ترجمة وتحرير: نون بوست
يعد الحديث عن فلسطين وإسرائيل في فرنسا نشاطًا محفوفًا بالمخاطر، حتى في الملاذ الذي من المفترض أن تكون عليه الجامعة، باعتبارها المكان الأمثل للنقاش وتطوير المعرفة بعيدًا عن العقائد ونقل المعرفة النقدية.
وكان أحدث الضحايا حتى الآن، في 3 مارس/ آذار، هم ثلاثة طلاب تم طردهم لمدة 30 يومًا من جامعة “ساينس بو”، وهو معهد الدراسات السياسية المرموق في باريس، بعد مسيرة نظمت في فبراير/ شباط بدعوة من النقابات الطلابية للمطالبة بالاعتراف بالإبادة الجماعية في فلسطين وقطع الشراكات مع الجامعات الإسرائيلية المتواطئة.
وفي وقت سابق، استهدفت حملة عنيفة من التشهير والشتائم المعادية للإسلام على وسائل التواصل الاجتماعي ندوة نظمها طلاب من “المدرسة العليا للأساتذة”، وهي إحدى “المدارس الكبرى” الفرنسية، بعد استضافتها مؤلفي كتابين بعنوان “ضد معاداة السامية واستغلالاتها” و”اللا صهيونية: تاريخ يهودي“. وقد أدت الحملة إلى دفع المدرسة لتأجيل الجلسة التالية بشكل غير محدد.
وقبل بضعة أسابيع، تعرّض باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، الذي طالما استُهدف باتهامات بمعاداة السامية من قبل مؤيدي إسرائيل في فرنسا بسبب قراءته للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لإلغاء مؤتمره في جامعة فيلتانوز بمنطقة باريس من قبل رئيسها لأسباب “أمنية”، قبل أن يتم تأجيله إلى موعد غير معلوم بعد احتجاجات طلابية.
بدأ هذا المناخ من المكارثية على الطريقة الفرنسية يتغلغل في الجامعات الفرنسية في اليوم التالي لهجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
إدانة الباحثين ومقاضاتهم
وتعرض باحثون للوشاية لهم إلى الهيئات الإدارية من قبل زملائهم أو طلابهم بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر قوائم البريد الداخلي، بل وتمت إحالتهم إلى النيابة العامة من قبل نواب أو منظمات يهودية لمجرد وضعهم هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول في سياقه التاريخي وتذكيرهم بأن حماس تُشكّل جزءًا من المقاومة الوطنية الفلسطينية.
وتعرّض بعضهم لعقوبات جامعية، بينما يواجه آخرون ملاحقات قضائية بتهمة “تبرير الإرهاب”.
وكانت الاحتجاجات الطلابية المؤيدة للفلسطينيين، التي بلغت ذروتها في ربيع سنة 2024، موضع حملة سياسية وإعلامية مكثفة.
وندّد الطلاب بالإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، مطالبين مؤسساتهم بإعلان دعمها العلني لوقف إطلاق النار، ومراجعة شراكاتها مع الجامعات الإسرائيلية وشركات السلاح الفرنسية التي تساهم أنشطتها في الإبادة الجماعية أو احتلال الأراضي الفلسطينية.
وتماشيًا مع سياستها الداعمة لإسرائيل، والتي تساوي بين دعم القضية الفلسطينية ودعم حماس ومعاداة السامية، أرسلت الحكومة الشرطة لتفريق المتظاهرين، الذين وصفتهم وسائل الإعلام بـ”البلطجية الانقلابيين” أو أنصار “القوة الناعمة الإسلامية”.
وخلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ في 10 أبريل/ نيسان من السنة الماضية، اتهم برونو روتايو، الذي كان حينها رئيس لجنة الثقافة والتعليم والاتصال والرياضة في المجلس الأعلى للبرلمان (وشغل منصب وزير الداخلية منذ سبتمبر/ أيلول الماضي)، رئيس منظمة “جامعات فرنسا”، التي تضم مديري المؤسسات الأكاديمية، بإنكار “تصاعد معاداة السامية في التعليم العالي”، حيث يتم مساواة دعم الفلسطينيين بها.
ومع بداية الصيف، اتخذت نحو اثنتي عشرة جامعة أخيرًا موقفًا رسميًا أعربت فيه عن أسفها للدمار وسقوط الضحايا المدنيين في غزة، ودعت إلى وقف إطلاق النار، في وقت أصبح فيه هذا المطلب شبه محل إجماع. ومع ذلك، تجنبت استخدام مصطلحات مثيرة للجدل مثل “الإبادة الجماعية” أو حتى “جرائم الحرب الإسرائيلية”.
وفي رأي صادر بتاريخ 14 يونيو/ حزيران، استبعدت الهيئة الأخلاقية التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي إمكانية مراجعة الشراكات مع الجامعات الإسرائيلية أو شركات السلاح.
