يواصل الطيران الحربي الأمريكي، غاراته العنيفة على بعض المدن والمواقع اليمنية، منذ مساء السبت 15 آذار/مارس حتى الساعات الأولى من صباح الأحد، ما أسفر عن تدمير مبانٍ سكنية وانقطاع التيار الكهربائي، وسقوط 31 قتيلاً و101 جريح معظمهم أطفال ونساء حسبما أعلنت وسائل إعلام تابعة لجماعة الحوثي.
وتأتي تلك الهجمات بعد إعلان الحوثيين استئنافهم استهداف السفن الإسرائيلية في الممرات البحرية بالمنطقة، ردًا على غلق الكيان الإسرائيلي المعابر أمام قطاع غزة ومنع دخول المساعدات للغزيين المحاصرين، وردًا كذلك على إعادة إدارة الرئيس دونالد ترامب تصنيفهم “جماعة إرهابية” بعدما أزالتهم إدارة الرئيس السابق جو بايدن من قوائم الإرهاب.
وانطلقت الغارات التي استهدفت المواقع اليمنية من بوارج حربية أميركية في البحر الأحمر، حسبما نشرت القيادة الوسطى، بأمر من الرئيس ترامب، استهدفت صنعاء ثم توسّعت لتشمل صعدة وذمار ومأرب وتعز.
فيما قال مسؤولون أميركيون إن الهجمات قد تستمر أسابيع بهدف وقف تهديد الملاحة البحرية في المنطقة، وأن الأمر مرهونا برد فعل الحوثيين ومدى تراجعهم عن التصعيد، وفي المقابل أشارت تقارير إلى تقديم السعودية دعمًا لوجستيًا للطائرات الأمريكية المشاركة في العملية كالتزود بالوقود، وهو ما نفته المملكة.
عاجل | ترمب: أصدرت أوامر للجيش الأمريكي اليوم بشن عملية عسكرية حاسمة وقوية ضد الإرهابيين #الحوثيين في #اليمن
— الجزيرة – عاجل (@AJABreaking) March 15, 2025
وأرجع البيت الأبيض تلك الغارات – في تبريره لها- إلى ما أحدثته هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، زاعما أنها تسببت في تحويل مسار نحو 60% من السفن إلى أفريقيا بدلا من عبور البحر الأحمر، مضيفا أنهم هاجموا السفن الحربية الأميركية 174 مرة والسفن التجارية 145 مرة منذ عام 2023، فيما طالب وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بضرورة وسرعة توقف الهجمات على السفن الأميركية والشحن العالمي، مضيفا أن بلاده ستواصل حماية حرية الملاحة
في المقابل، اعتبر الحوثيون تلك الهجمات عدوانا على بلد مستقل ذي سيادة، لافتين أن العمليات العسكرية الأميركية في البحر الأحمر هي التي تهدد الملاحة الدولية، متوعدين بأنّ “العدوان لن يمر دون رد”، وأنّ قواتهم على أتم الجاهزية لمواجهة التصعيد بالتصعيد.
فيما وصف المكتب السياسي لجماعة أنصار الله الحوثي، في بيان، استهدف المباني السكنية في صنعاء، بأنه “عدوان غادر وآثم، وأن استهداف المدنيين والأعيان المدنية جريمة حرب مكتملة الأركان”.
مصدر سعودي لـ #الحدث: مزاعم عمليات التزود بالوقود بأجواء المملكة لعملية #اليمن العسكرية مضللة#السعودية pic.twitter.com/vTgheVvYsQ
— ا لـحـدث (@AlHadath) March 16, 2025
ضربة استثنائية
يمكن وصف الغارات الحالية على مواقع يمنية بأنها استثنائية من حيث التوقيت والأهداف، فهي الأولى التي تشنّها الإدارة الأميركية الجديدة منذ وصول ترامب إلى سدة الحكم في ولايته الثانية في كانون الثاني/ يناير الماضي، فضلا عن اتساع رقعتها، فلم تقتصر فقط على بعض الأهداف العسكرية في صنعاء كما كان يحدث في السابق، إذ شملت كذلك صعدة وذمار ومأرب وتعز
الغارات استهدفت مواقع عسكرية ومدنية جديدة، فضلا عن استهدافها لقادة في الجماعة – ليست هناك أنباء مؤكدة بعد عن سقوط أيًا منهم- في تطور لافت في مسار العمليات الأمريكية المباشرة تجاه الحوثيين في اليمن، وهو ما يعكس رغبة الولايات المتحدة في إحكام السيطرة على الممرات المائية في تلك المنطقة، والعودة بقوة للمشهد الشرق أوسطي عبر الساحة اليمنية.
