بينما كانت مصر تستعد لأول انتخابات رئاسية مدنية بعد ثورة 25 يناير 2011، ذهب أحمد لتغطية إحدى المشروعات الصحفية الوليدة التي أقامتها الفنانة “نيني عياش” في منطقة أرض اللواء الشعبية بمحافظة الجيزة، المشروع جاء تحت عنوان “أرت اللواء.. مساحة فن”.
المشروع كان عبارة عن ورشة عمل لتصميم دمية عملاقة تحرك بالعصي لمرشح رئاسي منتخب، حمل فيما بعد اسم “باكبوزا”، وكان عبارة عن جزئين، الفكرة هنا لفتت نظر الشاب الطموح بينما كان يسعى لالتقاط بعض الصور لنشرها مع التقرير الذي يعده عن المشروع للجريدة التي يعمل بها.
فمثل هذه الأنشطة تمثّل فرصة تواصل مع أبناء المناطق الواقعة على الهامش في مصر والاقتراب منهم والاستماع إليهم. أنشطة كهذه تضع الناشئة على أول الطريق للتعبير عما يجول بخاطرهم ويؤرق حياتهم البسيطة، في زمن احتكر فيه أهل المدن الأضواء بينما ظل من يعيش على تخوم المحافظات والمدن ضحية للنسيان.
بينما كان أحمد يعد تقريره داعبت خياله بعض الأفكار التي خرجت من رحم هذا المشروع الذي فجر بداخله ينابيع الإبداع والخروج عن المألوف.. قال لنفسه: ماذا لو أعددنا ورشة عمل عن الصحافة المجتمعية لمجموعة من الصغار يتعلمون فيها كيفية التعبير عن أحلامهم ومشاكلهم وينقلون واقعهم المهمش بأفراحه وأتراحه؟ وكان هذا السؤال هو الطلقة الأولى لميلاد مشروع “الباشكاتب”.
ميلاد التجربة
خرج الصحفي الشاب، من ورشة “أرت اللواء.. مساحة فن” عاقدًا العزم على تدشين فكرته التي راودت عقله، وبالفعل بدأ يفكر في تقديم مشروع مشابه في الهدف، وإن كان مختلفًا في الشكل والمضمون، وبالفعل تمخضت جلسات العصف الذهني له عن “ورشة عمل لمجموعة من الصغار الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عامًا من أبناء المنطقة تستمر لنحو 3 أشهر ينتج عنها إصدار عدد أو اثنين من جريدة صغيرة على أن يكون المحتوى صحافة مجتمعية، لا مضمون موجّه من صغار إلى صغار”، هكذا قال أحمد الهواري في حديثه لـ”نون بوست”.
وأضاف: تقدمنا بأوراق الفكرة إلى برنامج أطلقه المجلس الثقافي البريطاني في القاهرة باسم “منح الفنانين الأفراد” في نفس العام (2012) وتمت الموافقة عليها”. وتابع: “بدأنا في تنفيذ المشروع الذي حمل وقتها اسم “ورشة الجورنال”، وكان نجاح هذه التجربة هو المحرك وراء التفكير في تكرارها مرات أخرى، ومن هنا جاءت فكرة “باشكاتب” التي نفذ أول مشروع باسمها في منطقة دار السلام في القاهرة نوفمبر 2013″.
لم يضع المشروع الربح نصب عينيه، مثل عادة معظم المبادرات من هذه الشاكلة، إذ هدف منذ الوهلة الأولى إلى تحقيق التغيير في مجالين اثنين: الصحافة المجتمعية والفئة العمرية الفريدة التي يعمل معها، حيث سعى إلى إثراء المعرفة بمفهوم الصحافة المجتمعية الذي ربما كان حديث عهد بالوسط المصري في هذا التوقيت بشكله الكامل.
