لليوم العاشر على التوالي يواصل اللبنانيون حراكهم الثوري متمسكين بمطلبهم الأساسي “إسقاط النظام” رافضين المسكنات التخديرية التي تقدمها الحكومة يومًا تلو الآخر في محاولة لاحتواء الانتفاضة المشتعلة منذ منتصف الشهر الحاليّ على خلفية فرض رسوم جديدة على خدمات الاتصالات.
ويواصل المحتجون فعالياتهم الثورية في الشوارع والميادين الرئيسية، ليس في العاصمة بيروت وحدها، بل في شتى مدن البلاد حتى النائية منها، في محاولة لتوصيل الرسالة الأبرز للسلطات الحاكمة التي جاءت تحت شعار “كلن يعني كلن” وذلك بعد فشل استخدام ورقة الطائفية لحلحلة وحدة الصف وقوته.
نحاج الحراك في الحفاظ على هويته المستقلة عن أي أبعاد طائفية ونسفه لمعايير المحاصصة ورفعه للعلم اللبناني فقط دون غيره من الأعلام التي تمثل التيارات الأخرى، أصاب – وما زال – مختلف القوى السياسية المشاركة في الحكم بحالة من الصدمة، ومن ثم تأتي ردود الفعل عكسية في ظل فشلها في الاستجابة لمطالب الشارع التي يتصاعد سقفها ساعة تلو الأخرى.
ومع الأمس دخلت الاحتجاجات نفقًا جديدًا بعد الكلمة التي قالها زعيم حزب الله حسن نصر الله، التي حملت الكثير من رسائل التهديد والتخويف، إلا أن الشارع لم يتأخر كثيرًا في توصيل رسالته ردًا عليها، فجاءت الجموع من كل حدب وصوب لمؤازرة الغاضبين في الميادين، رافضين وتر “الحرب الأهلية” الذي يجيد الحزب اللعب عليه لتحقيق أهدافه السياسية طيلة السنوات الماضية.
باقون في الميادين
واصل المتظاهرون مسيراتهم المطالبة بإسقاط الحكومة والإصلاح السياسي والاقتصادي ومحاربة الفساد، بينما أغلق آخرون الطرق الرئيسية وأحرقوا الإطارات في بعض المدن، فيما وقعت بعض الاشتباكات الخفيفة مع قوات الأمن لم تسفر عن أي حالات قتل أو إصابة.
ففي الشمال وبالتحديد في مدينة طرابلس خرج آلاف المتظاهرين رافعين شعارات تطالب برحيل الحكومة، داعين إلى محاسبة بعض رموز الطبقة الحاكمة الذين يتهمونهم بإفساد الحياة السياسية والاغتناء غير المشروع، كما عبروا عن رفضهم لبعض ما اقترحه بعض الساسة والمسؤولين من حلول لإنهاء هذه المظاهرات، وقالوا إنها غير كافية ولا تلبي مطالبهم.
أمين حزب الله حذر من أن الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، قد تدفع البلاد إلى الفوضى أو الانهيار، وقد تذهب إلى “الحرب الأهلية”
وقد تحولت ساحة النور، وسط طرابلس، إلى مركز رئيسي للمظاهرات التي يحتشد فيها آلاف الغاضبين يوميًا، فيما اعتبرها آخرون مصدر إلهام ميداني دفع الكثير من اللبنانيين للنزول للشارع ومشاركة ذويهم فعاليات الحراك الملتزم بسلميته ودفاعه عن حقوقه الشرعية في مواجهة السلطة الحاكمة.
لم يختلف الأمر كثيرًا في الجنوب، إذ شهدت مدينة صيدا اعتصامًا ليليًا نفذه محتجون للمطالبة بالثبات على ما قالوا إنها مطالب الشعب اللبناني، وتتمثل في تنحي الطبقة السياسية الحاليّة وتحسين الأوضاع الاقتصادية، كما وثقت بعض المشاهد تجمع آلاف اللبنانيين في العاصمة بيروت والنبطية وصور وجل الديب وغيرها من الأماكن.
