وصل السوريون إلى مرحلة من اليأس وانقطاع الأمل في تغيير الوضع في سوريا، إلى درجة الخشية من اقتراب ذكرى الثورة السورية في منتصف آذار/مارس من كل عام، إذ كانت الثورة مستحيلة الحدوث، وبدت في آخر سنواتها مستحيلة النصر كذلك، الشيءَ ونقيضَه، الماءَ والنارَ، الليلَ والنهارَ.
فجأة، في لحظة فارقة من عمر السوريين جميعًا، وخلال 12 يومًا، تمكن السوريون من تجاوز المستحيلات وكسروا الجدار، جدار الصمت. وفي 14 عامًا، تمكنوا من إسقاط واحدٍ من أعتى الأنظمة الاستبدادية في التاريخ الحديث والمعاصر، لحظة أعادت كتابة التاريخ من جديد، مؤكدةً أن الشعوب تنتصر، وأن قدرها أن تنتصر وإن طال الزمن.
سقط النظام السوري، وهرب بشار الأسد فجر الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 إلى روسيا، تاركًا خلفه جيشه ومخابراته وسجونه ومعتقلاته وأخاه وكبار ضباطه ووزرائه، وحاملًا معه بعض أوراقه وعائلته الصغيرة وأمناء سره في الفساد، مرتكبًا جناية الخيانة العظمى التي بدأها بأول قرارٍ لإطلاق الرصاص على المتظاهرين عام 2011، متسببًا في قتل شعبه، مثلما غنّى الفنان السوري سميح شقير وردد معه السوريون: “وإحنا اللي قلنا اللي بيقتل شعبه… خاين. يكون من كاين”.
في هذه المطولة، سنحكي لكم شذرًا يسيرًا من أسباب استثنائية هذه الثورة وفرادتها وعظمتها وشجاعة أبنائها شهداء وجرحى ومعتقلين ومغيبين وأمهات وأطفالًا ومهجرين ولاجئين، واعتبارها من المستحيلات التي تحدث في التاريخ مرات قليلة جدًا، لما في أيامها من أحداثٍ مهولة وتضحياتٍ جسام ومفترقات طرقٍ ليس لها شبيه أو مثيل بين ثورات العالم وحروبها.
أكثر الأنظمة عنفًا في المنطقة.. وربما في العالم
لم يكن أحدٌ يتوقع أن تحدث ثورة في سوريا، فذلك أصعب من أي دولة مستبدة أخرى في العالم، بسبب طبيعة النظام الأمني البوليسي القائم، الذي يشبه إلى حدٍّ بعيد بنظام كوريا الشمالية.
ومع التجربة المريرة التي عاشتها سوريا في ثمانينيات القرن الماضي، عندما ارتكب حافظ الأسد مجزرة حماة وهدم المدينة على رؤوس ساكنيها، متسببًا في مقتل عشرات الآلاف من أبنائها، إلى جانب عشرات الآلاف من السجناء والمهجّرين المنفيين خارج البلاد، أصبح الأمر أشد صعوبةً وأقرب إلى ثورة المستحيل.
نظرًا لأن النظام السوري يمتلك واحدًا من أشرس أجهزة الاستخبارات عنفًا، مع تغوّل في السلطة على جميع المؤسسات، بما في ذلك الجيش والشرطة، وإحصاءٍ كاملٍ لأنفاس الشعب في تقارير يومية متسلسلة تصل إلى مكتب بشار الأسد في القصر، كما كانت تصل من قبله إلى أبيه، حافظ الأسد.
سجون تدمر وصيدنايا وسجون الأفرع الأمنية، وحتى السجون المدنية، مليئة بالمعتقلين السياسيين وأصحاب الرأي، إضافة إلى مجموعات من الأقارب والأصدقاء الذين يُعتقلون على الشبهة أو بناءً على التقارير الكيدية، مع غيابٍ كاملٍ لحرية الصحافة والفضاء السياسي والمجتمع المدني، باستثناء النقابات والاتحادات التي يقودها “البعث”، الحزب القائد للدولة والمجتمع.
جيش عقائدي فاسد، بناه حافظ الأسد على الولاء الطائفي، وزاد ذلك في عهد ابنه، مع فسادٍ منقطع النظير، حيث تضطر العائلات لدفع مدخراتها في جيوب الضباط للحفاظ على بعضٍ من كرامة أبنائها، فيما عُرف بـ “التفييش”.
اقتصادٌ شبه منهار؛ فالنّفط خارج الموازنة، والقوانين طاردة لاستثمار السوريين والعرب والأجانب، مع فرض نسب مالية لصالح بشار الأسد (أو زوجته مؤخرًا) أو أحد شركائه، على كل مستثمر أو تاجر أو صناعي، وإلا خسر استثماره.
العدالة الاجتماعية معدومة، والرواتب متدنية، والتضخم في تزايد، والهجرة الداخلية من الأرياف نحو المدن في ارتفاعٍ مستمر، فيما ينخر الفساد في كل مؤسسات الدولة ووزاراتها ومحافظاتها ومديرياتها ومعابرها الحدودية.
الثورة المستحيلة
في الليالي الباردة من شهر شباط/ فبراير عام 2011، كان الناس يسيرون في شوارع العاصمة دمشق، وما زالت صور بشار الأسد تعتلي الأبنية الحكومية والعامة، ورجال المخابرات يختبئون في ثياب عمال النظافة والباعة الجوالين، ويراقبون من داخل السيارات التي أطفأت أضواءها، كما يتنصتون على الهواتف الأرضية والمحمولة، ويرصدون صفحات الإنترنت القليلة المتاحة.