ومن المتوقع ألا تقف الهجمات على اليمن على تلك الغارات وفقط، فبحسب ما نقلته وسائل إعلام أمريكية فإن هذه الضربات قد تكون بداية لسلسلة من العمليات العسكرية قد تستمر أياما وأسابيع، بما يشي بنهج جديد أكثر عدوانية من المرجح أن تتبعه إدارة ترامب تجاه الحوثيين، وفق ما نقلت وكالة “رويترز” عن مسؤولين أمريكيين.
المؤشرات تذهب باتجاه ترتيبات جديدة يجري الإعداد لها في المنطقة، لكن الأمر سيتوقف نسبيًا على رد فعل الحوثيين، ومدى تفهمهم للرسالة الأمريكية، وفق ما نقلت شبكة “إيه بي سي” عن مصدر مطلع قوله إن العمليات قد تشتد ويتسع نطاقها وفق التطورات، لافتا أن الغارات نفذتها الولايات المتحدة بمفردها، فيما قال مسؤول دفاعي أميركي لشبكة “سي إن إن” إن أي إجراء إضافي بعد هجمات السبت سيعتمد على تقييم الأضرار الناجمة عن الضربات.
ماذا عن العملية البرية؟
دفعت تصريحات المصادر المطلعة التي تميل إلى إطالة أمد تلك العمليات إلى الحديث عن احتمالية القيام بعملية برية في الداخل اليمني، تستهدف وبشكل مباشر المواقع العسكرية وتمركزات الحوثيين التي في أغلبها تكون في المناطق الجبلية الوعرة التي لا تصل إليها الغارات الجوية والتي تحتاج إلى عملية عسكرية على الأرض.
وتتباين الآراء حول قدرة الأمريكان على القيام بتلك العملية، بين من يستبعدها بالكلية، ومن يرهنها بالتطورات وردود الفعل العملية للحوثيين، فالفريق الأول يميل إلى تجنب إدارة ترامب الولوج في فخ المواجهة العسكرية المباشرة لما قد يترتب عليها من تداعيات تضر بمصالح الولايات المتحدة في الشرق الاوسط وتنذر بانفجار للوضع بما لا يتناسب مع توجهات الإدارة الجديدة.
أنصار هذا الفريق يذهبون إلى أن أقصى ما يمكن للأمريكان فعله هو التصعيد عبر الغارات والعمليات الجوية، والتي قد توسع من دائرة استهدافها لتصل إلى المواقع اللوجستية والحيوية للحوثيين مثل ميناء الحديدة الذي يمثل رئة الجماعة حاليا، واستهداف الرادارات والأنفاق، فضلا عن المواقع النفطية التي تعتبر مصدر التمويل الأبرز، بالإضافة إلى استهداف البنية التحتية واتباع سياسة الأرض المحروقة.
الرئيس الأمريكي دونالد #ترمب يتابع الضربات العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة ضد جماعة أنصار الله في #اليمن لـ "استعادة حرية الملاحة الدولية"، التي أسفرت عن مقتل 32 شخصا وإصابة أكثر من 100 آخرين في غارات استهدفت العاصمة صنعاء ومدينتي صعدة والبيضاء، حسب ما قالته وسائل إعلام… pic.twitter.com/fPsvGUqy7L
— قناة الجزيرة (@AJArabic) March 16, 2025
ويتسق هذا الرأي مع ما نقلته شبكة “سي إن إن” عن مسؤول دفاعي أميركي حين أشار إلى أن أي إجراء إضافي بعد هجمات السبت سيعتمد على تقييم الأضرار الناجمة عن الضربات، مضيفًا أنه لن يكون هناك غزو أو توغل بري في اليمن، لكن ستكون هناك سلسلة هجمات استراتيجية موجهة ومستمرة.
