منذ تفجير الفنان المقاول محمد علي، صاحب شركة أملاك العقارية، قنابله المدوية التي حركت المياه الراكدة في المشهد المصري قبل عدة أسابيع، حين كشف النقاب عن تورط بعض المؤسسات التابعة للقوات المسلحة المصرية في إهدار مال عام، تصاعد الحديث عن العلاقة بين المقاولين والسلطة على مدار الحقب السياسية التي مرت بها مصر منذ إعلان الجمهورية 1953.
وبعيدًا عن تباين سيناريوهات التأويل لخروج صاحب شركة أملاك عن النص التقليدي المتبع منذ عقود طويلة، فإن الخلاف بينه وبين شركائه في الجيش يأتي على رأس الأسباب التي دفعت به إلى فضح الأمر بعد فترة عمل دامت معهم قرابة 15 عامًا، كان شريكًا وحليفًا لهم في المكتسبات.
حرص النظام الحاكم في مصر منذ الإطاحة بالملكية عام 1952 على تعزيز سلطات الجيش كونه العمود الفقري لأي نظام، بدءًا من عهد جمال عبد الناصر وأنور السادات مرورًا بفترة حسني مبارك وصولاً إلى الحقبة الحاليّة من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهي التحركات التي تعاظمت في السنوات الأخيرة بصورة غير مسبوقة.
على مدار العقود السبع الماضية تعززت العلاقة بين النظام والمقاولين على وجه التحديد كون الأخير ضلعًا مهمًا في ترسيخ أركان الأول وذلك عبر العديد من المشروعات التي كانت تعكس حجم إنجازات أي سلطة حاكمة
وكان مرافقة أصحاب المال والأعمال ومشاطرتهم مشروعاتهم أحد أبرز الأذرع لتعزيز نفوذ الجيش ومن ثم تقوية شوكة النظام، ربما لم يحدث ذلك بالشكل الكامل إبان العهد الناصري، لكن سرعان ما تبدل الأمر مع تولي السادات المسؤولية، مستفيدًا من الانفتاح الاقتصادي الذي فتح الرئيس بابه على مصراعيه.
وعلى مدار العقود السبع الماضية تعززت العلاقة بين النظام والمقاولين على وجه التحديد كون الأخير ضلعًا مهمًا في ترسيخ أركان الأول وذلك عبر العديد من المشروعات التي كانت تعكس حجم إنجازات أي سلطة حاكمة من جانب، ومن ثم تسويقه جماهيريًا، ومن جانب آخر، كان المجال خصبًا لتحقيق أرباح طائلة لأباطرة النظام وشركاء المقاولات في آن واحد.
عبد الناصر.. الأبناء كلمة السر
لم يكن جمال عبد الناصر من المولعين بمجتمع رأس المال، خاصة في ظل ما كان يعتنقه من مبادئ اشتراكية تحول بينه وبين هذا العالم البعيد نسبيًا عن أحلام الرجل، تعمقت هذه الفجوة مع قرارات التأميم التي وضعت الزعيم الراحل في القائمة السوداء لرجال الأعمال وأصحاب النفوذ الاقتصادي في هذا الوقت.
ربما كان أبناء ناصر أكثر براجماتية منه في التعاطي مع مجتمع الأعمال والمقاولات على وجه التحديد، فبعد وفاة الرجل أنشأ أبناؤه عددًا من الشركات في قطاعات المقاولات والتجارة والاستيراد والتصدير والبورصة والطباعة والسياحة والفنادق والإعلام والطيران والخدمات الجوية، تُقدر ميزانياتها بنحو 80 مليار جنيه، وساعدهم على ذلك صداقاتهم القوية بكبار المستثمرين.
