مرة أخرى، يعود موضوع الأدوية المزورة إلى الواجهة في موريتانيا، موضوع يشغل الموريتانيين لخطورته على حياتهم وعلى أمن بلدهم الاجتماعي، في ظل عجز السلطات الحاكمة على القضاء عليه وتحول البلاد إلى منصة لتوزيع الأدوية المغشوشة في غرب إفريقيا.
أطنان من الأدوية المزورة
تصل السوق الموريتانية كل عام، عشرات الأطنان من الأدوية المغشوشة ويتم توزيعها داخل البلاد بطرق ووسائل مختلفة، نتيجة الفوضى وانعدام الرقابة الحكومية على هذه الأدوية ومسالك توزيعها ووصولها إلى البلاد. ووفق تقرير لـ “فرانس 24” فإن موريتانيا تحتوي على ما بين 60-100 ألف طن من الأدوية المغشوشة.
تعتمد الصيدليات في موريتانيا على التهريب والسوق السوداء لتوفير الأدوية، وتبيع “عصابات الدواء” عشرات الأطنان من الأدوية المغشوشة والمنتهية الصلاحية، وتتم عمليات غش الدواء من خلال تقليص المواد الفعالة فيه أو تصنيعها من مواد لا تأثير لها، إضافة إلى تزوير تاريخ صلاحيتها وتمديد المنتهية منها.
ومن الأدوية المغشوشة التي تغزو الأسواق الموريتانية المضادات الحيوية والأدوية المضادة للملاريا، خصوصًا تلك التي على هيئة شراب، والمضادات الحيوية مثل البارسيتامول، وبعض المراهم مثل الكورتيزون وعقاقير الفياغرا، وأدوية ضغط الدم والمحاليل الطبية ووسائل التخدير، منها أيضًا أدوية الإسهال ومخفضات الحرارة ونزلات البرد بأنواعها وأدوية الحساسية والأمراض الجلدية وأدوية الربو والقرحة المعدية.
يشكل غش الأدوية أحد أهم المشاكل التي تؤثر سلبًا على حياة الموريتانيين، وهي أيضًا وراء تراجع الثقة في الطب المحلي
من آليات التحايل مثلاً تعامل بعض السماسرة الموريتانيين مع صيدليات أجنبية، توفر لهم علب الأدوية الأصلية خاوية فيشترونها لإرسالها إلى موريتانيا، حيث توضع الأدوية المغشوشة داخل العلب الأصلية، ليعتقد من رأى العلب أن الدواء أصلي، والحقيقة أن العلب أصلية لكن بداخلها دواءً مزورًا.
كما تجري عمليات الغش عبر تقليص المواد الفعالة في الأدوية وخاصة المضادات الحيوية التي تباع بأسعار مرتفعة، وتركيب بعض الأدوية بمواد لا تأثير لها وأحيانًا بمواد مضرة، خاصة إذا تم تخزينها على المدى الطويل، بينما يُزور تاريخ صلاحية بعض الأدوية التي تستورد من الخارج خصيصًا لهذا الغرض.
أسباب عديدة
يرجع الناشط السياسي الموريتاني حسين حمود، مسؤولية انتشار هذه الأدوية في بلاده إلى “التجار الذي يحصلون على رخص في كثير من الأحيان دون استيفاء جميع الشروط الصحية والعلمية وغياب الرقابة الإدارية وتغطية بعض كبار النافذين من مسؤولين وغيرهم وتداخل المهام داخل وزارة الصحة”.
وشجع احتكار مركزية شراء الأدوية والتجهيزات والمستهلكات الطبية الموريتانية “كاميك” لاستيراد المضادات الحيوية وأدوية السكري، وعجزها في كثير من الأحيان عن توفير بعض تلك الأدوية الضرورية، “العصابات” على استيراد تلك الأدوية وتهريبها عبر نقاط غير مسموح بها.
تراجع قطاع الصحة في موريتانيا
يعود تفاقم ظاهرة تزوير الأدوية في هذه الدولة العربية إلى سنة 2004، وكان ذلك مع اعتماد قانون جديد يسمح لكل موريتاني بافتتاح صيدلية لبيع الأدوية بشرط حصوله على اعتماد من حامل شهادة في الصيدلة.
الأزمة الوحيدة التي يتفق الجميع عليها دون أي تباين سياسي
يرى الناشط السياسي الموريتاني حسين حمود، أن هذه المشكلة واحدة من أكبر مشاكل البلد نظرًا لأن حيثياتها تكاد تكون فريدة من نوعها، فهي الأزمة الوحيدة التي يتفق الجميع عليها دون أي تباين سياسي، حتى الحكومة تقر بأنها موجودة بدليل تعميمها قبل أسابيع على المساجد بالحديث عن حرمة الدواء المزور في خطب الجمعة.
ويعتقد أطباء موريتانيون أن حالات الإصابة بأمراض غامضة وارتفاع نسب انتشار مرض السرطان في السنوات الأخيرة، يرجع إلى انتشار الأدوية المغشوشة في البلاد، حتى “حالات الوفيات حدثت بشكل متكرر في مستشفيات البلاد بسبب دواء مغشوش وهي حالات موثقة ومعروفة”، وفق حسين حمود.