على هامش البلد، كان هناك شعب محروم من أبسط حقوقه السياسية، فاقدٌ لكل مقومات العدالة الاجتماعية. قناة الجزيرة، القناة الإخبارية المفضلة آنذاك، لم يُمنع بثها بعد، وكانت تنقل لحظةً بلحظة ما يجري في بلدان الثورات العربية من مظاهرات شعبية عارمة: شارع الحبيب بورقيبة في تونس، ميدان التحرير في مصر، ساحة التغيير في اليمن، ميدان بنغازي في ليبيا. عواجلُ حمراءُ مستمرة، بينما كانت مخابرات النظام تشدد قبضتها، وتراقب ما يجري بحذر، لكنها كانت على ثقةٍ مفرطة بأن شيئًا لن يحدث في سوريا، التي ألحقوا بها لقبًا فصارت “سوريا الأسد”.
كانت إرهاصات الثورة السورية قد بدأت بالفعل، وعمل الكثير من الشباب داخل سوريا وخارجها على إطلاق حملات ليوم الغضب السوري، كان أولها في 4 شباط/ فبراير عام 2011، بعد صلاة الجمعة في دمشق وحلب، إلا أنها لم تشهد أي استجابة، في يومٍ ماطرٍ شديد الغزارة.
وردًا على هذه الدعوات، تلقى بعض مشتركي الهاتف الخليوي رسائل نصية تؤيد بشار الأسد، ومنها: “الشعوب تحرق نفسها لتغيير رئيسها، ونحن نحرق العالم ليبقى قائدنا”.
في حدثٍ مفاجئ، يوم 17 شباط/ فبراير 2011، تظاهر مئات السوريين في سوق الحريقة العريق، بدمشق القديمة، وهم يرددون هتاف: “الشعب السوري ما بينذل” و”حرامية.. حرامية”، في إشارة إلى عناصر الشرطة، وذلك بعد أن تعرض الشاب عماد نسب للضرب من قِبل عناصر شرطة المرور لرفضه تحريك سيارته.
وبعد انضمام المئات إلى المظاهرة، حضر وزير الداخلية اللواء سعيد سمور، ووعد المتظاهرين بالتحقيق في الحادثة والاستجابة لمطالبهم، قائلاً لهم: “عيب، هي اسمها مظاهرة” لتنفض المظاهرة بعد ساعتين من اندلاعها، ويغادر اللواء سعيد سمور مع الشاب عماد نسب. لم تأخذ هذه المظاهرة طابع الثورة بقدر ما حركت المياه الراكدة.
مظاهرة الحريقة، التي وصفها وزير الداخلية بـ”المعيبة”، كانت دافعًا لعددٍ من الناشطين والمثقفين السوريين للتجمهر في 22 شباط/ فبراير 2011 أمام مبنى السفارة الليبية في دمشق، تضامنًا مع الشعب الليبي وتنديدًا بالعنف الدموي الذي واجه به نظام القذافي الثائرين ضد حكمه. وقد أحاطت بهم قوى حفظ النظام لإخافتهم وتفريقهم.
واقعٌ آخر كان يصنع بركانًا في سهل حوران، المليء بالحجارة السوداء جنوبي سوريا، عندما خطّ أطفال من درعا على الجدران: “إجاك الدور يا دكتور”، يوم 27 شباط/ فبراير 2011، متأثرين بالثورات العربية، الحادثة التي تسببت باعتقالهم والتحقيق معهم وتعذيبهم، فيما أهان عاطف نجيب عائلاتهم، مطالبًا إياهم بنسيانهم.
تحرك الرماد، وبدأ الجمر يزداد اشتعالًا، عندما استجاب العشرات من الشباب غير المسيسين لدعوة التظاهر في 15 آذار/ مارس، بالقرب من الجامع الأموي، وانطلاقًا إلى سوق الحميدية، منادين بالحرية والكرامة.
وفي اليوم التالي لمظاهرة الحميدية، في 16 آذار/ مارس 2011، كانت دمشق على موعدٍ آخر مع المظاهرات، حيث تجمع عشرات الناشطين والسياسيين والحقوقيين، إلى جانب عدد من ذوي سجناء الرأي، في ساحة المرجة قرب وزارة الداخلية، مطالبين بإطلاق سراح معتقلي الرأي من أقبية المخابرات وسجن صيدنايا.
وفي 18 آذار/ مارس، كان الغضب قد بلغ ذروته لدى أهل درعا بسبب اعتقال أطفالهم، فخرجوا في أكبر مظاهرة شهدتها سوريا حتى ذلك الوقت، انطلقت من جامع الحمزة والعباس، واستجابةً لدعوات التظاهر، خرجت في اليوم نفسه مظاهرات في دمشق وحمص وبانياس ودير الزور، وعندها انفجر البركان السوري، وبدأت سوريا الحرة تكتب تاريخها من تلك اللحظة.
الورود في مواجهة الرصاص
رغم القمع الشديد الذي واجه به نظام الأسد الشعب، استمرت المظاهرات السلمية لأكثر من 6 أشهر، في ظل استهداف المتظاهرين بالرصاص الحي، واعتقال ملايين السوريين، والزج بالجيش في مواجهة الشعب وحصار المدن وبدء سياسة التجويع والحرمان، ومع ذلك كانت الثورة تزداد وتيرتها، ونقاط التظاهر تنتشر في الرقعة السورية، بينما حافظ جميعها على سلمية الحراك.
بلغ الأمر ببعض المتظاهرين، مثل الشهيد غياث مطر، ابن مدينة داريا، أن وزعوا التمر والماء والورد على الجنود، ومع ذلك، كانت رصاصات الأمن والشبيحة والجيش تلاحقهم، وهم يصرخون في وجوههم: “الله أكبر… حرية!”
آلاف نقاط التظاهر
كانت الثورات العربية في الغالب ثورات مدن كبرى، يغلب عليها طابع المركز، إلا أن الثورة السورية اشتهرت بكونها ثورة الأطراف، وذلك لصعوبة التظاهر أو الاعتصام في مراكز المدن الكبرى مثل دمشق وحلب، بسبب القبضة الأمنية المشددة، وللطريقة التي واجه بها النظام المظاهرات، حيث كانت نسب الشهداء في الأطراف أعلى منها في المدن، وفق خطة النظام التي هدفت إلى تهدئة العاصمة وحلب.