ورغم تعدد المجالات الاقتصادية للأبناء، فإن الأصغر عبد الحكيم كان الأكثر شغفًا بمجال المقاولات، إذ نجح في فترة قصير بتأسيس إمبراطورية اقتصادية، مستغلًا فترة الانفتاح واسم والده، وكون شركة “مودرن كونتراكتورز” للمقاولات عام 1977، تتركز معظم أعمالها مع الحكومة، فيما تتوسع للعمل بالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ولندن، ولها سابقة أعمال بلبنان وسوريا.
حسن علام.. صديق الجميع
يتصدر رجل الأعمال الشهير حسن محمد علام (1903- 3 من يناير 1976)، أحد رواد البناء الحديث في مصر، قائمة المقاولين أصحاب العلاقات القوية مع السلطة، البداية كانت عام 1938 حين أصيب الملك فاروق في أثناء طريقه إلى الإسماعيلية في حادث سيارة، ونقل إلى قرية قريبة من القصاصين ليُعالج في منشأة طبية صغيرة.
ونتيجة لهذا الحادث أمر الملك ببناء مستشفى في هذه المنطقة، وكان المشروع هنا من نصيب شركة حسن علام، ليضع الرجل أول أقدامه على خريطة المقاولات المصرية، ليحتكر بعدها وبصورة كبيرة معظم المشروعات في هذا المضمار منها مستشفى الميبارا في بورسعيد ومحطة كهرباء في دمنهور وأول مصفاة مصرية لتكرير النفط في السويس.
كان علام يتمتع بشبكة علاقات واسعة بجانب الملك مع بعض الضباط في الجيش المصري، ففي الأربعينيات أقدم أنور السادات بينما كان هاربًا من الاضطهاد السياسي على العمل في الشركة ومن ثم حصل على وظيفة سائق شاحنات، ونتيجة لهذه العلاقة حافظت الشركة على نفوذها حتى بعد رحيل الملك.
بعد ثورة 1952، واصلت الشركة ازدهارها وساهمت في إنشاء العديد من المشروعات القومية منها بعض الطرق الرئيسية على رأسها: الإسماعيلية – العريش، السويس – مرسى علم، الإسكندرية – مرسى مطروح، بجانب مشروعات أخرى عامة من بينها كاتدرائية كبيرة وبعض المساجد.
لم تتوقف الشركة بعد رحيل علام، إذ سار أبناؤه على ذات النهج، معززين علاقتهم بالسلطات الحاكمة، أيًا كانت، سواء في أيام مبارك أم حتى السيسي
لكن رغم هذه العلاقة وقعت الشركة أسيرة قرار التأميم الذي أصدره عبد الناصر عام 1961، لتسمى بعد ذلك “النصر العامة للمقاولات – حسن محمد علام” حيث فقد علام ملكيته للشركة وبات مديرًا عامًا لها فقط، وبعد رحيل ناصر وبداية عصر الانفتاح استعاد الرجل نفوذه مرة أخرى.
علاقته بالسادات ساعدته في بناء شركة أخرى تحت اسم “أبناء حسن علام” وذلك عام 1975، هذا بجانب الدخول في مشروعات أخرى، بعضها خارج مصر، آخرها تقديم الشركة لعرض تنفيذ مشروع شبكة الصرف الصحي في مكة المكرمة، بالمملكة العربية السعودية، لكن حسن علام لم يعش ليرى نتيجة المناقصة، إذ وافته المنية عام 1976.
لم تتوقف الشركة بعد رحيل علام، إذ سار أبناؤه على ذات النهج، معززين علاقتهم بالسلطات الحاكمة، أيًا كانت، سواء في أيام مبارك أم حتى السيسي، إذ نجحت الشركة في اقتناص عشرات المشروعات في المدن الجديدة تحت إشراف الجيش، بداخل مدينة العلمين الجديدة والعاصمة الإدارية الجديدة والمنصورة الجديدة بتكلفة إجمالية 24 مليار جنيه تقريبًا، بخلاف مشروعاتها فى مجال الطاقة والبتروكيماويات، فيما وصل حجم الأعمال الإجمالية للشركة بالعاصمة الإدارية 10 مليارات جنيه وفق ما كشف مدحت توفيق، مدير تطوير الأعمال بالشركة.
