرنولد، المتحدثة باسم مكتب الهجرة، تقدم نحو ألفين و500 شخص من سكان غزة بطلب لجوء سياسي إلى بلجيكا، وذلك لعام 2018 وحده، ما يجعلهم ثاني أكبر مجموعة تسعى للحصول على اللجوء هناك بعد السوريين، أما بالنسبة لبيانات عام 2019، فقد ارتفعت الأرقام في الأشهر الست الأولى وقدم ألف و472 فلسطيني طلب لجوء.
في هذا الجانب، يشير عادل عطية، نائب رئيس البعثة الفلسطينية لدى الاتحاد الأوروبي، أنه منذ 11 عامًا، لم يكن هناك إلا 3 آلاف فلسطيني في بلجيكا، وحاليًا يعتقد أن هناك ما يقارب 10 آلاف طالب لجوء فلسطيني يعيشون هناك، 98% منهم من قطاع غزة.
وبصفة عامة، كان الفلسطينيون من بين أكبر 5 مجموعات تطالب باللجوء في أوروبا خلال السنوات القليلة الماضية، وهم ثالث أكبر مجموعة بعد الأفغان والسوريين الذين يمرون إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، وعادةً ما تكون القوارب البحرية وسيلة المواصلات التي تنقلهم إلى حياة أخرى أو موت دائم، ففي شهر أبريل/نيسان من العام الحاليّ، لقي 13 فلسطينيًا من غزة حتفهم قبالة الساحل التركي، وفي حالات أخرى، يهاجر البعض دون الاستعانة بأي وسيلة نقل، مثلما حدث مع تامر السلطان (38 عامًا) الذي حاول قطع الغابات الحدودية على أقدامه للوصول إلى البوسنة والهرسك، لكنه توفي متأثرًا بنزيف جروح أصيب بها بسبب الظروف القاسية والمخيفة التي مر بها.
وذلك بالتزامن مع قصة أخرى، لا تقل بؤسًا عن الأولى، عن حمد صالح، شاب من شمال القطاع (22 عامًا)، مات غريقًا بعد أن حاول عبور نهر دارينا الفاصل بين البوسنة والهرسك سباحةً، ولم يُعثر عليه إلا بعد شهر من فقدانه.
رغم ذلك كله، فمن المتوقع أن تصبح خيارات الفلسطينيين بالبقاء أو المغادرة أشد قسوة وحساسية الآن، لأن قرار الرحيل لم يعد مرتبطًا بطموحات شخصية فقط، بل بات له أبعاد ومساعي سياسية تهدف إلى تقليل عددهم في المنطقة والحد من مقاومتهم للاحتلال.
هجرة طوعية ولكن بمساعدة مالية ولوجستية من “إسرائيل”
كشفت عدة مصادر إسرائيلية مثل صحيفة يديعوت أحرونوت، أن الحكومة الإسرائيلية تعمل على تسهيل هجرة الغزيين من القطاع “أملًا في خفض حدة التوتر”، وتتمثل هذه الجهود في تمويل العملية ماديًا وفتح المطارات الإسرائيلية أمام الغزيين لضمان عملية تهجيرهم بأدنى حد ممكن من التعقيدات، وهو ما نوقش مرارًا في اجتماعات مجلس الوزراء، ولكن الطرح لا يزال مقيدًا برغبة الدول الأوروبية التي ترفض استقبال الغزيين.
فبحسب الصحيفة، بذلت “إسرائيل” محاولات مع دول معينة لإقناعها بقبول الفكرة لكنها لم تنجح، مع العلم أن الحكومة الإسرائيلية مستعدة لفتح المعابر الحدودية من غزة، بل إنها مستعدة للسماح لسكان غزة بالخروج من منافذها طالما أن هناك دولاً ستستوعبهم، وستجري ترتيبات لهذا الهدف تشمل النقل من مطارات في صحراء النقب إلى خارج البلاد.
