يظل سعود السنعوسي واحدًا من روائيي جيله اللامعين، وتظل روايته “ساق البامبو” واحدةً من عيون الأدب الروائي في منجز الألفية الثالثة للروائي العربي، تستمد أهميتها من جدية أدائها السردي، وجدة رهانها الخطابي، وقيمها الفنية التي آمنت بها.
لذا، كان لا بد من وقفة جادة مع عمله الجديد “ناقة صالحة”، التي حوت أزمات فنية عدة، ما يعيد إطلاق جرس إنذار خاص بالتساؤل عن أثر حضور الجوائز الأدبية في حكم المتلقي على العمل الجديد للكاتب، ومدى اعتبارها جواز مرور لتحصيل العمل الجديد درجة من القبول بشكل مسبق، وخاصة أن “ناقة صالحة” لاقت احتفاءً نقديًا عند صدورها مؤخرًا، رغم ما تحويه من أزمات في أدائها الفني، بما عطّل إنجاز خطابها الرؤيوي والجمالي، وهو ما استحق في ظني التوقف.
إجمالًا، تعتمد “ناقة صالحة” على قصة تراثية كويتية راوغ الكتاب في تفاصيلها بين الوقائعية والتخيل، عن مقتل الفتاة “صالحة” (التي يقوى الظن بأنها السبب في تسمية منطقة ديار صالحة بهذا الاسم) بالكويت، حيث مات (صالح) زوجها وابن عمها الذي تزوجها رغم حبها لابن خالها الشاعر دخيل بن أسمر، الذي كان مقيمًا في إمارة الكويت وقت وقوع تلك الحرب، تحت اسم مستعار محمد الشاوي، حيث اعتمد السنعوسي على خلفية تاريخية من وقوع حرب بين ابن رشيد أمير حائل وأحد دواهي الصحراء وشجعانها، ومبارك الصباح أمير الكويت بوصفه حليفًا لآل سعود في ذلك الوقت.
يمهد الكاتب بأن شخصية صالحة “في الحقيقة ما كذبت قط، ولكنها مثل العجائز إن أرادت قول الحقيقة مثَّلتها بحكاية تختلقها”
ويعد النص تعليقًا على الحكاية الحقيقية، مع إعادة إنتاجها، دون الاستغناء عن حمولات دلالية تتماس مع رؤية الكاتب لوطنه الكويت في تاريخها وحاضرها ومستقبلها، وفي سبيله لتحصيل ذلك وقعت الرواية في العديد من الإشارات المباشرة الفجة، كذلك حوى العديد من الجمل الحكمية النهائية المعلبة، التي لا يتناسب بعضها وتركيبة الشخصيات التي يريد تصدير الخطاب من خلالها، ولعل أبرزها شخصية صالحة (الغبية)!
يمهد الكاتب بأن شخصية صالحة “في الحقيقة ما كذبت قط، ولكنها مثل العجائز إن أرادت قول الحقيقة مثَّلتها بحكاية تختلقها، النعجة الغبية سكبت وعاء الحليب، فأفهم أنها من أسقطته.. عاثت الأفعى في أعشاش الحبارى، فأعرف أنها داست بيوضها عامدة أو بغير قصد”. صـ27، ويخلق لها معادلًا موضوعيًا له حكايته وهي (وضحَى) ناقتها الأثيرة، لإسقاط كل الأزمات على هذا المعادل، لكنه منذ البداية يلقن القارئ أن (وضحى) ظل لـ(صالحة)، فجاءت الحمولات التأويلية التي قام بها حضور الناقة مباشرة للغاية في إسقاطاتها على “صالحة”، غير خالية من الجمل التقريرية النهائية التي تفتقد إلى حد أدنى من الإشارية التي كان بإمكانها وحدها أن تمنح علاقة القارئ بالنص بعضًا من حيوية، فعلى سبيل المثال في رحلة صالحة الأخيرة إلى الكويت، نجد صيغ استفهامية صريحة تضرب بعرض الحائط ما دشن له العمل في مساحة سردية تصل إلى نصف العمل تقريبًا، فنقرأ مثلًا “لو أن للإبل لسانًا ناطقًا، لسألت وضحَى عن ساري، أتراها تحبه؟ أم أنها مجبورة أن تحتمل من أجل صغيرهما؟ وهل يستحق الصغير صبرها؟ ماذا لو أن صغيرها ليس من صلب ساري؟ ألم تجفل من زوجها في لقائهما الأول قبل حولين؟” صـ 84، لنتوقف ونتساءل: هل وظيفة العمل الإبداعي أن ينتج الأسئلة في قراءات لا نهائية وأن تختلف مسارات هذه الأسئلة وصياغاتها وتأويلاتها أم أن وظيفته أن يسقي المتلقي أسئلة نهائية لا تنتج أكثر من مساحتها على الورق؟
وهذه التساؤلات أدت إلى تضييع السنعوسي في ظني فرصة أن ينسج العمل هذه الحالة من التماهي بين المكشوف والمخبوء بما يمنح براحًا تخييليًا غير مقيد، لولا تأكيد سعود على غياب رهانه على القارئ، فنقرأ على سبيل المثال: “… ولكن حَسنى، الشابة الحسناء، زوجة أبي الرابعة لعبت دور الوسيط لمعرفتها مدى تعلقي بوضحَى مذ ولادتها بذاك الظرف، وأنا التي تكفلت بإرضاعها منذ لحظة ولادتها وعلى مدار أسبوع: “صالحة تشوف نفسها في وضحى”، أي أنه ينبه مرة أخرى إلى أن (وضحى) هي المعادل الموضوعي لـ(صالحة)، فانتبه أيها القارئ.
إن كانت الرواية حاولت إعادة فتح ملفات لها امتدادات حاضرة على مستوى إعادة الإنتاج، كحادثة صالحة وحروب القبائل وغير ذلك، فإن الصياغات الفنية التي اعتمدتها لتسريب خطابها جاءت معظمها مباشرة للغاية
هذا، فضلًا عن الجمل الكلاسيكية الطابع ذات المعنى المنتهي عند معنى لفظه، كإجابة دخيل عن سؤال صالح: هل نلتقي؟ فتكون إجابته “في عيون الإبل”، ليمهد ابتداءً لمشهد النهاية، وهو ما يحيلنا أيضًا إلى استقراء الجمل التقريرية في بداية كل فصل، وهي جمل تصلح لأن تكون اقتباسات ذات طابع حكمي تلقيني للقارئ أكثر منها عبارات من ضيقها تتسع معانيها، مثل العبارة التي يصدر بها فصل صالحة “قد أكذب لأخبركم الحقيقة/ هذه هي الحقيقة” تذكيرًا بالحيلة ذاتها، أو “الوصول؛ أكثر مشقة من الرحيل..” – وإن كانت علامة الترقيم (؛) هنا كانت موفقة للغاية لأنها تمنح اتساعًا لإمكانية تبادل الوصول والرحيل أماكن (السبب) و(النتيجة)، انطلاقًا من وظيفتها اللغوية الرئيسية حيث تأتي بين الدال وسببه، وكذلك بين الدال ونتيجته، والأخيرة “كان علي ألا أكون أنا”، جاءت الجمل الثلاثة كاشفة لما هو في الفصل ذاته دون أن تضيف إلى معنى الحدث، وبالتالي إلى فضاء الرؤية الذي يمنح القارئ لينتج من النص نصه الخاص به، ومنها أيضًا “وأنا في طريقي مثقلة بأحمال ذكرى الأمس، أخشى أن تغوص قدماي في طين اليوم” صـ 112، فبدلًا من أن يكون الرهان على فكرة (الرحلة) بتفاصيلها الدقيقة، وتقلبات المناخ التي تكفي دهرًا لا بضعة أيام، أصر الكاتب على تلقين القارئ الرابط بين رحلة صالحة كحالة مكثفة لقصتها، وكذلك “وحده الاغتراب يمنحك حنينًا لكل ما تكره في ديار تشتاقها”، أو “إنها الحكمة في لغة الأشياء الصامتة، كما يقول دخيل”، إلى غير ذلك من التركيبات التي تهدر القدرات التصويرية للغة في نفس تلك السياقات أو في سياقات شبيهة.
