“منذ نحو 25 عامًا لم تكن المملكة الهاشمية مصدر تهديد بالحرب ضدنا ولم تمد يدها إلى الإرهاب، فليس في شرق الأردن مدن يلجأ المخربون إليها، ينطلقون منها ويفرون إليها. وشرق الأردن ليس ذلك المُحاوِر الذي تمد إحدى يديه غصن الزيتون، وتحمل الأُخرى وسائل الدمار. وهو ليس الجار الذي يتحدث عن السلام ويفسح في الوقت ذاته المجال لإطلاق صواريخ الكاتيوشا وقذائف مدافع الهاون نحو مستوطناتنا ومدننا. وفي شرق الأردن لا وجود لذلك الزعيم الذي تنطق شفتاه بما لا يضمره قلبه”.
كانت الكلمات السابقة جزءًا من خطاب تلاه رئيس وزراء الاحتلال الحاليّ بنيامين نتنياهو، ورئيس المعارضة في الكنيست آنذاك، أمام رئيس الدولة اليهودية ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية، احتفالًا بـ”العبور الإسرائيلي لنهر الأردن على جسور السلام”، كان ذلك في الـ28 من أكتوبر للعام 1994، بعد يومين فقط من توقيع معاهدة السلام الأردنية – الإسرائيلية التي عُرفت باسم معاهدة “وادي عربة”، نسبةً للمكان الذي وقع فيه الاتفاق بالأحرف الأولى كل من رئيس الوزراء الأردني عبد السلام المجالي، ورئيس وزراء الاحتلال إسحاق رابين، وبحضور الملك حسين ورئيس دولة الاحتلال عيزر وايزمان، وتحت رعايةٍ أمريكية ممثلة بالرئيس بيل كلينتون ووزير الخارجية وارن كريستوفر.
من كامب ديفيد إلى وادي عربة: ماذا يعني السلام مع “إسرائيل”؟
يُشير البعض دائمًا أن خسارة جورج بوش لانتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1992، كانت ضربةً لمسار السلام الذي خطه الرجل في مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط (1991)، لكن الحقيقة أن المسار وإن أخذ شكلًا مغايرًا لاحقًا، لكن سُبله لم تُسد ولم تُغلق، فأتت اتفاقية وادي عربة بعد 13 شهرًا فقط من توقيع اتفاقية أوسلو، لتُشكل أبرز إفرازات مسار فُصّل على مقاس الإسرائيليين ورغباتهم حصرًا، بالانفراد في مفاوضات ثنائية وعقد معاهداتٍ منفردة مع الأطراف العربية، دون الاضطرار للجوء إلى مفاوضات متعددة الأطراف، كما كان في مؤتمر مدريد (1991)، وهو الأمر الذي كان يقلق الإسرائيليين لسببين: الأول، القوة التفاوضية التي يشكلها وجود تكتل عربي في مرحلة المفاوضات وقبل توقيع المعاهدة، والثاني، الفرص الأعلى للتكتل بالانسحاب الجماعي من المعاهدات أو الضغط بإدخال تعديلاتٍ عليها.
وعلى ذلك مثلت اتفاقية وادي عربة انخراطًا مُعلنًا للملك حسين والنظام الأردني في معسكر كامب ديفيد الذي افتتحه السادات عام 1978، لتأتي الاتفاقية بمثابة ترسيم وتشريع لعلاقة تمتد جذورها إلى الأربعينيات، انحصرت قبل المعاهدة بتفاهماتٍ سرية واتصالاتٍ روتينية بين المسؤولين الإسرائيليين والأردنيين، لتأتي الاتفاقية وتسحب هذا التفاهم والاتصال إلى مناطق ومجالات أوسع، محاولةً تعميمه وترسيخه في كل أشكال علاقاتها، بل في أساسات شرعية وجودها، فالأمر لا يتوقف على خروج الأردن – وقبلها مصر – من بوتقة الصراع العربي الإسرائيلي، بل بتعزيز هذه الاتفاقيات لأمن “إسرائيل” وشرعنة وجودها واستقرارها في المنطقة، والسعي للسلام بالنسبة للإسرائيلي، لم يكن يومًا لإقصاء الصهيونية، بل فقط تعزيزها وتحقيقها الكامل، بتعبير نتنياهو.