أما الفريق الأخر والذي يذهب باتجاه القيام بعملية برية إذا ما أصرت جماعة الحوثي على تهديد الملاحة البحرية في المنطقة، فيرى أن تنفيذ مثل تلك العملية ليس شرطا أن يكون بأيادي أمريكية ولا عناصر تابعة للجيش الأمريكي، إنما سيكون عن طريق قوات الشرعية اليمنية المدعومة من السعودية والإمارات، واللتان بدورهما ستمولان تلك العملية، في ظل تطابق المصالح والأهداف بينهما وبين الأهداف الأمريكية بشأن القضاء على الحوثي الذي يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن الخليجي.
غير أن هذا السيناريو قد يضع الخليج في مرمى النيران الإيرانية، وينسف الجهود الدبلوماسية المبذولة مؤخرًا لتقريب وجهات النظر وتخفيف حدة التوتر بين طهران والعواصم الخليجية خاصة الرياض، وهو ما لا يصب في صالح السعوديين حاليًا، ولا يخدم توجهات ولي العهد محمد بن سلمان الساعي لتصدير صورة الإصلاحي راعي السلام في المنطقة.
الحوثيون: لن تمر دون رد
في ضوء التجارب السابقة، يمكن القول إنه من الصعب رضوخ الحوثيين للضغوط الأمريكية، فمنذ دخول الجماعة على خط إسناد غزة، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 واستهداف السفن المرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر وباب المندب، والاشتباك مرارًا مع مع القوات الأميركية والبريطانية في المنطقة، تعرضت الجماعة لعشرات الغارات، أمريكية وبريطانية وإسرائيلية، لإثنائها عن موقفها وإجبارها على وقف عملياتها في البحر الأحمر، إلا أن ذلك لم يحرك ساكنًا لديها.
وتتعامل الجماعة مع مسألة دعم المقاومة في غزة على أنها مسألة وجودية بالنسبة لها، فبفضل هذا الموقف فرضت نفسها على الساحة الدولية كلاعب مؤثر في المشهد الشرق أوسطي، بعد سنوات من التهميش والتجاهل، وباتت لها كلمتها وحضورها الذي طغى على الكثير من الأدوار الإقليمية الأخرى ذات الثقل السياسي والاقتصادي.
ومن هنا فإن فكرة التخلي عن دعم المقاومة مستبعدة إلى حد ما، مهما كان حجم الضربات التي تستهدفها، خاصة وأن ديناميكية الجماعة في تحركاتها القتالية تعتمد على المرونة والتنقل المستمر وعدم التمركز، مما يجعل استهدافها بشكل مباشر وتقليم أظافرها التسليحية عملية صعبة، لا يمكن أن تتحقق بالغارات الجوية.
وعلى هذا الأساس جاء التهديد الحوثي بأن تلك العملية لم تمر دون رد، فكما جاء في بيان المكتب السياسي للجماعة فإن قواتهم على أتم الجاهزية لمواجهة التصعيد بالتصعيد، وأن مثل تلك الغارات لن تثني الشعب اليمني عن الاستمرار في دعم فلسطين بإسناد أهل غزة ومقاومتها، مضيفًا أن “العدوان السافر على بلدنا يؤكد أن أميركا تحارب نيابة عن الكيان الصهيوني”على حد وصف البيان.
من جانبه قال رئيس الهيئة الإعلامية للحوثيين، نصر الدين عامر، إن الغارات الأميركية على اليمن “عدوان على دولة مستقلة وتشجيع لإسرائيل على حصارها الجائر لغزة”، وفق تعبيره، مضيفًا أن ما يدعيه الرئيس الأميركي من خطر يتهدد الملاحة الدولية في باب المندب تضليل للرأي العام الدولي.
وتابع “موقفنا واضح ومطلبنا بسيط وهو رفع الحصار عن غزة ولأجل ذلك فرضنا الحصار على سفن العدو الصهيوني، لو كنا نخاف أمريكا ما قررنا الوقوف مع غزة ولو كنا نخاف من تقديم التضحيات في سبيل الله ما كنا اخترنا الجهاد”.
تقليم أظافر طهران
لاشك أن أهداف الولايات المتحدة من تلك العملية تتجاوز حاجز الحوثيين بمحطات بعيدة، فالأعين تتجه في المقام الأول نحو إيران واللهث لتقليم المزيد من أظافرها وتجريدها من كافة أذرعها في الشرق الأوسط، وعزلها داخل نطاقها الجغرافي الضيق، بما يسهل من مخطط استئناسها أو تركيعها.