كان تسليط الضوء على هذه المناطق أمرًا في غاية الأهمية، فليس من المقبول أن تحتكر المدن الاهتمام الرسمي والإعلامي في الوقت الذي يقبع فيه الملايين من أبناء القرى والنجوع المتطرفة في حدود البلاد وضواحيها خارج دائرة الأضواء
فنتيجة لتركز الصحف في العواصم والمدن الكبرى بات الإعلام المحلي بمناطق الهامش، الرسمي منه والخاص، يعتمد على الوكالات العالمية والصحف الكبرى التي لها مراسلين في مناطق نائية، ربما ليسوا على دراية كاملة بسمات هذه المناطق، وهو ما يؤدي لأن تشوب موادهم الصحفية الكثر من الأخطاء والمعلومات المضللة أو إظهار المجتمع المحلي بعين الغريب الذي يروي رواية منطقة وأناس لا يعرفها. ومن هنا كان لا بد من تدريب شباب من أبناء تلك الأماكن البعيدة على العمل الصحفي ليصبحوا مراسلين أكفاء لما يدور في بلدانهم، فهم أكثر أمانة لما ينقلون من غيرهم والأحق بحكاية قصصهم.
ومن جانب آخر كان تسليط الضوء على هذه المناطق أمرًا في غاية الأهمية، فليس من المقبول أن تحتكر المدن الاهتمام الرسمي والإعلامي في الوقت الذي يقبع فيه الملايين من أبناء القرى والنجوع المتطرفة في حدود البلاد وضواحيها خارج دائرة الأضواء، خاصة أنهم يمثلون الشريحة الأكبر من أبناء هذا المجتمع.
أما على مستوى الفئة العمرية المستهدفة، فالمشاركون في ورش باشكاتب هم شباب من الذكور والإناث تتراوح أعمارهم بين 12 و 18 عامًا، أي في المرحلة الإعدادية والثانوية من المدرسة. وعن اختيار هذه الفئة بالتحديد، يوضح الهواري: “هذا النطاق العمري يتماشى مع رغبتنا في مساعدة الشباب على إدراك إمكاناتهم الكاملة” كما تُعرِّف باشكاتب الشبابَ على مجالات مختلفة من العمل وتفتح أمامهم الاحتمالات المستقبلية قبل سن السابعة عشر الحاسم، الذي سينتهون فيه من المرحلة الثانوية من دراستهم ويلتحقون بالجامعة.
لقطات من ورشة القصة القصيرة التي تستهدف تدريب نشء بني خلاد من الفئة العمرية ما بين 12 و 18 سنة. فخورين بكل النتايج اللي بنوصلها!
انتظروا المزيد!
هذا المشروع بالشراكة مع جمعية التنمية والإعلام البديل pic.twitter.com/UceDNQjPrR— Bashkatib News (@BashkatibNews) October 23, 2019
تفاعل جيد
الطريق لم يكن بالطبع مفروشًا بالزهور كما يتوقع البعض، فمع كل مشروع جديد من الطبيعي أن تكون هناك تحديات، ناهيك عن مشروع كهذا، يعتمد في المقام الأول على عقلية النشء ويلعب في منطقة ربما تكون بعيدة نسبيًا عن دوائر اهتمام الكثيرين وهي “ريادة الأعمال الاجتماعية”.
وعليه وجد الهواري، مؤسس المشروع وصاحب فكرته، أن عليه الغوص في أسبار هذا المجال الجديد، فبادر بتعلم كيفية إدارة هذه الأعمال، وأساليب الحصول على الموارد المالية اللازمة لعملها، بجانب كيفية تنفيذ الأعمال نفسها حتى تأتي بأفضل نتائج وتحدث التأثير المرجو منها.
الاهتمام بالنشء ودعم قدراتهم الإبداعية وتنمية مهاراتهم، أيًا كانت مجالاتها، قيمة كبيرة تتطلب الوقوف خلفها
وبالفعل.. جاءت النتائج مثمرة، حيث استقبلت التجربة من النشء المشاركين في المشروع وأهاليهم ومجتمعاتهم المحيطة بالترحيب والتفاعل الشديد، وعلى الرغم من وجود تحديات مختلفة، إلا أنه بالوقت الوجود المستمر استطاع القائمون على المشروع تجاوز هذه العراقيل.