في الفصل الأخير – وهو عبارة عن صفحة واحدة بيضاء – وظّف الكاتب فكرة الفراغ النصي بشكل ممتاز، بما يفتح الفضاء التأويلي للنص، لكنه اختار أن يكون العنوان في منتصف الصفحة، تاركًا بعده صفحة بيضاء، على خلاف الفصول السابقة، لكي يضمن انتباه القارئ وبما أن المضمون هنا يتم إنتاجه عن طريق الشكل، بل الشكل فقط، فكان الأفضل أن يحافظ على النسق الشكلي، حتى يؤدي الفراغ وظيفته التأويلية كاملة.
وإن كانت الرواية حاولت إعادة فتح ملفات لها امتدادات حاضرة على مستوى إعادة الإنتاج، كحادثة صالحة وحروب القبائل وغير ذلك، فإن الصياغات الفنية التي اعتمدتها لتسريب خطابها جاءت معظمها مباشرة للغاية على خلاف غاية العمل التكثيفية بغض النظر عن إصابتها، فنقرأ: “سألت فالحًا عن موضع الإصابة في جسد شقيقه”.
“أين؟”
أشار صوبَ المشرقِ:
“الكويت”.
هززت رأسي أوضح:
“أين موضع الإصابة في جسد صالح؟”.
قطَّب حاجبيه الكثّين المغبّرين:
“لو أنكِ تسألين عن الموضع السليم في جسده!”.
“هل يعي ما حوله؟”، سألته.
كان على ظهر ذلوله لا يزال، نظر إلى البعيد يردف:
“صالح لم يكن واعيًا في يوم”. صـ 106
الحوار معني بتصدير أن موضع الجرح هو (الكويت)، وأنه مرتبط بشكل أو بآخر بقضية (الوعي)، لكنه أدى مهمته بمباشرة تنحرف بالكتابة الإبداعية عن وظيفتها التخييلية الأساسية في ظني، وهو ما يكرره السنعوسي في غير موضع، مثل “ليس لي ولا للصغير إلا الصبر على سياط الشمس، وحليب ضرع زاحمنا به الحوار، ونبوءة بشرتني بها سحابة لا تعود، أتكون الكويت سحابة تبشر بما لا يجيء، أم سراب لا يضنيه نأي أبدي؟ أم نجمة ترشدنا إلى كل الدروب إلا دربًا يؤدي إليها؟”، الرواية صـ 135، فكان يمكن له أن يكتفي بعرض أزمة صالحة وتيهها، ويترك للقارئ فضاءً يتحرك فيه بخياله، لكنه يصر على أداء يستغني عن قيمة (الإشارة) برمتها.
حناء صالحة.. الفرصة المهدرة
وبينما انصبت عناية العمل على الناقة كمعادل موضوعي، تم إهمال الحناء التي ربما منح الرهان عليها الرواية روحًا جديدة، ليتحرك المتلقي في براح نفسي جديد له تفاصيله وعلاماته التي تختلف عن تلك التي يخلفها التفاعل القائم بين (صالحة) وناقتها.
فالحناء هنا علامة تحمل مخزونًا ثقافيًا ظهرت مرات ثلاث خلال الرواية، الأولى منها في بيان لمحية صالح، وفي الإسقاط على حالة الفصام التي تعاني منها، فاليد اليمنى للذبح، بينما اليسرى لنقش الحناء، فنقرأ: “أنتِ لا تجيدين صنع شيء شيء بيدك اليمنى، نقشتها بالحناء تلك النقوش الباهرة، وتركت كفك اليسرى لفتاة أخرى تنقشها هذا النقش الرديء”، كان على صواب، أنا لا أجيد شيئًا بيدي اليمنى إلا الذبح، مذ علمني أبي مثل الأولاد ذبح الخراف صبيحة عيد الأضحى” صـ 78، وهو المقطع الذي أحالني فور قراءته إلى بطل “هدوء القتلة” لطارق إمام، الذي كان يزرع ويكتب الشعر باليد اليسرى، بينما كانت اليمنى للقتل، مع الوضع في الاعتبار اختلاف الوسائل والغايات لدى كل منهما، أي طارق وسعود.