كما تميزت الثورة السورية بأنها أكثر ثورة في العالم شهدت نقاط تظاهر في يوم واحد، حيث خرجت المظاهرات في المحافظات الـ14، وبمختلف مدنها وقراها وبلداتها، وكانت المظاهرات تختلف في توقيتها من منطقة إلى أخرى لإرباك قوات الأمن، فمنها ما كان “صباحيًا، نهاريًا، ومسائيًا”، بالإضافة إلى المظاهرات الطيارة، والمظاهرات من البيوت عبر التكبير والهتاف.
على سبيل المثال، وثّقت صفحة “شبكة الثورة السورية” خروج 701 مظاهرة في 565 نقطة تظاهر في مختلف أنحاء سوريا، خلال جمعة “إخلاصنا خلاصنا” بتاريخ 4 أيار/ مايو 2012.
أكبر عدد معتقلين سياسيين بالعالم
ضمت سوريا في عهد النظام سجونًا مرعبة، فوق الأرض وتحتها، وحُشر فيها ملايين السوريين بين عامي 2011 و2024، فقد اعتقل النظام كل من استطاع إلقاء القبض عليه عبر حملات أمنية استهدفت البيوت والطرقات، ومن خلال حواجز أمنية وعسكرية قطعت أوصال سوريا، فاعتقل أعدادًا لا يمكن توثيقها بالكامل.
شملت الاعتقالات التعسفية والتغييب القسري الرجال والشباب، كما طالت النساء والأطفال والشيوخ، بدون أي استدعاءات قضائية أو قرارات محاكم، ما جعل سوريا في مقدمة دول العالم من حيث عدد المعتقلين السياسيين مقارنة بعدد السكان.
وقدّرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدد المختفين قسريًا في سوريا بـ 157,634 شخصًا، معظمهم في سجون النظام السوري، خرج منهم بعد التحرير (08.12.2024) قرابة 24,200 معتقل فقط.
الثورة التي انشق الضباط لأجلها
من يعرف طبيعة الجيش في سوريا، يدرك تمامًا صعوبة الانشقاق من صفوفه، لما يحمله ذلك من مخاطر جسيمة على المنشق نفسه وعائلته وذويه، ومع ذلك زجّ النظام بالجيش في مواجهة الشعب، معتمدًا على عشرات الآلاف من الضباط المنتمين إلى الطائفة العلوية التي ينتمي إليها حافظ الأسد ونجله بشار.
غير أن الكتلة الأكبر من الجيش كانت من أبناء الطائفة المسلمة الكبرى في البلاد، وهم السواد الأعظم من الشعب، ومع تصاعد وتيرة العنف ضد المتظاهرين، بدأت الانشقاقات تتزايد في صفوف الجيش وجهاز الشرطة، وإن كانت بدرجة أقل في الأفرع الأمنية.
ومن أبرز المنشقين، مؤسس حركة الضباط الأحرار المقدم حسين الهرموش، ومؤسس الجيش السوري الحر العقيد رياض الأسعد، والرائد المظلي ماهر النعيمي، والملازم أول خلدون زين الدين، واللواء محمد فارس، والعقيد يوسف الجادر (أبو فرات)، والملازم أول عبد الرزاق طلاس، وغيرهم.
ورغم هذه الانشقاقات، لم يتوقف النظام السوري عن مضاعفة حجم العنف والقصف والاستهداف بحق السوريين، مستخدمًا جيشه وقواته الأمنية وشبيحته.
السياسيون الذين انشقوا عن الأسد
لم تقتصر الانشقاقات على القطاع العسكري والأمني، بل شملت قيادات عليا في الحكومة والوزارات ومجلس الشعب والسفارات في العديد من دول العالم، ورغم أن تأثير هؤلاء المنشقين كان ضعيفًا في بنية الدولة بعد مغادرتهم، إلا أن ذلك يؤكد على صلابة المؤسسة الأمنية التي بناها النظام لمواجهة الشعب.
ومن أبرز المنشقين السياسيين والدبلوماسيين: رئيس مجلس الوزراء رياض حجاب، وعبدو حسام الدين نائب وزير النفط، ونواف الفارس السفير السوري في العراق، وعبد اللطيف الدباغ السفير السوري في الإمارات، وآخرين من نواب في مجلس الشعب وقناصل ومبعوثين وإعلاميين.
الصمود في وجه كل أنواع السلاح
لم تُستهدف ثورة في التاريخ بكل هذه الأنواع من الأسلحة التي استخدمها النظام السوري وإيران وميليشياتها وروسيا ضد الشعب، ومع ذلك بقيت الثورة مستمرة. وشملت هذه الأسلحة:
الغاز المسيل للدموع، والرصاص، والقنابل، والسيارات المفخخة، والرشاشات الآلية والمتوسطة والثقيلة، وقذائف الهاون، والمدفعية الثقيلة، وراجمات الصواريخ، والألغام الأرضية، ومضادات الطيران، ومضادات الدبابات، وقذائف الآر بي جيه، والأسلحة الحارقة (النابالم والفوسفور)، والسلاح الكيماوي (غاز السارين والخردل والكلور)، والبراميل المتفجرة، والذخائر العنقودية، وصواريخ السكود، والطائرات الحربية المقاتلة، وغيرها.
محاولات خنق الثورة
لم تُستهدف ثورة شعبية بالسلاح الكيماوي في التاريخ إلا الثورة السورية، ولم يكن ذلك من قبل عدو خارجي، بل على يد نظام الأسد نفسه، الذي استخدم السلاح المحرّم دوليًا ضد مناطق مأهولة بالسكان، وبعضها كان محاصرًا.