فبعد قطع أذرع طهران في لبنان من خلال تقزيم نفوذ حزب الله، وفي سوريا بعد سقوط نظام الأسد، فضلا عن الضربات التي تلقتها بشكل مباشر داخل أراضيها، وانتهاك سيادتها وأمنها القومي بشكل فجً، لم يعد هناك من وكلاء نشطين للجمهورية الإسلامية في المنطقة سوى جماعة الحوثي، التي تتمتع بخصوصية جيوسياسية وموقع استراتيجي منحها المزيد من أوراق الضغط والقوة مقارنة بالأذرع الأخرى.
وتعلم أمريكا جيدًا أن البقاء على تلك الجماعة على قيد الحياة السياسية والعسكرية الإقليمية مسألة مهمة بالنسبة للإيرانيين، ومن هنا كانت جسور الدعم التي لا تتوقف، وبالتالي فإن القضاء عليها، أو على الأقل إجبارها على الخروج بعيدًا عن اللعبة، يعني باختصار قطع دابر طهران بالكلية من مناطق نفوذها التقليدية، رهانا على أن الدولة التي لم تتحرك إزاء القضاء على أذرعها الأقوى في لبنان وسوريا لن تتقدم خطوة واحدة إذا ما قُطع ذارعها في اليمن.
وفي هذا السياق نجحت إدارة ترامب – عبر خطابها الدبلوماسي- في تحييد الجانب الروسي الذي كان في السابق أحد أكبر الداعمين لطهران في المنطقة، وممارسة لعبة المقايضة التي تجيدها واشنطن بشكل احترافي، وهو ما سيجبر موسكو على الاكتفاء ببيانات أو تصريحات إدانة ومطالبة بضبط النفس وحلحلة الأزمة بالحوار ودون التصعيد، وهو ما تريده الإدارة الأمريكية.
في خدمة “إسرائيل”
لا يمكن قراءة ما يحدث في اليمن بمعزل عن حزمة من التحركات الأمريكية الأخيرة التي تصب جميعها في صالح الكيان الإسرائيلي، بداية من استهداف محكمتي الجنائية والعدل الدوليتين، مرورًا بترحيل الطلاب المتعاطفين مع غزة، ومحاولة إسكات الأصوات الداعمة لحقوق الفلسطينيين، وصولا إلى طرد سفير جنوب إفريقيا من واشنطن.
وتحولت الولايات المتحدة في عهد ترامب إلى شرطي إسرائيل الأمين، الذي يدافع عنها أمام أي تهديدات أو استهدافات محتملة، خاصة بعد الأضرار التي ألحقها الحوثي بها نتيجة تهديده للملاحة البحرية ومنع السفن القادمة لموانئ الاحتلال، وهي الخطوة التي كادت أن تعزل الكيان وتفرض عليه حصارًا اقتصاديًا مدويًا، كان من المتوقع أن يكون له حضوره كورقة ضغط قوية في مواجهة حكومة نتنياهو، لولا حبل الإنقاذ الذي مده حلفاؤه العرب وإمدادهم لإسرائيل بالبضائع والسلع المطلوبة.
ومن هنا جاء التحرك الأمريكي، نيابة عن إسرائيل، حيث استهداف الحوثيين من جانب، وتوجيه رسالة إنذار وتهديد شديدة اللهجة لطهران من جانب أخر، وهو ما يخفف نسبيًا من حجم التهديدات التي تتعرض لها دولة الاحتلال، ويجرد المقاومة في غزة من أخر جبهة إسناد لها بعد خروج حزب الله عن المعادلة.
وتأمل حكومة نتنياهو أن تٌسفر تلك التحركات الأمريكية في المنطقة عن أهدافها سريعًا، حيث ممارسة المزيد من الضغط على حماس والوسطاء، لإبداء المزيد من المرونة وتقديم تنازلات إضافية، تخدم الرؤية الإسرائيلية، وتسطح القضية الفلسطينية وتجردها من زخمها المتصاعد منذ بداية الحرب.
وفي الأخير يبدو أن المنطقة تتأهب لتغيرات جذرية، تسعى من خلالها واشنطن لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، تارة من الباب اليمني، والأخر من الباب السوري، وثالث من الباب اللبناني، مستغلة حالة الانبطاح والسكون التام للقرار العربي، تغيرات من المتوقع أن تُعيد هندسة المشهد وفق الرؤية الترامبية، وبما يخدم المصالح الإسرائيلية