تخويف وترهيب
في كلمة هي الثانية له منذ اندلاع الاحتجاجات وجه نصر الله العديد من رسائل التخويف والتخوين للمتظاهرين مجددًا تأكيده رفض استقالة حكومة الحريري، محملاً بعض التيارات والقوى السياسية مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع المتردية التي أشعلت فتيل الانتفاضة.
أمين حزب الله حذر من أن الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، قد تدفع البلاد إلى الفوضى أو الانهيار، وقد تذهب إلى “الحرب الأهلية”، ولم تكن هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها نصر الله هذا المصطلح، إذ لجأ إليه مرة أخرى حين قال “إذا استمر الوضع هكذا ممكن أن يذهب البلد إلى فوضى عارمة وخلل أمني وقد يكون هناك من يحضر لحرب أهلية كما فعلوا في عدد من دول المنطقة والجوار”.
التلويح بهذه الورقة سيئة السمعة يعيد اللبنانيين إلى عام 1975 حين اندلعت الحرب الأهلية الأكثر قسوة في البلاد التي خلفت وراءها أكثر من 120 ألف قتيل قبل أن تنتهي بموجب اتفاق الطائف الموقع بين الأطراف المتنازعة في لبنان بوساطة سعودية في 30 من سبتمبر/أيلول 1989.
حسن نصرالله يعترف بعلم لبنان أخيراً في خطاباته، بعد أن كانت الشعارات الطائفية تملأ شاشته. #لبنان_ينتفض أقلقت موظف إيران في الضاحية، وأصبح ينزعج من إغلاق الطرقات. نسي أنه قطع الطرق يوماً واحتل مطار بلاده! pic.twitter.com/GaGPSfZ5kn
— عضوان الأحمري (@Adhwan) October 25, 2019
كما حملت الكلمة دلالات التخوين، إذ أوضح أن الحركة الشعبية في الشارع لم تعد عفوية، بل حالة تقودها أحزاب معينة وتجمعات مختلفة معروفة بشخصياتها، مؤكدًا وجود تمويل في الساحات من بعض السفارات وهناك جهات تموّل قيادات من الحراك، وهو ما اعتبره مراقبون تخوينًا واضحًا للحراك قد يأتي بنتائج عكسية.
وقال الأمين العام لحزب الله: “هناك فئة تقود الحراك تضم وطنيين، ولكن هناك فئة ثانية تضم أحزابًا سياسية كانت في السلطة ولها تاريخها ومشروعها وارتباطاتها الخارجية، وهي فئة تضم تجمعات وتكتلات وكيانات سياسية جديدة شاركت في الانتخابات النيابية ودفعت أموالاً طائلة، وترتبط بسفارات وأجهزة مخابرات أجنبية”.
علاوة على نظرية المؤامرة التي سيطرت على جزء كبير من رسائل الأمس، إذ اعتبر أن “سلاح المقاومة” بات مستهدفًا في التظاهرات، مشيرًا إلى أن اهتمام الإعلام الإسرائيلي والخليجي الكبير بالاحتجاجات في بلاده يجب أن يثير التساؤلات، لافتًا إلى أن المطالب التي تُرفع اليوم ليست مطالب الفقراء، وتُستخدم بعض الساحات للتصويب على سلاح المقاومة، وقوى سياسية تركب موجة شعبية لتحقيق أهداف تتفاوت بين جماعة سياسية وأخرى.