كان أشد هذه الهجمات الهجوم على شرقي دمشق فيما عُرف بـ “مجزرة الغوطة”، حيث استخدم غاز الأعصاب “السارين”، متسببًا في خنق أكثر من 1400 إنسان، بينهم أطفال ونساء، وذلك في 21 آب/ أغسطس 2013.
كان النظام يمتلك إحدى أكبر ترسانات الأسلحة الكيماوية في العالم، واضطر إلى تسليم الجزء الأكبر منها إلى منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، بموجب اتفاق روسي-أميركي، إلا أنه واصل استخدام هذا السلاح عشرات المرات بعد ذلك، ففي هجوم شنيع آخر، استهدف خان شيخون بريف إدلب يوم 4 نيسان/ أبريل 2017، ما أدى إلى مقتل 100 شخص خنقًا.
وثَّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، حتى تاريخ 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، ما لا يقل عن 222 هجومًا بالأسلحة الكيماوية في سوريا في قاعدة بياناتها، منذ أول استخدام موثّق لهذه الأسلحة في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2012، وقد نفّذت قوات النظام السوري 217 هجومًا من إجمالي تلك الهجمات.
تدخلات دولية معقدة
واجه النظام السوري الثورة بكل ما أوتي من قوة وبطش، إلا أن انتشار رقعة المظاهرات على امتداد الخريطة السورية، وانشقاق عشرات الآلاف من المجندين والضباط وصف الضباط، دفعه إلى الاستعانة بإيران وميليشياتها اعتبارًا من عام 2012، بما في ذلك حزب الله اللبناني، ولواء فاطميون، ولواء زينبيون، والحشد الشعبي العراقي، كما استعان بروسيا التي تدخلت عسكريًا عام 2015، إلى جانب الدعم السياسي الصيني.
وضعت هذه التدخلات، إلى جانب التنافس الدولي في المنطقة، الشعب السوري أمام خيارات شبه معدومة، مع استمرار الحرب التي شنها النظام وحلفاؤه عليه، وزاد الأمر تعقيدًا بظهور تنظيم الدولة في العراق والشام “داعش”، الذي ضرب خاصرة الثورة السورية، وحرف أنظار العالم عن المحرقة السورية، موجّهًا الأنظار نحو محاربة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة والدول الأوروبية وبعض الدول العربية.
ورغم أن داعش ساهم في انتزاع المناطق المحررة من الثوار، فإنه نادرًا ما واجه النظام السوري بشكل مباشر، كما أن معظم ضحاياه كانوا من المسلمين الداعمين للثورة السورية، الذين قتلهم بتهم الردة والتكفير، وكان ظهوره أحد أهم الأسباب في وصم السوريين بالإرهاب أينما حلّوا وارتحلوا.
الفيتو.. سلاح دولي لوأد الثورة
استخدمت روسيا والصين حق النقض “الفيتو” 18 مرة في اجتماعات مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، دعمًا لحليفهما نظام الأسد في حربه ضد الثورة السورية.
تسبب ذلك في إفشال العديد من المشاريع الدولية التي كانت تهدف إلى وقف العمليات العسكرية، وإدانة النظام السوري على استخدام الأسلحة المحرّمة دوليًا وارتكاب المجازر، بما في ذلك الهجمات الكيماوية والبراميل المتفجرة.
كما كان الفيتو الروسي-الصيني سببًا في تعطيل دخول المساعدات الإنسانية إلى السوريين في المناطق المحررة أكثر من مرة.
مواطنون صحفيون
بسبب التعتيم الإعلامي، وطمس النظام للحقيقة، وغياب وسائل إعلام سورية مستقلة، إضافة إلى عدم تمكّن وسائل الإعلام العربية والدولية من نقل كل ما يجري في سوريا، برز المواطنون الصحفيون والنشطاء الإعلاميون الذين عملوا على نقل صورة الأحداث على الأرض إلى العالم.
مع مرور الوقت، أصبح عدد كبير منهم مراسلين بارزين، لهم حضور طاغٍ وشهرة واسعة، لانحيازهم إلى قضية الثورة، وقد استشهد أكثر من 700 صحفي وإعلامي ومصوّر خلال أحداث الثورة، وفقًا لتوثيقات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
أكبر عدد لاجئين في القرن الـ 21
مثّلت سوريا أكبر أزمة لجوء في العالم، حيث بلغ عدد اللاجئين والنازحين قسرًا 13.8 مليون شخص داخل البلاد وخارجها في عام 2024، نتيجة الحرب التي شنها النظام ضد السوريين، وفق أرقام الأمم المتحدة.
توزّع اللاجئون بشكل أساسي في دول الجوار: تركيا ولبنان والأردن والعرا، ومصر، إلى جانب ملايين السوريين في دول الاتحاد الأوروبي، كما تمركز ملايين النازحين المهجّرين في مناطق شمال غربي سوريا، في ظل ظروف إنسانية قاسية.
أكل لحم القطط وأوراق الشجر.. تجويع وحصار المدن
في عام 2012، حاصر النظام السوري مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، الذي كان يضم سكانًا سوريين أيضًا، ومنع دخول الطعام والشراب والدواء إلى المنطقة، ما دفع السكان إلى أكل أوراق الشجر، وظهرت فتاوى تجيز أكل لحوم القطط والكلاب والحمير بسبب المجاعة القاتلة.
كان الحصار والتجويع سلاحي حرب استخدمهما النظام السوري على مدى 13 عامًا في مختلف المدن السورية، مما تسبب في مقتل مئات الأشخاص، وفق منظمات حقوقية.
وشمل الحصار العديد من المناطق، منها: أحياء جنوب دمشق، ومدن الغوطة الشرقية، وداريا، والقابون وبرزة، ووادي بردى، ومضايا والزبداني، وحمص، وحي الوعر، وأحياء حلب الشرقية، وغيرها.