ظلت العلاقة بين الشركة والنظام على أكمل وجه، إلى الحد الذي وصلت فيه الأمور إلى فرض حالة من العسكرة على مقدرات الشركة، وهو ما أدى إلى حالة من الاستياء بين جموع العاملين بها، لا سيما بعد تعيين ما يقرب من 60 لواءً بالجيش في مناصب قيادية بالشركة على حساب الخبرات الموجودة بها، وفق ما ذكرت بعض المصادر.
المعلم والسادات
ثم يأتي رجل الأعمال عثمان أحمد عثمان (6 من أبريل 1917 – 1 من مايو 1999) صاحب شركة “المقاولون العرب” الذي اشتهر بلقب “المعلم”، تقلد العديد من المناصب بجانب رئاسته للشركة التي تعد واحدة من أكبر شركات المقاولات في الشرق الأوسط وكان لها دور بارز في بناء السد العالي.
كانت تربطه علاقة قوية بالرئيس السادات، بدأت إبان العدوان الثلاثي على مدينة بورسعيد، حيث تولت المقاولون العرب تعمير المدينة، فنشأت بينهما صداقة جيدة، تعززت بصورة أكبر حين تحولت إلى علاقة مصاهرة، حيث تزوجت الابنة الصغرى للرئيس الراحل “جيهان”، من محمود عثمان ابن المهندس عثمان أحمد عثمان.
عثمان أحمد عثمان والسادات ومبارك
ومن هنا بات عثمان رفيق السادات ومستشاره وصهره، وصل قربه إلى حد مشاركته للرئيس في عدد من القرارات الاقتصادية حتى إن الكاتب الكبير موسى صبري، قال إن الموافقة على أي مشروع اقتصادي كانت تمر من بين أصابع عثمان أحمد عثمان، لكن صراحة عثمان للسادات كشفت عن عداء شديد للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي بدا واضحًا في كتابه “صفحات من تجربتي” الصادر عام 1981، ووجه فيه انتقادات لاذعة لعبد الناصر بسبب تأميم الأخير شركة المقاولون العرب التي يمتلكها عثمان.
كانت المقاولون العرب تتمتع بسلطة كبيرة احتماءً بالسادات، إذ كان من الصعب توجيه أي إدانة أو انتقاد لها في هذه الفترة
كان المعلم ضمن الوفد الذي سافر مع السادات في أثناء رحلته إلى “إسرائيل”، كما تولى العديد من المناصب السياسية في عهد السادات، فعُين وزير في ثلاث وزارت ونائب لرئيس الوزراء، فكان وزيرًا للتعمير في 28 من أكتوبر 1973، ووزيرًا للإسكان والتعمير في سبتمبر 1974 في وزارة الدكتور عبد العزيز حجازي، وفي مايو 1976 تم تعينه وزيرًا للإسكان والتعمير في وزارة ممدوح سالم، وكان الرئيس الراحل يأخذ رأيه في مختلف الأمور حتى السياسية مما وضع تلك العلاقة موضع النقد، كما صنفته مجلة فوربس الأمريكية من ضمن 400 شخصية ثرية على مستوى العالم في السبعينيات.
كانت المقاولون العرب تتمتع بسلطة كبيرة احتماءً بالسادات، إذ كان من الصعب توجيه أي إدانة أو انتقاد لها في هذه الفترة، وهو ما ذكره الكاتب الصحفي عبد العظيم حماد، الذي قال في شهادته عن العلاقة بين المقاولين والسياسة إنه في سبعينيات القرن الماضي، وبينما كان عثمان أحمد عثمان في ذروة قربه من الرئيس المصري وقعت كتلة خرسانية من كوبري أكتوبر على سيارة مواطن فهشمتها، وفي اليوم التالي نشرت الصحف المصرية هذا الخبر بصيغته الحقيقية، لكن في اليوم الذي يليه فوجئ الشارع المصري بالصحف تنفي الواقعة بالمرة، مؤكدة أن الكتلة لم تسقط من فوق كوبري أكتوبر، وقد علق حماد على هذا الموقف قائلاً: “لأن المقاول المقرب من السلطة لا يخطئ”.