وفي هذا الشتاء، حاول طلاب مؤسستين أكاديميتين فقط، وسط عزلة متزايدة، الاستمرار في الحشد بشأن قضية الشراكات؛ ففي جامعة تولبياك (مركز بيير منديس فرانس) في باريس، ومعهد الدراسات السياسية في ستراسبورغ.
ثقل قيادي
لقد أدى الجهاز السياسي والإداري والقضائي والإعلامي الثقيل، الذي جرى توظيفه لتهميش صوت الباحثين والطلاب بشأن فلسطين، دورًا في النهاية إلى استعادة “النظام”، الذي يُقدَّم في عبارات مطمئنة مثل “الحوار السلمي” أو “التوازن”.
حتى “العلمانية”، التي تشير تاريخيًا إلى فصل الدين عن الدولة لكنها أصبحت ركيزة لـ”الدين العلماني” تمارسه الدولة في فرنسا، باتت تُستدعى لمنع أي تعبير أكاديمي عن القضايا السياسية. وقد اقترح لويس فاسي، المدير الجديد لجامعة “سيانس بو” المرموقة والمقرّب من الرئيس إيمانويل ماكرون، سياسة “التحفظ المؤسسي“، والتي تقتضي ألا تُعبّر المؤسسة عن أي رأي بشأن النزاعات الجارية.
وقال فنسنت جيسر، مدير معهد الأبحاث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي في مرسيليا، لموقع “ميدل إيست آي”: “أي فعالية تتعلق بفلسطين تؤدي فورًا إلى إخضاعها لعملية تدقيق”.
وتابع قائلًا: “يتم تقديم قائمة الضيوف والبرنامج إلى السلطات الإدارية. ويُحدد الحضور بـ 70 شخصًا، والتسجيل المسبق إلزامي، كما تُفحص البطاقات الطلابية، بينما تُمنع المؤتمرات التي تجمع بين الأكاديميين والنشطاء. وانتهى عهد الجامعة كفضاء لحرية الخطاب العام.”
ويشاطر مخاوفه مع جيروم هورتو، عالم السياسة والمحاضر في جامعة باريس دوفين، الذي يقوم بتنسيق كتاب حول التحديات التي تواجه الحريات الأكاديمية في أوروبا الشرقية.
وقال لـ”ميدل إيست آي”: “في الواقع، السلاح الأكثر فاعلية هو الرقابة الذاتية. فبعض الأسئلة – مثل حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها أو طبيعة حماس – أصبحت ببساطة غير قابلة للطرح”.
وأضاف: “كنت أعتقد أن الجامعة هي المكان الذي يمكنك فيه طرح جميع الأسئلة دون خوف من الحكم المسبق. لكن الجامعة الفرنسية لم ترقَ إلى مستوى مهمتها. أشعر بصدمة عميقة لرؤية أن الرواية الإسرائيلية، التي تصور الصراع على أنه مواجهة بين الحضارة التي تمثلها إسرائيل والهمجية التي يمثلها الفلسطينيون، والتي تهيمن بالفعل على الخطاب الإعلامي، قد وجدت هذا العدد الكبير من المروجين لها داخل الأوساط الأكاديمية”.
وبعد الاحتجاجات الطلابية في ربيع 2024، أسفرت بعثة برلمانية حول معاداة السامية في التعليم العالي عن مشروع قانون يُلزم المدرسين بالخضوع لتدريب حول معاداة السامية. ونظرًا للجدل الدائر حول تعريف هذا المصطلح، فإن هذه الخطوة، التي يجري حاليًا فحصها في البرلمان، قد تؤدي إلى مزيد من التضييق على الخطاب الأكاديمي.
فكر الدولة
أدى تضامن الأوساط الأكاديمية مع غزة إلى تسريع وتيرة الهيمنة السياسية على الجامعة.
وقال جيسر: “بات قادة الجامعات يخضعون بشكل متزايد لأوامر السلطة التنفيذية. نحن نشهد بالأساس ظاهرة تتمثل في تحويل البحث الأكاديمي إلى مسألة أمنية”. ويعنيذلك اختزال القضايا السياسية والاجتماعية في بُعد أمني، مما يؤدي إلى تزايد نفوذ الأجهزة الأمنية والاستخباراتية أو الجهات المعنية بالدفاع في عمليات صنع القرار.
وأصبح أي خطاب أكاديمي يُنظر إليه الآن باعتباره مسألة تتعلق بالنظام العام. ويبدو هذا الاتجاه واضحًا بشكل خاص في كل ما يتعلق بالعالم العربي أو الإسلام أو الإرهاب.
وقال جيسر: “بمجرد أن يتبنى الباحثون مقاربة شاملة لموضوع دراستهم، سواء كان يتعلق بالمسلمين أو حماس أو الجهاديين… يُنظر إليهم على أنهم متواطئون، ويُتهمون بالمشاركة في تبرير الإرهاب. ويُعتبر أن الخطاب، حتى لو كان خطابًا أكاديميًا، يمكن أن يكون قاتلًا.”