مدن تحت الأرض
لم تكن الأنفاق مجرد كلمة مجازية، فقد تمكنت المناطق المحررة من حفر أنفاق ضخمة وطويلة تحت الأرض بأدوات بدائية، رغم الحصار المطبق، خصوصًا في مدن الغوطة الشرقية، التي استمر النظام في حصارها بين الأعوام 2012 – 2018، لما تمثله من تهديد كبير له لقربها من قصر الحكم في دمشق.
أنشأ الثوار والمجتمع المدني في الغوطة مستشفيات تحت الأرض، أبرزها مستشفى ريف دمشق التخصصي (النقطة واحد) داخل الأنفاق في مدينة دوما.
كما امتدت الأنفاق لربط المناطق المحاصرة، فكانت وسيلة لنقل البضائع والأدوية والمعدات العسكرية والمصابين خارج الغوطة، رغم محاولات النظام المتكررة للقضاء عليها.
الاقتصاد البديل.. التحايل على الحصار
في المناطق المحاصرة، واجه السوريون صعوباتٍ هائلة في تأمين الوقود والطعام والأدوية، لكنهم أوجدوا بدائل اقتصادية مبتكرة للتغلب على هذه التحديات.
أعادوا تدوير البلاستيك والمواد الأولية لصنع وقود بديل، وابتكروا أنظمة زراعية غير تقليدية مثل زراعة الفطر كبروتين، وصناعة الخبز من العدس، وإنتاج سكر بدائي، كما لجأوا إلى الطب البديل باستخدام الأعشاب في ظل فقدان الأدوية المصنعة.
اعتمدوا نظام المقايضة بدلًا من النقد، فتبادلوا البيض مقابل الشاي والسكر، وقمر الدين مقابل البقول أو علبة سجائر، بعدما دفعهم حصار النظام السوري إلى العيش في ظروف أشبه بالحياة البدائية وما وراء التاريخ، فاضطروا إلى تدبّر أمورهم بالموارد والطاقات المتاحة بين أيديهم.
الباصات الخضراء.. أكبر عملية تهجير قسري
كانت الباصات الخضراء رمزًا ودلالة سيئة بالنسبة للأهالي والسكان الذين نفاهم النظام واقتلعهم من أراضيهم ومنازلهم قسرًا، ومع ذلك ظل كثيرون منهم يؤمنون بالعودة، حتى لو كانت منازلهم ركامًا، وبالفعل عادوا.
قادَت روسيا، بعد تدخلها في سوريا، واحدةً من أكبر عمليات التهجير القسري في العالم، عبر اتفاقيات فرضتها بالقوة، بعد حملات عسكرية عنيفة، أجبرت الفصائل المناوئة للنظام على القبول بها، تحت تهديد المزيد من التصعيد العسكري، بما في ذلك الأسلحة الكيماوية والتجويع والحصار.
تركّزت نتائج اتفاقيات التهجير في اقتلاع السكان من جذورهم وإحداث تغيير ديموغرافي واسع، حيث نُقلوا عبر الباصات الخضراء من المناطق المحاصرة باتجاه إدلب وريف حلب شمال غربي سوريا، وشملت هذه العمليات مدنًا وأحياءً وأريافًا في محافظات حمص ودمشق وريف دمشق وحلب ودرعا والقنيطرة.
قيصر.. أكبر مجزرة موثقة بالصور
في حي القابون بدمشق، كان فريد ندى المذهان يعمل في الشرطة العسكرية برتبة مساعد أول ورئيسًا لقسم الأدلة القضائية، حيث كانت مهمته تقتصر على توثيق الجرائم المدنية بالتصوير، إلا أنه بعد اندلاع الثورة السورية، تغيّرت طبيعة عمله، إذ كُلّف بتصوير جثث المدنيين الذين قتلوا تحت التعذيب أو أُعدموا على يد قوات النظام.
أكد المذهان، في مقابلته الوحيدة على قناة الجزيرة، أن أوامر التصوير والتوثيق كانت تصدر من أعلى هرم السلطة، بهدف التأكد من تنفيذ عمليات القتل، مشيرًا إلى أن قادة الأجهزة الأمنية كانوا يثبتون ولاءهم المطلق للأسد عبر صور جثث ضحايا الاعتقال.
تمكن المذهان، بمساعدة 3 آخرين، من تهريب آلاف الصور إلى خارج سوريا، لتصبح أكبر قاعدة بيانات موثقة، تضم 55 ألف صورة لـ 11 ألف معتقل، وقد تم التحقق من صحتها عبر فريق تحقيق دولي مختص بجرائم الحرب، ليتم عرضها لاحقًا أمام الكونغرس الأميركي تحت اسم “قيصر”، وهو الاسم الذي استخدمه لإخفاء هويته وهويات مساعديه خوفًا من الاغتيال أو ملاحقتهم وذويهم.
مدن وأحياء مدمرة بالكامل
بسبب القصف المستمر بالصواريخ والمدفعية والبراميل المتفجرة وقنابل الطائرات التي دكّت بيوت السوريين، ترك النظام خلفه مدنًا وأحياءً مدمّرة بالكامل أو بشكل شبه كامل، كما أن بعض هذه المناطق تعرضت للهدم بعد عمليات التهجير.
شهدت أحياء جوبر والقابون في دمشق تدميرًا شبه كامل بفعل القصف وعمليات التجريف التي نفذها النظام لسرقة الحديد من أسقف البيوت، وهو ما تكرر في مخيم اليرموك والتضامن والعسالي جنوب دمشق وداريا في ريف دمشق وحمص وريف إدلب الجنوبي وأجزاء من ريف حماة.
كما امتد الدمار إلى حلب ودير الزور والرقة ومناطق أخرى تعرضت لتدمير واسع أو محدود في مختلف المحافظات والمدن السورية.