هشام.. ومبارك والسيسي
ثم يأتي هشام طلعت مصطفى (المولود في 9 من ديسمبر 1959)، رئيس مجموعة شركات طلعت مصطفى، واحدة من أكبر شركات المقاولات في الوقت الراهن، ليكمل تلك القائمة، إذ كانت تربطه علاقات قوية بنظام مبارك، لا سيما نجليه جمال وعلاء، إذ كانا شريكيه في كثير من المشروعات.
علاقته الجيدة بأسرة مبارك مهدت الطريق أمامه لتحقيق شهرة واسعة النطاق، خاصة بعدما حصل على العديد من الامتيازات الكبيرة التي لم يحصل عليها الكثيرون من أبناء مجاله، فيما بات بعد ذلك أحد أضلاع لجنة السياسات بالحزب الوطني الديمقراطي الحاكم وقت مبارك.
ارتبط اسمه بالقضية الشهيرة المعروفة باسم “قضية سوزان تميم” إذ اتهم بالتورط في قتل المطربة اللبنانية في الـ28 من يوليو 2008 في شقتها بإحدى مناطق مدينة دبي، وذلك عن طريق تجنيد أحد الضباط ويدعى محسن السكري لارتكاب بتلك الجريمة، وقضت محكمة جنايات جنوب القاهرة بالتجمع الخامس، بجلسة 28 من سبتمبر 2010 بسجنه 15 عامًا.
تبدو العلاقة بين المقاولين والسياسة في مصر، علاقة تقوم على المصالح المشتركة وتبادل المنفعة
لم يكن هشام كغيره من المسجونين، إذ نشرت بعض الصحف المحلية المصرية أن رجل الأعمال المقرب من مبارك كان يتمتع بنفوذ حتى داخل السجن الذي سمحت سلطاته باقتناء جهاز تكييف نقال وتليفزيون، وتهيئة غرفة خاصة لمباشرة أعماله، فيما منح سكرتيره الخاص تصريح دخول يومي للسجن.
التواصل بين صاحب مجموعة طلعت مصطفى والسلطات المصرية لم يتوقف يومًا واحدًا، وهو ما تجسده ملابسات الإفراج عنه رغم عدم قضائه مدة الحبس، إذ فوجئ المصريون صبيحة 23 من يونيو/حزيران العام الماضي، بالإفراج عنه في سياق عفو رئاسي عن 500 مسجون، كان من بينهم إمبراطور المقاولات المصرية بدعوى أن حالته الصحية غير مستقرة (إفراج صحي).
قرار أثار الكثير من التساؤلات في الشارع المصري خاصة بعد ظهوره خلف السيسي في أحد مؤتمرات الشباب السابقة، وهو ما صعد من بورصة التكهنات التي تشير إلى دفعه بعض المليارات ثمنًا للإفراج عنه، فيما ذهبت أقوال أخرى إلى منحه الجيش بعض الامتيازات الخاصة بمشروعات تقوم بها شركته، وإن لم يتسن لنا التأكد من صحة تلك السيناريوهات فإن مسألة الإفراج عنه ظلت لغزًا غامضًا للمهتمين بالشأن العام في مصر.
وهكذا تبدو العلاقة بين المقاولين والسياسة في مصر، علاقة تقوم على المصالح المشتركة وتبادل المنفعة، إذ تمهد شركات المقاولات الطريق أمام السلطات لترسيخ أركانها وتعزيز نفوذها الاقتصادي، وعلى الأخيرة أن تحمي تلك الشركات وأصحابها دون التخلي عنهم إلا حين يصل الطريق بينهما إلى نفق مسدود.