ويشكل غش الأدوية أحد أهم المشاكل التي تؤثر سلبًا على حياة الموريتانيين، وهي أيضًا وراء تراجع الثقة في الطب المحلي، حيث أصبح العلاج في الخارج أحد الحلول التي يلجأ إليها الموريتانيون للهروب من فخ فشل العمليات الجراحية أو حتى العلاجات الروتينية في المستشفيات المحلية.
ويخشى الكثير من الموريتانيين استعمال الأدوية التي توزع داخل البلاد سواء المحلية أم الأجنبية، خوفًا من الوقوع ضحايا للتزوير والغش، فحتى الصيدليات الكبيرة أصبحت ضحية لهذه الأدوية لعدم وجود مخابر داخل البلاد للتثبت في جودة ومدة صلاحيتها.
نتيجة ذلك، يضطر العديد من الموريتانيين، خاصة من ميسوري الحال، إلى شراء الأدوية من المملكة المغربية أو فرنسا أو تونس عن طريق أقاربهم الذين يقطنون هناك، فهي أَضمن لهم وإن كانت تكلفتها أكثر.
عادة ما تشن السلطات الموريتانية حملات لإغلاق بعض المراكز أو مصادرة الأدوية منتهية الصلاحية إلا أنها تبقى حملات ضعيفة
قبل أيام، أكد وزير الصحة نذير حامد أنه “قدم لمجلس الوزراء بيانا يتعلق بتأمين البلد بالأدوية والمستلزمات الطبية النظيفة، عبر اعتماد نظام جديد يقوم على تجميع كل الطلبات المتعلقة بالأدوية والمستلزمات الطبية ومركزتها وعرضها على مجموعة من الموردين المنتقين على أساس جودة مواردهم والخدمات التي يقدمونها”، وأكد نذير حامد “سيتم فتح صفقة مع المورد الذي سيُختار وستوحد جميع الاستيرادات في صفقة واحدة وتشكل لجنة مشتركة بين الدولة والمختصين لمناقشة جميع مقترحات الموردين الوطنيين والأجانب والاطلاع على جودة أدويتهم وعلى أسعارها”.
وأوضح الوزير الموريتاني أن المورد المختار يجب أن يكون قادرًا على ضمان الجودة وخفض الأسعار، في الوقت الذي ستكون الوكالة المركزية لشراء الأدوية والتجهيزات والمستلزمات الطبية هي نقطة توريد وتوزيع جميع الأدوية على الصيدليات وعلى جميع المراكز الصحية في عموم البلاد.
إلى جانب ذلك، دعا الاتحاد العام للعمل والصحة في موريتانيا، المعنيين العاملين في المستشفيات، إلى التأكد قبل صرف أي دواء لمريض من صلاحيته والتدقيق في تواريخه، وطالب الاتحاد في بيان له جميع المنتسبين وعموم العاملين في القطاع الصحي، إلى توخي الحذر فيما يتعلق بالتكفل بالمرضى والحالات المستعجلة، وتطبيق البرتوكولات العلاج بشكل صحيح ومهني وموثق.
وتعاني موريتانيا التي يبلغ عدد سكانها نحو 4 ملايين نسمة، ضعفًا في الإمكانات الصحية ونقصًا في المستشفيات والكوادر الطبية المتخصصة، وعجزًا عن استيعاب أعداد كبيرة من المرضى، وشيخوخة في الأجهزة المختصة بكشف المرض وتشخيصه.
المصدر الأساسي لتوزيع الأدوية المغشوشة في غرب إفريقيا
تهاون الحكومات المتعاقبة في محاسبة تجار الأدوية المغشوشة، وصعوبة إحكام الرقابة على المنافذ الحدودية في موريتانيا، جعل تلك “العصابات” تكثف تجارتها وتتجه خارج البلاد أيضًا، خاصة غرب القارة السمراء، فتحولت موريتانيا بذلك إلى مصدر أساسي لتوزيع الأدوية المغشوشة في غرب إفريقيا.
انتشار الأدوية المغشوشة في موريتانيا
عادة ما تشن السلطات الموريتانية حملات لإغلاق بعض المراكز أو مصادرة الأدوية منتهية الصلاحية، وبدأت هذه الحملة السنة الماضية وأغلقت في إطارها عشرات الصيدليات ومئات مخازن بيع الأدوية، إلا أنها تبقى حملات ضعيفة.
بقيت الوعود التي أطلقتها الحكومات المتعاقبة بوقف نشاط “عصابات” الأدوية المغشوشة ومحاسبة تجارها ومصدريها إلى غرب القارة الإفريقية، مجرد كلام فقط، نتيجة الفساد المستشري في البلاد، وتنشط هذه الشبكات بين عدة دول إفريقية، عبر طرق تهريب تربط موريتانيا بغينيا كوناكري وغينيا بيساو، كما أن بعض هذه الشبكات بدأت في استخدام الطرق التقليدية لتهريب المخدرات، التي تمر عبر الصحراء الكبرى.