استهداف متعمد للمشافي والمدارس والجوامع
لطالما كانت الأماكن الحيوية مثل المشافي والمدارس والأسواق والجوامع والكنائس، مواقع لا تُستهدف في الحروب والصراعات حفاظًا على سلامة المدنيين، إلا أن نظام الأسد، بترسانته العسكرية، ومعه روسيا وإيران، تعمدوا استهداف المدنيين في أماكن تجمعهم بشكل ممنهج.
تعرضت المشافي والمراكز الصحية للقصف، ما أدى إلى مقتل العديد من الأطباء والممرضين والمرضى، كما أصيبت المدارس والجامعات بهجمات مباشرة، تسببت في مقتل وإصابة الطلاب والمدرسين، كما لم تسلم الجوامع في مختلف المدن السورية من ذلك.
إضافة إلى ذلك، استهدف النظام طوابير المدنيين أمام المخابز، في انتهاكات صارخة للقانون الدولي، جعلت الحياة اليومية للسوريين محفوفة بالموت في كل مكان.
محاكم دولية خاصة بسوريا
شكّلت الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها نظام الأسد انتكاسةً لمبادئ حقوق الإنسان، وتعذرت إحالة جرائمه إلى محكمة الجنايات الدولية بسبب الفيتو الروسي، والقيود القانونية الدولية، وعدم توقيع سوريا على نظام روما الأساسي.
ومع ذلك، تمكنت منظمات حقوقية سورية عاملة في أوروبا من ملاحقة بعض المتورطين عبر الولاية القضائية العالمية، التي تستمد شرعيتها من الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية، وفقًا لاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969.
بموجب هذه الولاية، أصدر القضاء الألماني في 13 كانون الثاني/ يناير 2022 حكمًا بالسجن مدى الحياة على أنور رسلان، وهو ضابط مخابرات في نظام الأسد، بعد إدانته بالتواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، في أول محاكمة من نوعها بشأن الجرائم الوحشية المنسوبة للنظام.
وبالطريقة نفسها، أصدرت محكمة فرنسية في 25 أيار/ مايو 2024 حكمًا غيابيًا بالسجن مدى الحياة على كل من علي مملوك، المدير السابق لمكتب الأمن الوطني، وجميل حسن، المدير السابق للاستخبارات الجوية، وعبد السلام محمود، المدير السابق لفرع التحقيق في الاستخبارات الجوية، بعد إدانتهم بالتواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، وذلك على خلفية مقتل فرنسيين سوريين اعتُقلا عام 2013.
إدخال مفهوم “المنطقة المحررة” إلى الثورات
لم تشهد أي ثورة حديثة ظهور مفهوم “المناطق المحررة” كما حدث في سوريا، حيث تمكن السوريون من تحرير مساحات واسعة وإدارتها ذاتيًا، بعيدًا عن سيطرة النظام.
خلقت تجربة المناطق المحررة نموذجًا فريدًا، إذ استمرت هذه المناطق في حكم نفسها لسنوات، رغم ما واجهته من حصار وقصف مستمر، ورغم التحديات، كان وضعها أفضل بشكل عام من مناطق سيطرة النظام.
أشهر فريق دفاع مدني في العالم
منظمة “الخوذ البيضاء” (الدفاع المدني السوري)، التي تأسست عام 2013، وتضم حوالي 3,000 متطوع سوري، كانت من أبرز الجهات التي عملت في المناطق المحررة، حيث كرّست جهودها لإغاثة المتضررين جراء النزاع المسلح.
تعرضت المنظمة لحملة شيطنة وتشويه من قبل النظام السوري وروسيا، رغم أنها تُعرّف نفسها كجهة حيادية وغير منحازة لأي طرف سياسي، وتركز عملها على الإنقاذ والإغاثة في مواجهة القصف والدمار.
أهازيج وهتافات خالدة
لكل ثورة في العالم صوتها وأهازيجها وهتافاتها، والمشترك بينها جميعًا هو الحضور الإنساني الجميل، الذي يمنح الثوار القوة والإلهام، ويجعلهم يتذكرون شهداءهم وذكرياتهم.
في سوريا، نشأت الأغاني الثورية والهتافات من قلب المظاهرات الشعبية، التي كانت تُبث على مواقع التواصل الاجتماعي خلال مظاهرات الجمعة والمسائيات اليومية، رغم مخاطر الرصاص والقصف، لتقدم إبداعًا فنيًا لا ينساه السوريون.
كان الشهيد عبد الباسط الساروت، حارس نادي الكرامة لكرة القدم والملقب بـ “حارس الثورة السورية”، أحد أبرز منشدي الثورة، حيث كتب ولحن أجمل أغانيها، مثل: جنة جنة، لأجل عيونك يا حمص، يا يما بتوب جديد، ثورة ثورة، حانن للحرية حانن، سوريا ضلي واقفة”، كما قدم آخرون أغاني باقية في ذاكرة الثوار السوريين، مثل: “يا حيف” للفنان سميح شقير، و”طيب إذا منرجع” لوصفي المعصراني.
وفي السنوات الأخيرة، برز منشدون جدد للثورة، مثل أبو ماهر صالح، الذي هتف في مظاهرات الشمال السوري، إضافة إلى الفنان سمير أكتع الذي تعاون مع الشاعر ظافر صالح الصدقة لتقديم أغانٍ ثورية رفيعة المستوى، من أشهرها: “بالحب بدنا نعمرها”.
فنون الثورة
لم تقتصر الحالة الفنية في الثورة السورية على الأغاني والأهازيج والهتافات، بل امتدت إلى الرسم والرسوم الكاريكاتيرية واللوحات الجدارية والجرافيتي والتصميمات الإلكترونية والزخارف اليدوية، التي وثّقت نبض الشارع الثائر بأدوات فنية تعبّر عن الألم والأمل معًا.