فالمشروع – كما يقول مؤسسه – غير قائم علي مجموعة من الورش التدريبية العابرة، وهو ما انعكس على التوسع بأنشطته في أكثر من منطقة، ومن ناحية أخرى التأثير الناتج عن المشروع بدأ في الظهور، الأمر الذي جُسّد في حزمة الجوائز التي حصل عليها، إذ فاز بجائزة “مبادرون مصر” في 2013، وفي عام 2015 حصل على جائزة الوصول إلى نهائيات جائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع والإنجاز الشبابي، وفي العام التالي حصل المشروع على زمالة “أشوكا” لرواد الأعمال الاجتماعية، وهي واحدة من أهم زمالات ريادة الأعمال الاجتماعية في العالم.
تحديات وعراقيل
لم يكد يمر عام واحد فقط على انطلاق المشروع حتى بدت آثاره تتضح على النشء المشاركين، إذ تحولوا إلى شباب فاعل في مجتمعاتهم، وزادت قدراتهم على التفكير النقدي، وأصبحوا أكثر رغبة في التأكد من المعلومات التي يقرأونها في كل مكان، وأكثر قدرة على إدارة الوقت وتحصيل المعارف، الكثير منهم تحسنت علاماته الدراسية، وتحسنت علاقاتهم بأسرهم في بعض الحالات.
وعلى الجانب المعاكس، لاقت المشكلات التي نقلها المشروع عن تلك المناطق استجابة كبيرة من الإدارات المحلية والأجهزة التنفيذية. فعلي سبيل المثال تحسنت مشكلة تراكم القمامة بأحجام كبيرة في منقطة دار السلام بالقاهرة بعد أن استمر النشء في الكتابة عن تلك المشكلة لمدة زمنية طويلة وبإصرار.
ومع استمرار الضغط وتعزيز التناول الإعلامي بالصور والمعلومات وشكاوى الأهالي بدأت إدارة الحي في إرسال المزيد من عربات جمع القمامة بانتظام، فقلت أكوام القمامة الكبيرة في الشوارع، وتحسن المناخ العام بصورة ملحوظة، وهو ما عزز ثقة الشباب في أنفسهم وقدرتهم على التأثير في محيطهم.
جولة واحدة داخل الموقع الإلكتروني للمشروع كفيلة أن تنقلك إلى آفاق أخرى، فالسن الصغيرة للمحررين وكتاباتهم العذرية، وطريقة معالجتهم لمشكلات مناطقهم، وثراء خريطتهم، الجغرافية والصحفية، بوابة كبرى للدخول إلى عالم آخر، عالم مختلف عن هذا المسلط عليه الأضواء ليل نهار، وهذا ما تسعى إليه المبادرة.
ورغم التجاهل الإعلامي لمثل هذه المبادرات، فإن باشكاتب استطاع أن يفرض نفسه بقوة بعدما بات علامة فارقة في قائمة المؤثرين في مجال الريادة المجتمعية، غير أن مشروع كهذا لا يمكن له أن يستمر دون موارد مالية منتظمة، ولعل ندرة هذه الموارد السبب الرئيسي في تأرجح الأنشطة خلال الفترة الماضية، ودون استدامة هذا العنصر فإن استمراره ربما يكون على المحك.
صحافة المهمشين
“خلق جيل من الصحفيين المحترفين في المناطق المهمشة هو دور باشكاتب” بحسب قول الهواري، ومن ثم تعتبر المبادرة تجربة مميزة في هذا الشأن، بحسب ما ذهبت تقى محمود، الصحفية بجريدة البيان المصرية، التي أشارت إلى أن المستجدات التكنولوجية الأخيرة فرضت على الجميع المساهمة في خلق هذا الجيل.
وأضافت محمود لـ”نون بوست” أن فكرة صحافة المواطن والصحافة المجتمعية بصفة عامة ترسخت أكثر في المجتمع المصري مع ثورة يناير، فمقاطع الفيديو التي التقطت لخالد سعيد الذي أطلق شرارة الثورة المصرية إثر مقتله على يد جنود بالشرطة، وغيرها التي التقطها أناس عاديون من مستخدمي الانترنت، ساهمت في عرض وتوثيق العديد من الأحداث التي شهدتها مصر.