إضافةً إلى ذلك، فإن اتفاقيات السلام العربية مع “إسرائيل”، بما فيها اتفاقية أوسلو، فتحت أبوابًا في دول العالم الأخرى كانت مغلقة أمام “إسرائيل”، فلم تكن أكثرية دول العالم حينها تنسج علاقات سياسية أو اقتصادية أو أمنية مع “إسرائيل”، جاءت هذه الاتفاقيات وكانت اليد الحنون التي أزالت خناق المقاطعة عن رقبة “إسرائيل”، هذا عدا عن إحالة هذه الاتفاقيات القضية الفلسطينية لقضية الفلسطينيين وحدهم، فالدول العربية التي من المفترض أنها في صراع مع الاحتلال وتصطف إلى جانب أعدائه، تحولت إلى وسيط بينهم وبين الإسرائيليين في أحسن الأحوال، وفي ذلك كان الأردن نموذجًا صاخبًا، كيف لا وهو ذات النظام الذي ارتكب مذابح أيلول الأسود وأخرج الفدائيين الفلسطينيين من الأردن، بعد أن كان وجودهم فيها، يمس بشكلٍ حقيقي وخطير بالاحتلال وعمقه الإستراتيجي.
من جانبِ آخر، عززت معاهدة وادي عربة موقع الأردن واصطفافه الإقليمي الواضح للغرب، وفتحت له في السنوات اللاحقة مصادر جديدة للمساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية، ففي عام 2018 وصلت قيمة المساعدات الاقتصادية الأمريكية المقدمة إلى الأردن نحو مليار دولار، في حين أنها لم تتجاوز 35 مليون دولار عام 1993، والأمر ذاته ينطبق على المساعدات العسكرية التي لم تتجاوز 9 ملايين دولار عام 1993، في وقت وصلت فيه لما يقارب النصف مليار دولار عام 2018، هذا إضافةً إلى التدريبات المشتركة السنوية والتبادلية الاستخبارية التي وصلت حد دمج كوادر فنية من وكالة الاستخبارات الأمريكية في دائرة المخابرات العامة الأردنية.
25 عامًا من انصياعٍ رسمي ورفضٍ شعبي
لا شك أن العلاقات الأردنية الإسرائيلية لم تسر على نسقٍ واحد منذ ترسيمها بمعاهدة وادي عربة، حيث شهدت توترات عدة ومرت بأوقاتٍ صعبة، ففي العام 1997، وبعد ثلاث سنوات من توقيع المعاهدة فقط، أطلق الأردني أحمد الدقامسة النار على مُستوطِنات إسرائيليات في أثناء تأديته الخدمة العسكرية بمنطقة الباقورة، فقتل سبعًا منهن وجرح أخريات. ذهب الملك حسين حينها إلى الأراضي المحتلة وقدم اعتذارًا رسميًا للحكومة الإسرائيلية. في ذات العام، حاول الموساد الإسرائيلي اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس آنذاك خالد مشعل في عمان، إلا أنه فشل، وهدد حينها الملك حسين بتجميد المعاهدة، وضغط على “إسرائيل” لإرسال ترياق سم الاغتيال. تلا ذلك توتر في العلاقات عام 1999 مع فشل المحادثات الثنائية بشأن المياه، قبل التوصل إلى حل وسط في نهاية الأمر. كما شكلت الوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس مثار توتر دائم بين الطرفين.
إضافةً إلى التوترات في العلاقات الرسمية، جرت أحداث عديدة عمقت الغضب والرفض الشعبي للمعاهدة برمتها، وللنهج التطبيعي الذي يسيطر على الرؤية الأردنية للعلاقات مع الاحتلال، ظهر ذلك في قضايا مثل: صفقة الغاز والتحقيق في جريمة قتل القاضي رائد زعيتر على يد أحد الجنود الإسرائيليين وحادثة قتل المواطنيّن الأردنيين في سفارة الاحتلال في عمان والفشل المستمر في الإفراج عن أسرى أردنيين في سجون الاحتلال كان آخرهم هبة اللبدي وعبد الرحمن مرعي، اللذان اعتقلهما الاحتلال الشهر الماضي من على جسر الملك حسين، خلال توجههما للضفة الغربية.
بيد أن العلاقة كانت تزدهر في مواضعٍ أخرى، التعاون الأمني والاستخباري على سبيل المثال، شهد تحسنًا كبيرًا، فحدود الأردن مع مناطق السيطرة الإسرائيلية الأكثر أمانًا، وكثير من جنود جيش الاحتلال يتمنون قضاء خدمتهم العسكرية هناك لا في المنطقة الشمالية أو الجنوبية، كما أن العلاقة بين المؤسسات الأمنية والاستخبارية التابعة لكلا الطرفين وثيقة والتنسيق التكتيكي والإستراتيجي لا ينقطع بينها. كما تزدهر العلاقة في فضاءات الطاقة والطيران والماء وما يسمى “محاربة الإرهاب”، لنرى في السنوات الأخيرة اتفاقياتٍ مهمة وقعها الطرفان، منها مشروع قناة البحرين الذي يُنفذ بمشاركة السلطة الفلسطينية كذلك، واتفاقية شراء الغاز من “إسرائيل” التي شهدت رفضًا شعبيًا كبيرًا تمثل في حملة كان شعارها الأبرز “غاز العدو احتلال“، كما يطغى نقاش خلال الفترة الأخيرة عن أراضي الباقورة والغمر اللتين من المفترض أن يستعيدهما الأردن خلال هذه الفترة.