وحضور البعد التشكيلي للحناء بوصفه مكوّن ثقافي في هذه البيئة، حمَّلها الكاتب قدرًا من الخطاب الثقافي والجمالي للعمل، لتقوم بدور مرآة كاشفة لتطوّر شخصية “صالحة” مثلًا، فنقرأ في فصل يتناول رحلتها إلى صالح “أخرجت من المزودة حفنة من طحين الحناء. رحت أعجنها بقليل من الماء، وأمضيتُ وقتي أنقش على كفي اليمنى زهورًا برية وأوراق شجر. مضى وقت طويل مذ اتخذت قراري العزوف عن نقش كفي. أخرجتُ مكحلتي وكحَّلتُ عيني. غفوتُ إلى حين تيبس نقوش الحنَّاء في كفي ويجف طين الدرب”. صـ 114، وباستقراء تتبع العلاقات هنا بين جفاف نقش (الحناء) الدال على استقراره، وجفاف (طين الدرب) يمكن أن ينتج العديد من العلاقات التي قد تضيء على ماهية أزمتها في تلك اللحة وطريقة تعاملها.
احتوت الرواية في نهايتها ملحقًا توثيقيًا، لكنه لم يخل إشارات تكمل دوائر العلامات في الرواية، وبخاصة الإشارة إلى شهادة الرحالة الإنجليزي جي.آر. إدوارد في مطلع القرن العشرين
كثفت كذلك الحناء البُعد النفسي لبعض الشخصيات وروابطها الدلالية المباشرة بصالحة، كطلب أم دحام من صالحة في إحدى المرات أن تنقش لها كفها بعد أن نقشت كفوف بنات القبيلة: “أسندت كفها المرتعش إلى ركبتي: “انقشي”، وفيما كنت أنقش لها بتلات زهور مسحت ظاهر كفها، ثم أسندتها إلى ركبتي ثانية. انفرجت شفتاها عن لثة فارغة من الأسنان، وقالت بصوت النعجة: “هذي النقشة للصغيرات الحلوات مثلك”، فتحت عينيها على اتساعها تردف: “أنا عجوز، انقشي لي الشمس”. فالديالوج السابق كان موحيًا للغاية، حتى وصل جملة (أنا عجوز، انقشي لي الشمس)، الذي نستحضره في صـ 125 “نظرت إلى الشمس فوق هامة ناقتي، وتذكرت شمس الحناء في كف أم دحام، أُنصِتُ إلى ثغائها: “ما فاد في الشمس عناد”، بما يستدعي لدى القارئ مخزوناته عن الشمس، بوصفها كائن سرمدي الطابع، شاهد على كل القصص وأصحابها، بل ويشارك في إنضاجهم، بأبعادهم المادية والمعنوية.
احتوت الرواية في نهايتها ملحقًا توثيقيًا، لكنه لم يخل إشارات تكمل دوائر العلامات في الرواية، وبخاصة الإشارة إلى شهادة الرحالة الإنجليزي جي.آر. إدوارد في مطلع القرن العشرين، التي ضمنها مقابلته هو ودليله حادي الإبل السود لفتاة تربط وليدًا إلى ظهرها، وتحمل صفات صالحة كاملة، لكنه يذكر على سبيل المثال أنها كانت تقطع الصحراء سيرًا على الأقدام، وأنها – أي الفتاة – عضت دليله من كتفه، وهو الحدث الذي يرد في الرواية بحضور “وضحى” ناقة صالحة، وقيام الناقة بفعل العض، لأنها بالطبع ظل صالحة ومعادلها الموضوعي!