نحدثكم من #بورسعيد#مصر #باشكاتب #البورسعيدية pic.twitter.com/8xdhyRLzo5
— Bashkatib News (@BashkatibNews) October 22, 2019
ومن ثم وفي ظل تجاوز الأحداث النطاق الجغرافي التقليدي في العاصمة وأجوارها، بات من الأهمية بمكان تدريب أجيال من النشء في المناطق النائية والمتطرفة على العمل الصحفي، بحيث يكونون المرآة العاكسة لهموم أهليهم وذويهم وصوتهم العالي القادر على الوصول إلى مسامع المسؤولين هنا وهناك.
وأوضحت الصحفية المصرية أن تجربة “باشكاتب” بحاجة إلى دراسة وتعميم، مناشدة نقابة الصحفيين المصرية بتبني هذه الفكرة ودعمها، تحقيقًا لذات الهدف المعلن، وهو خلق جيل من الصحفيين في المناطق المهمشة، كاشفة أن هذه المهمة حال نجاحها ستنقل الإعلام المصري إلى آفاق جديدة، هذا بجانب ما يمكن أن تحدثه من تغييرات جوهرية في حياة أهالي تلك المناطق حين يسلط الضوء على مشاكلهم وهمومهم.
#قلم_المنصورة | في #يوم_المرأة_الريفية.. #قصص و #حكايات لـ #سيدات بـ100 راجل#مصر #المنصورة #باشكاتب
https://t.co/UVKQTvB5l3— Bashkatib News (@BashkatibNews) October 22, 2019
تجربة تستحق الدعم
“هي تجربة فريدة من نوعها في مصر وبالفعل تستحق كل الدعم، منا كصحفيين أو من مؤسسات الدولة الرسمية وكياناتها المهتمة بالريادة المجتمعية”، هكذا علق السيد مقلد عضو نقابة الصحفيين المصرية على مشروع “باشكاتب”، مضيفًا أنه رغم تواضع إمكاناته، يقدم خدمة مجتمعية الجميع بحاجة إليها هذه الأيام.
مقلد لـ”نون بوست” أشار إلى أن الاهتمام بالنشء ودعم قدراتهم الإبداعية وتنمية مهاراتهم، أيًا كانت مجالاتها، قيمة كبيرة تتطلب الوقوف خلفها، فما بالنا بتجربة كهذه قادرة أن تضع المناطق المهمشة في بلادنا على خريطة الاهتمام والوعي والتركيز، لافتًا إلى أن تكرارها وتعميمها في مختلف المجالات ضرورة قومية.
لقطات من ورشة الإخراج الصحفي التي تستهدف تدريب نشء بني خلاد من الفئة العمرية ما بين 12 و 18 سنة. فخورين بكل النتايج اللي بنوصلها!
انتظروا المزيد!
هذا المشروع بالشراكة مع جمعية التنمية والإعلام البديلhttps://t.co/rr1RQlsLht pic.twitter.com/Mgw9uI5C6q— Bashkatib News (@BashkatibNews) October 21, 2019
وطالب الصحفي المصري المؤسسات القومية والخاصة المهتمة بالقضايا المجتمعية والإعلامية بتبني هذا المشروع وتدعيمه بهدف توسعته ليشمل العديد من المناطق النائية لا سيما في الصعيد وريف مصر، فهذه الأماكن رغم ما تمثله من أهمية محورية في دعم قاطرة التنمية فإنها بعيدة تمامًا عن ميكروسكوب الاهتمام الرسمي والأهلي على حد سواء.
وهكذا نجحت تجربة “باشكاتب” في فرض حضورها الإعلامي والمجتمعي بعدما استطاعت إحداث التأثير المتوقع عبر أدوات بسيطة وإمكانات محدودة، وهو ما يتطلب دعمها بشتى السبل وتوسعة رقعتها لتحقيق المزيد من النجاحات قبل أن تصبح – كغيرها من التجارب السابقة – مجرد ذكرى لا تأتي إلا على ألسنة النشء الذي نهل منها وفقط.