وزير الأمن الإسرائيلي: تل أبيب حاولت إقناع دول معينة، بعضها بلدان في منطقة الشرق الأوسط، لاستيعاب الفلسطينيين لكنها فشلت
وحتى وقت قصير، كانت تجري هذه المباحثات والمحاولات بصمت، ولكن مؤخرًا أقر وزير الأمن الداخلي غلعاد إردان، خلال حديثه لإذاعة هيئة البث الإسرائيلي “كان بيت”، بشكل رسمي أن الحكومة الإسرائيلية حاولت إقناع دول معينة، بعضها بلدان في منطقة الشرق الأوسط، لاستيعاب الفلسطينيين لكنها فشلت.
تتلاءم هذه الخطة مع رؤية النائب موتي يوغيف، من حزب “يمينا” الذي يعتبر واحدًا من أبرز المسؤولين المتحمسين لهذه الفكرة، إذ يرى أنه “يجب تشجيع هذا التوجه، وتمكين عدد أكبر من الفلسطينيين من مغادرة القطاع، إما لغرض الدراسة أو العمل أو الهجرة”. في المقابل، أعربت وزارة الخارجية الفلسطينية عن قلقها من أن “إسرائيل” تضغط على سكان غزة لمغادرة وطنهم، متهمةً الاحتلال الإسرائيلي “باستهداف الفلسطينيين ومصادر رزقهم والضغط عليهم لتشجيعهم على الهجرة”.
المشكلة الأساسية هي الاحتلال الإسرائيلي المسؤول عن سنوات مريرة من الحصار والحرب والتدمير، ولكنه يحاول الآن التلاعب بالحقائق واستغلال الأزمة الإنسانية على اعتبار أنها الدافع الرئيسي في هجرة الغزيين وليست سياسات التضييق
في هذا الخصوص، صرح سمير زقوت، نائب مدير مركز الميزان لحقوق الإنسان، بأن “الممارسات العسكرية الإسرائيلية، سواء كانت في الضفة الغربية المحتلة أم غزة أم القدس، التي تتنوع بين هدم المنازل ومصادرة الموارد الفلسطينية وهجمات المستوطنين والغارات المتكررة وحملات الاعتقال والإذلال. فضلاً عن الحصار المفروض على غزة تُجبر الفلسطينيين على الانتقال أو الهجرة”، مضيفًا “هذه حملات إسرائيلية ممنهجة لإخلاء الأرض من سكانها الأصليين – الفلسطينيين”، ومؤكدًا بالنهاية أن الهدف الأساسي من هذه الخطوة هو “تيئيس” الفلسطينيين ودفعهم إلى ترك وطنهم.
بالمحصلة، إذا أردنا وصف الوضع الداخلي في غزة بالأرقام، فلقد ذكرت منظمة الأمم المتحدة أن نحو 80% من سكان غزة يعتمدون على المساعدات الدولية، كما يحظون بـ4 ساعات فقط من الكهرباء يوميًا في المتوسط، بينما يبلغ معدل البطالة نحو 54%، وهو واحد من أعلى المعدلات في العالم كله، لا سيما أن نسبة خريجي الجامعات تصل إلى 70%.
لا شك أن هذا الوضع نتاج سياسات “إسرائيل”، ما يعني أن المشكلة الأساسية هي الاحتلال الإسرائيلي المسؤول عن سنوات مريرة من الحصار والحرب والتدمير، ولكنه يحاول الآن التلاعب بالحقائق واستغلال الأزمة الإنسانية على اعتبار أنها الدافع الرئيسي في هجرة الغزيين وليست سياسات التضييق التي تزيد الخناق على سكان القطاع، ما قد يساعدها بالتالي على تجنب الانتقادات واللوم المتعلق بالوضع الداخلي للمدينة، من خلال تقديم مزاعم تفيد بأن البؤس هو الذي دفع الغزيين لترك مدينتهم.
نهايةً، تشير هذه المعطيات، حتى وإن لم تتطبق على أرض الواقع، بأن “إسرائيل” تنظر إلى قطاع غزة على أنه تهديد، ولا سيما مع تسارع التعداد السكاني وانحسار مقومات الحياة، الأمر الذي يمكن أن يفجر الأوضاع الأمنية في المنطقة ويسبب الصداع لها بسبب المقاومة الشعبية والضغوط الدولية.