تزامنًا مع كلمة نصر الله انطلقت مواكب سيارة في معاقل حزب الله بالضاحية الجنوبية لبيروت وبعلبك شرقًا وصور جنوبًا رافعة أعلام الحزب، للتعبير عن تأييدها لما قاله أمين حزب الله
وفي الأخير حرص نصر الله على أن لا يخلو خطابه الملغم بقنابل التهديد والتخوين من بعض نسائم المغازلة في محاولة لتهدئة الأجواء واستمالة الغاضبين، وذلك حين تطرق لما سماها “بعض الإيجابيات التي حققها الحراك” التي تمثل أهمها في ورقة الإصلاحات التي تكلم عنها رئيس الحكومة سعد الحريري قبل أيام، واعتبر زعيم حزب الله “الورقة الإصلاحية غير مسبوقة، وفيها مطالب مهمّة، وهي ورقة للتنفيذ وليست وعودًا أو حبرًا على ورق ولن تكون كذلك”، مضيفًا أن الحراك أوجد مناخًا يفتح الباب أمام القوى السياسية إذا كانت صادقة في محاربة الفساد والهدر والعمل للإصلاح، معتبرًا أن “هذا المناخ سيجعلها (القوى السياسية) أكثر جدية، ومن جملة هؤلاء الجادين حزب الله”.
كما دعا المتظاهرين إلى “تعيين قيادة تمثل مطالبهم ووفد يمثلهم والذهاب للتحاور مع رئيس الجمهورية”، مستدركًا “هذا لا يعني الخروج من الساحات، ابقوا بالساحات والميادين وفاوضوا تحت ضغط الشعب والاحتجاج، ولا أحد يطرح التفاوض لإخراج الناس من الساحات، لا مشكلة بهذا الموضوع”.
وتزامنًا مع كلمة نصر الله انطلقت مواكب سيارة في معاقل حزب الله بالضاحية الجنوبية لبيروت وبعلبك شرقًا وصور جنوبًا رافعة أعلام الحزب، للتعبير عن تأييدها لما قاله أمين حزب الله في خطابه، كما تظاهر مؤيدون للتيار الوطني الحر وللرئيس اللبناني في بلدة البطرون (جنوب مدينة طرابلس)، للتعبير عن دعمهم للرئيس.
الشارع يرد على نصرالله
رغم مساعي الترهيب التي بثها أنصار “حزب الله” و”حركة أمل” من خلال تجول أنصارهما حاملين الأعلام وبعض أنواع الأسلحة بين المتظاهرين، فإن ذلك لم يؤت ثماره، إذ جاء الرد سريعًا، سواء على تلك المسيرات أم خطاب نصر الله نفسه، إذ كان الرفض هالرد الرسمي للشارع.
ففي الشمال توافد المزيد من المتظاهرين إلى وسط ثاني أكبر مدينة في البلاد (طرابلس)، مؤكدين ضرورة رحيل كل الطبقة السياسية الحاكمة لأنها المسؤولة عن تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلاد، وذلك بعد انتهاء الكلمة المتلفزة، وهو ما أعطى الضوء الأخضر لبقية المدن بتوصيل ردها كذلك.
وبالفعل وفي محافظة بعلبك ـ الهرمل، التي تبعد نحو 83 كيلومترًا عن بيروت، اكتظت الشوارع بالمتظاهرين الرافضين لتهديدات نصر الله، علمًا بأن معظم مؤسسات تلك المحافظة تقع تحت سيطرة الحزب والحركة وهو ما يجعل التحرك فيها أمرًا فيه مغامرة واضحة ويحتاج إلى “جرأة كبيرة”.
وأصدر ناشطون من حراك بعلبك الذي يعاني التهميش الإعلامي، بيانًا، تحت عنوان “حزب الله يستخدم الورقة الأقذر في البقاع، والوضع بات ينذر بما لا تحمد عقباه”، وجاء فيه: “بالأمس خرج كبير المطلوبين للدولة اللبنانية في البقاع رئيس العصابة وتاجر المخدرات ربيب تنظيم حزب الله وصديق مسؤوليه (بمن فيهم الوكيل الشرعي) المدعو نوح زعيتر، ودعا البقاعيين للتظاهر اليوم الخميس (أمس) في ساحة دورس (الجبلي). واليوم الخميس (أمس الأول) نزل نوح زعيتر للتظاهر في ساحة الجبلي في دورس بحراسة مشددة من الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، ليكتشف أن الناس لم يتجاوبوا مع دعوته، وأن عدد المعتصمين في تلك الساحة لا يفي بالغرض، فأرسل ابنه إلى ساحة المطران في بعلبك، وهي الساحة التي هرب إليها المعتصمون الذين رفضوا مصادرة الحزب للحراك بعدما زرع في دورس كاميرات المراقبة وصار عناصره يتدخلون في توجيه تصريحات الناس”.