كما برز دور الأفلام القصيرة والوثائقية، التي سلطت الضوء على معاناة السوريين ونضالهم، ومن أبرزها: “إلى سما”، و”الخوذ البيضاء”، و”آخر الرجال في حلب”.
ولم يكن الشعر والرواية بمنأى عن تخليد أيام الثورة السورية، حيث وثّقت القصائد والقصص والروايات أحداثها ومغامراتها وتحدياتها، في مشوار امتد 14 عامًا، محمّلًا بالدماء والتضحيات، لكنه ظلّ نابضًا بالحلم والحرية.
التطوع متجاوزًا المكان والزمان
أظهر السوريون منذ اللحظة الأولى للثورة روحًا عظيمة من التضحية والتعاون الشعبي، حيث تبنّوا ثقافة التطوع، وبذلوا الوقت والمال والنفس في سبيل نصرة الثورة ومساعدة أبناء وطنهم، سواء داخل سوريا أو خارجها، متجاوزين القيود الجغرافية في الزمان والمكان.
ساهم المتطوعون السوريون في مجالات عدة، أبرزها الإغاثة الإنسانية والتعليم والرعاية الصحية والتدريب وكفالة الأيتام وذوي الشهداء، إلى جانب إعادة الإعمار عبر حملات مستمرة تهدف إلى إغلاق المخيمات وبناء قرى سكنية بديلة توفر حياة أكثر استقرارًا للمهجّرين.
كما نشطوا في حملات ميدانية وافتراضية للدفاع عن السردية السورية، وتقديم صورة إيجابية عن اللاجئين السوريين، في مواجهة مساعي النظام وأحزاب سياسية متطرفة لتشويه صورتهم ووصفهم بالإرهاب والتخلف.
جيل جديد منتشر في العالم
رغم المأساة، أفرزت الثورة السورية جيلًا جديدًا من المبدعين في مختلف المجالات، سواء في العمل والدراسة والنجاح المجتمعي، أينما حلّوا واستقروا، فقد تميّز الطلبة السوريون في المدارس والجامعات الأجنبية، رغم تحديات اختلاف اللغة والبيئة، وحازوا أعلى المعدلات، كما برز عدد كبير منهم في المسابقات الذهنية والرياضية والفنية، محققين نجاحات استثنائية.
لم تقتصر إبداعات السوريين على التعليم والرياضة، بل امتدت إلى نشر ثقافتهم ومطبخهم عالميًا، حيث استطاعوا إيصال صوتهم للعالم بطرق مبتكرة وخلاقة.
توثيق غير مسبوق للأحداث
كانت الثورة السورية من أوائل الثورات الموثقة بالكامل بالصوت والصورة، لحظة بلحظة، مما جعلها تمتلك سجلًا مرئيًا وصوتيًا ووجدانيًا هائلًا منذ انطلاقتها، بدأ عبر الهواتف المحمولة ذات الدقة المحدودة، وصولًا إلى الكاميرات الاحترافية والطائرات الدرون، مما مكّن من تسجيل ملايين حالات الانتهاكات بحق السوريين، من التظاهرات السلمية إلى القصف والجرائم تحت التعذيب.
إلى جانب هذا السجل التوثيقي، برزت مكتبة فنية ضخمة، تحتوي على صور ومقاطع مصورة وأغانٍ ورسومات وكاريكاتير وأفلام روائية وقصيرة ووثائقية.
زلزال مدمر
مع العذابات الكبرى التي عاشها السوريون على مدى أكثر من 13 عامًا من القتل والتشريد والنزوح والجراح والاعتقالات، جاءت كارثة إنسانية جديدة في 6 شباط/ فبراير 2023، حين ضرب أكبر زلزال مدمر تشهده المنطقة منذ مئات السنين جنوب تركيا وشمال سوريا، متسببًا في مقتل أكثر من 55 ألف شخص على جانبي الحدود، إضافة إلى آلاف الجرحى والمشردين، ودمار واسع طال الأبنية السكنية، والمدارس، والمستشفيات، والجوامع.
فاقمت تداعيات الزلزال الأزمة الإنسانية في المناطق المحاصرة والمتضررة بفعل الحرب، حيث أعاق تعنت روسيا وصول المساعدات الدولية بالسرعة المطلوبة، ما جعل معاناة السوريين في مواجهة الكارثة أكثر مأساوية.
أسوأ مكان للعيش
في التصنيف الذي شمل 173 مدينة حول العالم، حافظت دمشق، العاصمة السورية الواقعة تحت سيطرة النظام، على مركزها كأسوأ مدينة للعيش لعام 2024، وهذا يعني أن بقية المدن الخاضعة لسيطرة النظام تعاني أوضاعًا أشد سوءًا، في ظل فشل استثنائي للنظام وحكوماته المتعاقبة في إيجاد أي حلول لتردي المعيشة.
غرقت البلاد في العتمة مع ساعات تقنين تصل إلى 22 ساعة يوميًا، وندرة في وقود المواصلات ومحروقات التدفئة، وسط فقر مدقع وتضخم غير مسبوق، وبلغت الرواتب حدًّا متدنّيًا لا يتجاوز 20 دولارًا شهريًا، فيما صنفت الأمم المتحدة 90% من السوريين تحت خط الفقر، ما دفع أعدادًا متزايدة منهم إلى محاولة مغادرة البلاد بأي وسيلة.
إلى جانب ذلك، تسبب النظام في توقف عمليات التصدير، نتيجة استخدامه شحنات المخدرات لإغراق الأسواق العربية والعالمية، ما أدى إلى تقييد حركة التجارة الخارجية، وخاصة في القطاع الزراعي والصناعي، ليزيد ذلك من تدهور معيشة السوريين التي كانت سيئة أصلًا.