هل تستمر السيطرة الإسرائيلية على الباقورة والغمر؟
معاهدة وادي عربة التي صادق عليها مجلس النواب الأردني دون الاطلاع على ملحقاتها والخرائط الخاصة بها حتى، تطرقت في (30) مادة، و(5) ملاحق، إلى موضوعات: الحدود الدولية والأمن والعلاقات الدبلوماسية والتعاون في موضوع المياه وتقاسم مياه نهري الأردن واليرموك ومن المياه الجوفية لوادي عربة والعلاقات الاقتصادية والتبادل الثقافي والعلمي والسياحة والبيئة والطاقة.
وكانت قضية الحدود إحدى أعقد ملفات مفاوضات المعاهدة، فأحد أبرز ملاحق المعاهدة يتعلق بتنظيم منطقتي الباقورة والغمر، وهي إلى جانب منطقة العقبة، مناطق حدودية لا تزال تخضع لسيطرة أو وجود إسرائيلي فيها، فوفقًا لملاحق المعاهدة، فإن أراضي الباقورة والغمر تتبع نظامًا خاصًا، يقضي باعتراف إسرائيلي بسيادة الأردن على هذه المناطق، ولكن مع تأجيرها لـ”إسرائيل” لمدة 25 عامًا، ولأي الطرفين، أن يُخطر الآخر، وقبل عامٍ واحد، برغبته بإنهاء النظام الخاص عليها. وهو ما حدث في أكتوبر من العام الماضي، مع إعلان الملك عبد الله بإنهاء ملحقي الباقورة والغمر، وتسليم الخارجية الإسرائيلية مذكرتين من نظيرتها الأردنية بذلك.
وهو الأمر الذي سبقه مطالبات من مستقلين وأحزاب ونقابات ونواب بإنهاء النظام الخاص في الباقورة والغمر، ومن حينها، بدأت محادثات بين ممثلين في وزارة خارجية الاحتلال ومسؤولين أردنيين، تضاربت الأنباء بشأن نتائج هذه المحادثات ومرادها، ففي حين أشارت مصادر عبرية إلى موافقة الأردن على تجديد أو تمديد استعمال أراضي الباقورة والغمر، نفت وزارة الخارجية وشؤون المغتربين الأردنية الأمر، وقالت إن المحادثات تدور بشأن إنهاء عقد الإيجار وليس تمديده.
وكانت أراضي الباقورة الواقعة في الأغوار الشمالية قد احتلتها “إسرائيل” عام 1950، فيما احتلت أراضي الغمر الواقعة في وادي عربة جنوب البحر الميت، خلال حرب يونيو حزيران 1967، وتبلغ مساحة المنطقتين نحو 380 كيلومترًا مربعًا، وهي أراضٍ صالحة للزراعة ولها ميزات سياحية، عدا عن غناها بأحواض مائية تعتمد عليها مزارع المنطقة.
ماذا عن مستقبل العلاقة؟
إن الرفض الشعبي الدائم للمعاهدة وإفرازاتها، حتم على السلطات الأردنية – كما المصرية – سلوك مسار السرية في العلاقة مع الاحتلال والتعاون الهادئ البعيد عن أعين الناس وآذانهم، وبالتالي غضبهم وسخطهم، ولا شك أن هذا سيستمر في ظل الرفض الشعبي المستمر والقاطع لأي شكلٍ من أشكال التطبيع مع الاحتلال والعلاقة معه، وسيستمر النظام الأردني في إجراءاتٍ شكلية لا تعدو عن كونها محاولةً للهرب من الضغط الشعبي في الأوقات التي قد تشهد اختراقات إسرائيلية للسيادة الأردنية أو اعتداءاتٍ على مواطنين أردنيين، أو خرقٍ لبنود معاهدة السلام.
في ذات الوقت، فإن الحديث المتواصل عن صفقة القرن ووعود نتنياهو بضم الأغوار واستمرار سياسات الاحتلال التقويضية للوصاية الأردنية في القدس ووقف العمل بمشروع قناة البحرين، مؤشرات يتوقع البعض أنها قد تضع معاهدة وادي عربة برمتها على المحك، لكن رغم كل تلك المؤشرات، وجهات نظر أخرى ترى أن 25 عامًا، منذ توقيع معاهدة وادي عربة، وأعوام كثيرة قبلها من العلاقات المتينة والحميمة بين النظام والاحتلال كافية للقول إن العلاقات ستستمر والمعاهدة التي تمثل خطًا أحمر للنظام الأردني في أمانٍ من أي رياح تغيير قد تعصف بها في المنظور القريب.