نظرية جديدة يروجها الإعلام الخليجي هذه الأيام بشدة بشأن الحرب اللاتناظرية أو “الحرب غير المتكافئة” (Asymmetric warfare) أو كيفية استغلال نقاط القوة الذاتية، ضد خصم لديه تفوق عددي أو تقني أو عسكري، والقدرة على الانتشار أسرع وأشمل، ورسم حدود دعاية أوسع انتشارًا، وتدشين خطوط دفاع خلفية قادرة على الحسم دون اللجوء للمواجهة المباشرة مع العدو.
راجت هذه الفكرة بشدة في الإعلام الخليجي، بالتزامن مع زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، للسعودية والإمارات الأسبوع الماضي، وكان واضحًا أن هناك اهتمامًا من أعلى، بالتركيز على هذه الفرضية، لإثقال أجهزة الدولة بها، وهنا السؤال: من العدو الذي لا تقدر عليه الدول الخليجية، وتريد التعامل معه عن بعد، مع أنها تروج منذ زمن في نفس وسائل الإعلام، عن قوة السلاح الخليجي الصاعد والجيوش المدججة بأحدث العدة والعتاد العسكري التي لا تقهر، والبعض أكد أن السعودية قادرة على ضرب دولة مثل إيران عسكريًا، وتدميرها في نصف ساعة فقط؟
ما الحرب اللاتناظرية؟
هي حرب غير متكافئة، تضم إستراتيجيات وتكتيكات غير تقليدية، تتبناها إحدى القوى عندما تكون قدراتها العسكرية غير متكافئة مع أعدائها، والحرب اللاتناظرية لها أشكال كثيرة، منها حروب العصابات التي تندلع بين الثوار المدججين بالسلاح والجيوش التقليدية، فيلجأ الأضعف إلى تكتيكات من نوع مختلف مثل الخطف والتفجيرات الانتحارية والحروب السيبرانية.
في الأدبيات العسكرية، النصر في الحروب لا يذهب دائمًا إلى القوة العسكرية المتفوقة، وما ينصف هذه الفرضيات في الواقع هزيمة القوى الاستعمارية على مدار التاريخ أمام قوى شعبية غير متكافئة معها.
في العصر الحديث، هزمت القوى المحلية في بعض الأحيان القوى الغربية التي كانت تقاتل في البلدان النامية، على الرغم من التباينات الهائلة من حيث القوة العسكرية التقليدية واضطرت القوى الاستعمارية على إثر الضربات غير التقليدية لها، للانسحاب من الجزائر والهند وغيرهما من البلدان.
الشائع من استخدام هذه النظريات في الوقت الحاليّ، يسمى بالتهديد غير المتماثل، وهو مصطلح يشير إلى توازن غير متكافئ بين القوى التي تعادي بعضها
هُزم الجيش الفرنسي في فيتنام، هزيمة ساحقة بمعركة ديان بيان فو عام 1954، وبعد نحو عقدين من تورط الولايات المتحدة في نفس الحرب، أجبرت القوى الاجتماعية والسياسية في الداخل الولايات المتحدة على الاعتراف بالهزيمة وسحب قواتها.
أما الشائع من استخدام هذه النظريات في الوقت الحاليّ، يسمى بالتهديد غير المتماثل، وهو مصطلح يشير إلى توازن غير متكافئ بين القوى التي تعادي بعضها، وبالتالي يرغب الطرف الأقل قدرة على المواجهة المباشرة، في شن هجمات غير قابلة للكشف، وبمجرد وقوعها، من المستحيل تحديد مصدرها، وإن كان الموضوع لا ينحصر على الضعفاء فقط، بل يستخدمه الأقوياء الآن على نحو أكثر انتشارًا وبتقنيات ووسائل تخفي أعلى وأكثر حسمًا.
