ترجمة وتحرير نون بوست
جميعنا نعلم أن الذكريات تتأثر بمرور الوقت، فما تتذكره عما فعلته بالأمس أفضل مما تتذكره عما فعلته باليوم نفسه قبل 3 سنوات، ومع ذلك فهناك بعض اللحظات التي تظهر في عقلك بعض الذكريات القديمة المنسية، ربما تزور منزل الطفولة القديم وتدخل غرفة نومك القديمة فتجتاحك موجة من الحنين إلى الماضي، فما الذي يثير تلك الذكريات وكيف تتذكر فجأة أشياء لم تفكر بها منذ عقود؟
يعتقد الباحثون أن سياق تكون الذكريات له دور مهم في تذكرها لاحقًا، هذه الفكرة تعرف باسم “نظرية ربط السياق” وهي تتلخص في 3 عناصر: تعلم السياق وتغير السياق وبحث الذاكرة، لنبدأ بالتعلم، من المعروف جيدًا أن التعلم يحدث في الدماغ من خلال عملية ارتباط، فإذا حدث “أ” مع “ب” فإنهما يصبحان مرتبطين، لكن نظرية ربط السياق تتحدث عن أكثر من ذلك، فـ”أ” و”ب” لا يرتبطان فقط ببعضهما البعض لكن بالسياق الذي حدثا فيه أيضًا.
فما السياق؟ إنه ليس فقط الموقع الجغرافي، إنه حالة ذهنية تتضمن أفكارك ومشاعرك وجميع الأنشطة الذهنية الأخرى المرتبطة بتلك اللحظة، فعندما تقرأ مثلاً تلك الفقرة، تحدث تغيرات في أفكارك ونشاطك الذهني مما يتسبب في تغير السياق.
نتيجة لذلك ترتبط كل ذاكرة بمجموعة مختلفة من حالات السياق، ومع ذلك فإن بعض حالات السياق ستكون مشابهة لبعضها البعض، ربما لأنها تشترك في نفس المكان أو الحالة المزاجية أو بعض العوامل الأخرى.
هذا التشابه بين السياقات ضروري عندما يتعلق الأمر باستعادة الذكريات، فعملية البحث عن الذكريات في عقلك تشبه إلى حد كبير البحث في جوجل، فمن المرجح أن تجد ما تبحث عنه إذا كنت تبحث بعبارات متطابقة نوعًا ما مع المحتوى الأصلي، خلال عملية البحث يصبح السياق الذهني الحاليّ مجموعة مصطلحات البحث، وفي أي موقف يتجول عقلك سريعًا في ذكرياتك للبحث عن أكثرهم تشابهًا مع السياق الحاليّ.
بسيط لكنه عميق
هذه الآلية بسيطة لكن آثارها عميقة، فوفقًا للنظرية فإنك عادة ما تتذكر الذكريات من السياق المشابه للسياق الحاليّ، ولأن سياقك الذهني يتغير دائمًا فإنه سيكون أكثر تشابهًا مع ذكرياتك الحديثة، وهذا يفسر أسباب صعوبة تذكر الأحداث القديمة، لكن الأحداث القديمة ليست منسية بشكل دائم، فإذا استطعت تغيير السياق ليتشابه مع تلك الذكريات المنسية فمن المفترض أن تصبح قادرًا على تذكرهم، ولهذا السبب تتدفق الذكريات القديمة عندما تدخل حجرتك في الطفولة أو تسير في مدرستك القديمة.
تم التأكيد على الذاكرة المعتمدة على السياق في تجربة بارعة أجريت عام 1975 حيث حفظ الغواصون قائمة من الكلمات ثم اختبروها على الأرض وتحت الماء، على الأرض تذكروا الكلمات التي تعلموها على الأرض بشكل أفضل، أما تحت الماء فكانوا أفضل في تذكر الكلمات التي تعلموها تحت الماء.
هذه الظاهرة ليست مرتبطة فقط بالموقع الجغرافي، فربما تلاحظ أنه عندما تشعر بالحزن بشأن أمر ما فإنك تميل إلى تذكر بقية الأحداث الحزينة في حياتك، يرجع ذلك إلى أن حالتك المزاجية ومشاعرك من ضمن السياق الذهني أيضًا، أكدت التجارب أن الذاكرة تتعزز عندما يتوافق مزاجك الحاليّ مع المزاج التي تعلمت فيه المعلومات.
أكدت دراسات قيمة أجريت خلال القرن أننا أفضل في تذكر الأشياء إذا مررنا بها في أوقات مختلفة أكثر من تكرارها في جلسة سريعة، هذه أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل الدراسة المنتظمة الروتينية أفضل في الإعداد للاختبارات وأكثر فاعلية من الدراسة على عجل.
وفقًا للنظرية فإن المادة التي تتكرر سريعًا ترتبط بحالة واحدة من السياق، أما المادة التي تتكرر في أوقات وأحداث مختلفة فإنها ترتبط بعدة حالات مختلفة من السياق، يظهر أثر ذلك واضحًا فيما بعد عندما تجلس في قاعة الاختبارات وتحاول أن تتذكر الصيغة الكيميائية لبرمنجنات البوتاسيوم لأن سياقك الحاليّ أكثر توافقًا مع أحد السياقات التي راجعت فيها دروس الكيمياء.
السياق داخل العقل
تستطيع نظرية ربط السياق تفسير مجموعة أخرى من الظواهر مثل تأثير تلف الدماغ على الذاكرة، فالأشخاص الذين يعانون من تلف في منطقة “الحصين” التي تقع وسط الدماغ يصبحون غير قادرين على تكوين ذكريات جديدة، لذا نعتقد أن هذا المكان هو الذي يحدث فيه ربط السياق خاصة أن “الحصين” يستقبل معلومات من جميع مناطق العقل الأخرى مما يسمح بتكوين روابط بين مختلف المشاهد والروائح والمشاعر والأحاسيس الجسدية.
تقترح نظرية أخرى منافسة بعنوان “توحيد النظم” أن الذكريات تُخزن بشكل مبدأي في منطقة الحصين لكنها تُنقل وتُعزز في مناطق أخرى بالدماغ بمرور الوقت، هذه النظرية تدعمها حقيقة أن ذاكرة المواد الجديدة تصبح أفضل عندما تحصل على قسط من الراحة بعد تعلمها، فالوقت الذي تقضيه في الراحة يمنح العقل فرصة لتوحيد الذكريات الجديدة.
ومع ذلك فنظرية ربط السياق يمكنها تفسير تلك الفائدة، فالراحة الفورية بعد التعلم بدلاً من الاستمرار في نقل الحقائق إلى عقلك يعني أن ذكريات أقل ستتشارك نفس السياق مما يجعلهم أسهل في التمييز عند استرجاع هذا السياق لاحقًا.
هذا الأمر يفسر أيضًا أهمية الحصول على قسط من الراحة قبل التعلم وبعد، ويدعم النصيحة المجربة للطلاب المجتهدين في كل مكان: لا تنس الحصول على قسط وافر من النوم!
المصدر: ذي كونفرسايشن