ردع العدوان.. استعادة الأرض
عاشت سوريا خلال السنوات الخمس الأخيرة جمودًا عسكريًا وخسارة مقارنة ببداية الثورة، إلى جانب ملف سياسي مجمّد دوليًا، فيما استمرت خروقات النظام السوري وروسيا وإيران بشكل شبه يومي في شمال غربي سوريا، متسببة في استشهاد الآلاف من السوريين ونزوح مئات الآلاف إلى الحدود السورية التركية.
وفي لحظة يأس وغضب، انطلقت فجر 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 عملية ردع العدوان من المناطق المحررة، بقيادة هيئة تحرير الشام وأحرار الشام والجبهة الوطنية للتحرير، حيث استهدفت مواقع النظام في ريف حلب الغربي، في أول اختراق لخطوط التماس بين الثوار والنظام في إدلب، منذ الاتفاق التركي-الروسي لوقف إطلاق النار في آذار/مارس 2020.
جاءت المعركة متسارعة، وسط اندهاش شعبي وعالمي من قدرة المقاتلين على الوصول إلى حلب في اليوم الثالث من المعركة، ثم السيطرة عليها، وتحرير ما تبقى من المعتقلين الأحياء في سجون النظام، داخل أكبر محافظة سورية من حيث عدد السكان.
تميزت العملية منذ ساعاتها الأولى بعدم استهداف المدنيين، حيث كانت موجهة ضد جيش النظام وميليشيات إيران، كما تم تنفيذ تسويات عسكرية لكل من ينشق عن النظام أثناء المعركة، مع تعهد بحمايته.
ضمن الثوار سلامة البعثات الدبلوماسية والسفراء، وأخرجوهم من سوريا بطرق آمنة، ما أعطى انطباعًا إيجابيًا عنهم كمقاتلين يسعون إلى تحرير سوريا وإنهاء حكم نظام الأسد.
في اليومين الرابع والخامس، تمكن الثوار من السيطرة على كامل أحياء حلب، بما في ذلك القواعد العسكرية والمطارات، ثم وسّعوا عملياتهم باتجاه حماة، وفي اليوم السابع، بدأت السيطرة على مدن ريف حماة الشمالي، وسط انهيارات كبيرة في صفوف النظام.
وفي اليوم التاسع، سيطر الثوار على مدينة حماة بالكامل ومطار حماة العسكري وسجن حماة المركزي ومبنى قيادة الشرطة. ومع حلول اليوم العاشر، واصل الثوار تقدمهم نحو حمص، بالتوازي مع سيطرة مقاتلين من الداخل على مدينتي الرستن وتلبيسة بريف حمص الشمالي، بينما حاولت روسيا إبطاء عملية ردع العدوان عبر تنفيذ غارات جوية على جسر الرستن وبعض المواقع في المدينة.
في اليوم نفسه، أعلنت فصائل من الثوار تأسيس “غرفة عمليات الجنوب” في محافظات درعا والقنيطرة والسويداء، وتمكنت خلال ساعات من السيطرة على معظم مناطق درعا والسويداء وأجزاء من القنيطرة.
وفي اليوم الحادي عشر، استكمل الثوار تحرير محافظات درعا والسويداء والقنيطرة وحمص، وسط انسحاب قوات النظام نحو الساحل، وفرار عشرات الآلاف من عناصره، تاركين خلفهم أسلحتهم وملابسهم العسكرية.
مع دخول اليوم الثاني عشر من العملية، في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، بدأ الثوار دخول دمشق من الجنوب والشمال، ومع انسحاب عناصر النظام، تم إطلاق سراح من تبقى في سجن صيدنايا، والسيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون.
في تلك اللحظة، بدأت مآذن الجوامع في دمشق بالتكبير والتهليل، لتُعلن عند الساعة 05:08 فجرًا هروب بشار الأسد وسقوط النظام رسميًا. كان ذلك يومًا تاريخيًا، كسر أسطورة “الديكتاتور الذي لا يُهزم”، فإذا به يسقط مع جيشه وداعميه في أقل من 12 يومًا، ويستعيد السوريون أرضهم وحريتهم، في واحدة من أعظم الثورات في التاريخ.
انتهى حكم الأبد.. إلى الأبد
خلال الثورة السورية، حطم السوريون تماثيل وأصنام عائلة الأسد، ومزّقوا صورهم، تعبيرًا عن رفضهم لحكم الطغيان، إلا أن النظام، في كل منطقة يستعيد السيطرة عليها، كان يعيد بناء تماثيل حافظ الأسد، في محاولة لتكريس طغيانه عبر شعارات “القائد الخالد” و”حكم الأبد”.
مع بدء معركة التحرير، أعاد السوريون تحطيم كل تماثيل حافظ وبشار وباسل الأسد، من إدلب إلى دمشق، ومزّقوا صورهم، وداسوا عليها بالأحذية، في مشهد انعتاق وتحرر كامل من حكم هذه الطغمة، بأيدٍ سورية وطنية خالصة، دون تدخل دولي، ليطوي السوريون صفحة 54 عامًا من حكم عائلة الأسد بالحديد والنار.
وفي موقف استثنائي، وبعد الذكرى الـ 14 للثورة السورية، وفي أول احتفال بعد النصر، ألقت مروحيات الجيش السوري الجديد الورود والأزهار فوق العاصمة دمشق، في رمزية عالية لكيفية استبدال البراميل المتفجرة والصواريخ التي طالما ألقيت فوق رؤوس السوريين، بالورود.
وخلال سنوات الثورة السورية الطويلة، ذاق السوريون أقسى مرارات حياتهم في مواجهة نظام الأسد، الذي قتل واعتقل وجرح وشرّد، وأهان كرامة شعبه، وهجّر أكثر من نصفه.
لكنهم، رغم كل ذلك، حرروا بلدهم بدماء أبنائهم ودموع أمهاتهم، في مشهد تاريخي نادر التكرار، كتبوا خلاله على جبين المجد: “حرية للأبد… غصبًا عنك يا أسد”.