إيان كارنجان، وهو أحد الخبراء في تحليل الحروب السيبرانية، يرى أن الخصم الأضعف في الحرب اللاتناظرية، يركز على ثغرة واحدة من نقاط الضعف لدى الخصم، وهذا يعارض التهديدات القتالية التقليدية التي تتطلب المزيد من التخطيط والوسائل المالية والتنفيذ الجيد والتنسيق من خلال الجماعات العسكرية.
عند النظر في التهديدات غير المتماثلة في سياق الحرب السيبرانية، من الضروري التفكير في اتخاذ تدابير مضادة، وكيف نكافح تهديدًا لا يمكننا رؤيته، يوضح كارنجان أهمية تعزيز قوة عاملة أكثر أمانًا في مجال الأمن السيبراني، ويمكن أن تكون مجهزة بشكل أفضل لاكتشاف هذه التهديدات وتخفيفها، وحتى يحدث ذلك لا بد من عقليات قادرة على إدارك التهديدات غير المتماثلة، التي يجب شنها والانتصار من خلالها عبر اتباع نهج متعدد الأوجه.
إيران.. زعيم المنطقة في الحروب غير المتكافئة
يمكن القول إن إيران السيد المتوج في استخدام هذه التكتيكات بالشرق الأوسط، فمع ارتفاع حدة الحرب الكلامية بين الولايات المتحدة وإيران، وتعزيز الحشود العسكرية الأمريكية على حدودها، وتصاعد التوتر في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام وفي الخليج بشكل خاص، والبيانات الرسمية الساخنة، التزم كلا الطرفين كثيرًا بعدم جر الثاني إلى مواجهة عسكرية، وبقيت الأساليب اللاتناظرية تحكم الموقف.
ومهما كانت قوة إيران، إلا أنها بالطبع لا تملك القدرات اللازمة التي تمكنها من خوض حرب تقليدية مع الولايات المتحدة، كما أن أمريكا في المقابل لا تريد الانزلاق إلى مستنقع لا نهاية له، وأمام خصم عقائدي غير تقليدي، لكن في المقابل امتلاك إيران لأدوات الحرب اللاتناظرية، جعلتها قادرة على تحدي واشنطن.
الإتقان الذي وصلت إليه القوات الإيرانية في الحروب اللاتناظرية، جعلها قادرة على تنفيذ هجمات إلكترونية على 50 مؤسسة في 16 دولة بالعالم، بجانب اختراق حسابات المعارضة الإيرانية كافة وعزلها عن العالم
إحدى أدوات هذه الحرب اللاتناظرية، نقل إيران للمعركة مع أمريكا بعيدًا عن أراضيها، بعد توسعها الإقليمي، حتى أصبح مناصرو النظام الإيراني في لبنان والعراق وسوريا واليمن وفلسطين، ضمن مصادر القوة الإيرانية، للرد على أي ضغط أو اعتداء يطولها من الخارج.
في المقابل، توجه إيران ضربات منخفضة المستوى، لا تُمكّن أعداءها من تكوين حجج تخولها من رد فعل كبير ومدمر، مثل استهداف ناقلات بحرية أو مواقع نفطية سعودية أو حتى إطلاق صاروخ كاتيوشا بالقرب من مواقع أمريكية، بقدرة عالية من الاحترافية، تمكنها من التخفي، وعدم كشف هويتها ولا مسؤوليتها عن مثل هذه العمليات، بهدف إيقاف الضغط الأمريكي المتصاعد عليها.
وكذلك إرسال رسائل واضحة للبلدان الإقليمية التي تعاديها، عن قدرتها على الاستهداف والمواجهة بشتى الطرق، وقد تسفر هذه المواجهات الغامضة التي تتسبب في خسائر كبيرة وباهظة، عن تدمير الروح المعنوية للخصم، فإذا كانت عمليات استخباراتية محدودة تحدث كل هذا الدمار على شاكلة تدمير أغلب المصافي النفطية السعودية قبل أسابيع، فما الحال إذن إذا اندلعت حرب مفتوحة بين الطرفين!