All my respect goes to this great people! ?? ?? ❤️ #لبنان__ينتفض #طرابلس #موطني
#شعب_لبنان_العظيم #بيروت_تنتفض #lebanonrevolution #Tripoli pic.twitter.com/IlShfz1H59— ??????? ??????|๛םבםב بــڔڇــۄ (@mberjus) October 25, 2019
وتابع البيان “وصل زعيتر الابن إلى ساحة المطران وطلب من المعتصمين – مهددًا بالسلاح – التوجه إلى ساحة الجبلي حيث ينتظر والده، وبدأ بكيل الشتائم للمعتصمين، إلا أنّ عددًا من ناشطي الاعتصام تصدوا له واتصلوا بوالده طالبين سحبه من الشارع حتى لا تتطور الأمور، وهنا سألوا زعيتر الأب عن الهدف مما يفعله، فأكد أنه يتعرض لضغوط من حزب الله للنزول إلى الاعتصامات وتهديد كل من يمكن أن يتجرأ على تجاوز السقف المرسوم من قبل التنظيم، خصوصًا في التعرض للرؤساء الثلاثة (عون وبري وسعد الحريري) وللأمين العام لحزب الله”.
خيبة الأمل التي شعر بها الشارع اللبناني بعد سماع خطابات الحريري ونصر الله وعون، كفيلة وحدها أن تبقي المشهد ملتهبًا
وأضاف البيان “وهنا أبلغه المعنيون أن هذا الأمر خطير وأنه قد يؤدي إلى مواجهة بين شارعين، وقد يحصل ما لا تحمد عقباه. فخرج نوح زعيتر مساء (الخميس) بفيديو مسجل يمجد فيه الرؤساء الثلاثة والسيد نصر الله ويهدد المعتصمين في بعلبك داعيًا إياهم لترك الساحات والنزول إلى بيروت في حال لم يلتزموا بالسقف المرسوم لهم”.
وعلى غرار طرابلس وبعلبك اكتظت ساحات العديد من المدن الأخرى بآلاف المتظاهرين الذين أعلنوا رفضهم لتهديدات نصر الله وتقاعس الحريري الذي سعى هو الآخر لمغازلة الشارع عبر التلويح بورقة استقالة الحكومة لكنه اشترط لذلك ضرورة التوافق على أسماء المرشحين للحكومة الجديدة، وهو الشرط الذي وصفه ناشطون بأنه “حقنة مخدرة” جديدة للمتظاهرين على غرار مهلة الـ 72 ساعة والورقة الاقتصادية.
ويراهن سياسيون ونشطاء على قدرة استمرار الحراك في تفتيت أواصر القوى السلطوية التي تراهن هي الأخرى على النفس القصير للتظاهرات وعدم قدرتها على الاستمرار أكثر من ذلك، داعين إلى استمرار الضغط من أجل استمرار الفعاليات، فالاحتجاجات المستمرة لم يسبق لها مثيل في طبيعتها ومداها في لبنان، على الرغم من أنها تلقائية وغير مركزية وغير منظمة.
وعلى الأرجح فإن خيبة الأمل التي شعر بها الشارع اللبناني بعد سماع خطابات الحريري ونصر الله وعون، كفيلة وحدها أن تبقي المشهد ملتهبًا في ظل تزايد رقعة الحراك يومًا تلو الآخر، وهو ما يجعل تحديد سيناريو بعينه أمرًا يجافي الموضوعية، فالخيارات يبدو أن جميعها متاح الآن، وتبقى الكلمة الفصل لصاحب النفس الطويل.