وأصبح هذا التبسيط الفكري بمثابة “فكر الدولة”. فبعد اغتيال المدرّس صامويل باتي في أكتوبر/ تشرين الأول 2020 على يد شاب شيشاني متطرف، أدان وزير التربية جان ميشيل بلانكير ما أسماه “التواطؤ الفكري مع الإرهاب”.
وقبل ذلك بعدة أشهر، في يونيو/ حزيران 2020، اتهم ماكرون المعادل الفكري الفرنسي لما يُعرف في العالم الناطق بالإنجليزية بـ”نظرية العرق النقدية” بأنها “قسّمت الجمهورية إلى شطرين”.
وقال ماكرون: “لقد ارتكب العالم الأكاديمي خطأً. فقد شجّع على تأطير المسألة الاجتماعية ضمن أبعاد عرقية، معتقدًا أنه يمكنه الاستفادة من ذلك.”
وفي فبراير/ شباط 2021، أعلنت وزيرة التعليم العالي فريديريك فيدال عن نيتها تكليف المركز الوطني للبحث العلمي بإجراء تحقيق حول “الإسلاموية اليسارية”. إلا أن المركز رفض على الفور هذه المهمة، نافيًا أي قيمة علمية لها.
ولكن في الوقت نفسه، أنشأت مجموعة من الأكاديميين مرصدًا لمناهضة الفكر الاستعماري لمراقبة تأثير هذه المدرسة الفكرية في الأبحاث العلمية. وقد تولى بيير إدوار ستيرين، راعي الصحافة اليمينية المتطرفة، مؤخرًا رئاسة هذه الهيئة.
ومن خلال تقديم قراءة للقضية الفلسطينية وإسرائيل لا تنطلق من منظور يركز المرصد على المحرقة ومعاداة السامية، بل ضمن الإطار الأوسع لتاريخ العلاقات بين القوى الغربية والشرق الأوسط، وكذلك علاقات الهيمنة الاجتماعية، ومن خلال توظيف مفاهيم مثل “الاستعمار الاستيطاني” و”الفصل العنصري”، زعزع التفكير النقدي الروايات السائدة، مما أثار رفضًا عنيفًا امتد من أعلى مستويات الدولة إلى وسائل الإعلام الرئيسية، وصولًا إلى الأوساط الأكاديمية.
ووفقًا لهذا التفكير المهيمن، أصبحت “اليقظة” تُساوى الآن بـ”معاداة السامية” و”الإسلاموية” – وهو مصطلح منفّر في الخطاب العام الفرنسي، يشمل طيفًا واسعًا من مظاهر التدين الإسلامي والتعبيرات السياسية المرتبطة بالإسلام، من أكثرها اعتدالًا إلى أكثرها تطرفًا.
تشويه المعرفة النقدية
غير أن أبعد من القضية الفلسطينية، فإن “مناهضة الدولة للفكر تدور حول احتواء تأثير المعرفة النقدية على المجتمع، أي ذلك العمل الذي يشكك في النظام العالمي بدلًا من الامتثال له”، كما يعبّر عن ذلك عالم الاجتماع إيريك فاسان.
لقد جرى توظيف صدمة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول وتهمة معاداة السامية كأداة إضافية لتهميش الأوساط الأكاديمية وإقصاء الخطاب العلمي عندما يتعارض مع توجهات القيادة.
وقال جيسر: “لم يعد المطلوب من الأكاديميين تقديم منظور مستقل ونقدي… بل تريد الحكومة علمًا ‘محايدًا’ يضفي الشرعية على توجهاتها”.
وقد أعرب مرصد الانتهاكات ضد الحريات الأكاديمية، وهو منظمة غير حكومية فرنسية، عن مخاوف مماثلة. زوقال: “بالفهم السائد، تكمن مصداقية العلم في ‘حياده’ (أي غياب القيم والمواقف) بدلاً من ارتكازه على مناهجه الخاصة في التحقق من المعرفة”.
ونحن نشهد حاليًا في الولايات المتحدة كيف أن اللجوء إلى “الفهم السائد” يؤجج ثورة محافظة تقوّض الحرية الأكاديمية والتفكير النقدي، وكذلك العدالة الاجتماعية والديمقراطية بشكل عام.
ويُمهّد إخضاع الجامعات الفرنسية خلال التظاهرات المؤيدة لفلسطين الطريق لممارسة قمع مماثل في حال وصول أغلبية سياسية من اليمين المتطرف إلى السلطة.
ويُظهر هذا أن الحرية الأكاديمية تعد مؤشرًا موثوقًا على حالة الديمقراطية، كما يؤكد أيضًا أن العدالة للفلسطينيين والعدالة العالمية مترابطتان بشكل وثيق ولا يمكن فصلهما.
المصدر: ميدل إيست آي