الإتقان الذي وصلت إليه القوات الإيرانية في الحروب اللاتناظرية، جعلها قادرة على تنفيذ هجمات إلكترونية على 50 مؤسسة في 16 دولة بالعالم، بجانب اختراق حسابات المعارضة الإيرانية كافة وعزلها عن العالم، والسيطرة على ما يقرب من 300 ألف جهاز كمبيوتر داخل إيران عام 2009، وتنفيذ عمليات قرصنة على موقع التواصل الاجتماعي وخاصة تويتر، بجانب موقع بايدو “محرك البحث الصيني” وموقع صوت أميركا.
يحدث ذلك في الوقت الذي لا تزال البلدان العربية، ومنها المعادية لإيران، على سبيل المثال، الأكثر فقرًا بالمنطقة، في إنشاء جيوش إلكترونية محترفة، وليست دعائية غوغائية، وفق معايير الدفاع والردع السيبراني الذي يمكنها من مناطحة إيران في هذا الباب.
ما نوع الخبرة التي يحتاجها الخليج من روسيا؟
الإعلام الخليجي الذي غطى زيارة بوتين، ألقى الضوء على مقومات الدولة الروسية في مجالات الحروب غير المتناظرة، ورغم قوة الولايات المتحدة وحلفائها، في مثل هذه المجابهات، ولكن الطريقة التي تتعامل بها روسيا، يحتاجها الخليج حاليًّا.
يبحث الخليج عن هذا السلاح الإستراتيجي، لمد أجهزة الدول الخليجية به، من أجهزة استخباراتية تحكم قبضتها على البلاد، وتعرف كيف تصمم هجمات بالغة الدقة بالخارج، وإعلام يحتاج إلى معرفة كيفية وأساليب المواجهة على هذه الأرضية
التغطية السريعة على اغتيال عناصرها الاستخبارية التي اعتبرتها روسيا مارقة، بعد لجوئهم السياسي إلى بريطانيا، والزوبعة التي أثيرت حينها وانطفأت سريعًا، وأدوات حسم الصراع في شبه جزيرة القرم والسيطرة الروسية عليه، دون تدخل عسكري مباشر، وكيفيات مواجهة التآمر الدبلوماسي، وكذلك مواجهة حرب فرض العقوبات بأنواعها، والتعامل الحاسم المعني مع حشود الرأي العام العالمي ضد روسيا.
هذه الأسئلة ربما أهم ما يبحث الإعلام الخليجي عن إجابات لها، للاستفادة من خبرة الروس في الحروب اللاتناظرية، خاصة بعدما كادت أن تتسبب عملية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، في خنق النظام السياسي السعودي، وتدمير المستقبل السياسي لولي العهد محمد بن سلمان، قبل أن تتماسك السعودية بدعم حلفائها في المنطقة والعالم، ولكن بعد لحظات عصيبة وعزلة دولية عاشتها على مدار أشهر بعد الحادث.
يبحث الخليج عن هذا السلاح الإستراتيجي، لمد أجهزة الدول الخليجية به، من أجهزة استخباراتية تحكم قبضتها على البلاد، وتعرف كيف تصمم هجمات بالغة الدقة بالخارج، وإعلام يحتاج إلى معرفة كيفية وأساليب المواجهة على هذه الأرضية، التي مكنت الإعلام الروسي من التصدي لاتهامات الاعلام الأمريكي لروسيا بمحاولة إسقاط الديمقراطية في العالم، والدفاع عن البلاد خلال اتهامها بتدبير عمليات استخباراتية وتصفية جسدية خارج حدود روسيا، والتدخل كثيرًا في السياسة الداخلية للولايات المتحدة.
وهي خبرات بالطبع يفتقدها الواقع الخليجي الذي يحتاج إلى التزود بأساليب الجدل وكيفيات تطوير الهجوم وقلب الطاولة على الخصوم، للدفاع عن حكوماته من مستقبل مجهول وغير مأمون العواقب!