أدركت للمرة الأولى معنى أن أكون سورية ولي وطن خاص في الـ19 من عمري، يوم انطلقت شرارة الثورة السورية قبل 14 عامًا وهتفتُ مع الناس: “واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد”.
حتى ذلك الوقت، كنتُ أكثر استغراقًا في القضية الفلسطينية وأرى نفسي جزءًا منها، وقبل ذلك تعلمت من عائلتي والكتب والأشرطة المنوعة أنني أنتمي لأمة الإسلام، هذه الهوية التي كانت تزاحم ما أتعلمه في المدرسة عن كوني عربية فقط، بينما أعتقد أن هويتي السورية ترسخت حين هاجرت من بلدي، وتعلمت أن أعرّف عن نفسي في كل مكان بأنني: سورية.
تتميز سورية بوجود أغلبية سكانية عربية سنية مع طيف واسع من الأعراق والأديان والمذاهب التي تعيش جنبًا إلى جنب على هذه البقعة الجغرافية منذ زمن بعيد، وفي فترة ضعف الدولة العثمانية ومن ثم انهيارها وجدت القوى الاستعمارية آنذاك في هذا التنوع العرقي والطائفي بابًا للتدخل في المشرق بذريعة حماية الأقليات المسيحية. قسمت فرنسا منطقة الشام عام 1920 المنطقة إلى دول طائفية وعرقية، دولة العلويين في الساحل ودولة الدروز في الجنوب ودولة مسيحية في لبنان ودولة دمشق ودولة حلب.
ويصف الدكتور برهان غليون في بودكاست حول الطائفية في سورية هذه المرحلة بأنها كانت بداية الرهان السياسي على الطائفية من أجل توسيع نفوذ الدول الأوروبية. لكن الشعب السوري آنذاك قاوم هذا التقسيم الطائفي والعرقي، أولًا بالمؤتمر العربي ومن بعدها بالمؤتمر القومي السوري الذي ضم مثقفين ومفكرين سوريين من جميع الطوائف ورفضوا مقترح الدول الطائفية وتشكلت سورية بحدودها الحالية بعد الاستقلال عن فرنسا.
إلا أن حافظ الأسد أعاد إحياء الطائفية في سورية عقب وصوله إلى السلطة، إذ جعلها ركيزته الأساسية في الاستيلاء على الدولة وإحكام سيطرته على البلاد، كما استخدم العرقية الكردية على سبيل المثال كورقة ضغط في علاقاته مع العراق وتركيا، مع حرمانهم من حقوقهم المدنية والسياسية والثقافية في سورية.
وبين استقلال سورية وبداية حكم آل الأسد الطائفي، لم تشهد البلاد فترة استقرار كافية لترسيخ هوية جامعة لأبنائها، واليوم وبعد تحرير دمشق يخطو الشعب السوري خطواته الأولى في طريق وعر نحو بناء هوية عليا.
ما هي الهوية الوطنية الجامعة؟
تُعرف أيضًا بالهوية العليا وهي الإطار الذي يضم جميع أفراد المجتمع في كيان مشترك، متجاوزًا الفوارق العرقية والدينية والمناطقية، ودون إلغاء التنوع أو فرض وحدة قسرية. وهي ليست مجرد جنسية تحدد الانتماء للدولة، بل هي رابطة ثقافية وشعورية تعبر عن وعي جماعي موحد، يشكل أساس العلاقات بين الأفراد والدولة. تتجلى هذه الهوية العليا في المؤسسات والثقافة العامة والتعليم، وتعمل على تعزيز الانتماء إلى مجتمع واحد.
أهمية الهوية الوطنية الجامعة
في مرحلة ما بعد النزاع، لا يكون بناء الهوية الوطنية مشروعًا ثقافيًا فحسب، بل هو حجر الأساس لأي استقرار سياسي واجتماعي حقيقي، تُظهر الأبحاث الأكاديمية أن غياب هوية وطنية جامعة يترك المجتمعات عُرضة للانقسامات العرقية والطائفية، ما يجعل النزاعات قابلة للاشتعال في أي لحظة.
في هذا السياق، يرى العالم السياسي في جامعة كولومبيا، أندرياس ويمر في كتابه “بناء الأمة، لماذا تتحد بعض الدول بينما تتفكك أخرى؟” أن نجاح أي مشروع لبناء الأمة يعتمد على ثلاثة محاور أساسية: مؤسسات قوية تقدم الخدمات بعدالة، ولغة وطنية مشتركة تعزز التواصل، ومجتمع مدني نشط يخلق فضاء يتجاوز الهويات الأولية نحو انتماء وطني أوسع.
أما أستاذ الدراسات الدولية بينيديكت أندرسون فيلفت في كتابه “المجتمعات المتخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها” إلى أن الهوية الوطنية ليست مجرد امتداد طبيعي للتاريخ، بل هي “مجتمع متخيّل” يُعاد تشكيله عبر الروايات المشتركة والذاكرة الجماعية.
في الحالة السورية، حيث خلفت الحرب انقسامات عميقة وندوبًا في النسيج الاجتماعي، فإن إعادة بناء الهوية الوطنية لا يمكن أن تكون ترفًا أو شعارًا سياسيًا، بل ضرورة مصيرية. إذ لا استقرار حقيقي دون عقد اجتماعي جديد، يعترف بالتنوع لا بوصفه تهديدًا، بل كمصدر قوة، ويعيد تعريف الانتماء الوطني بعيدًا عن الاصطفافات الطائفية والسياسية الضيقة.
وفي حديثه لبودكاست ما بعد الأسد حول كيف يمكن للسلطات الحاكمة الجديدة في دمشق إعادة تصور المواطنة السورية بعد الأسد وبناء دولة شاملة لجميع السوريين. قدّم الخبير المتخصص في بناء الدولة وإنشاء الهوية الوطنية في الشرق الأوسط، الدكتور سلطان العامر تحليلًا معمقًا لمختلف التصورات حول القومية السورية، مستعرضًا ثلاث رؤى رئيسية تعكس اتجاهات متباينة في فهم الهوية الوطنية ومستقبل الدولة:
الأولى تقوم على اعتبار سورية دولة عربية سنية أموية، وهي مقاربة نشأت خلال الحرب كاستراتيجية مضادة لإيران لكنها تطورت إلى مشروع قومي مستقل. يرى أنصار هذا التوجه أن الأغلبية السنية هي المالك الطبيعي للدولة ويجب أن تقودها، يدعمون موقفهم بحجج عدة، منها أن السنة يشكلون الأغلبية العددية، وأنهم الأكثر تضررًا من نظام الأسد، كما أنهم هم من حرروا البلاد، وتحظى هذه الرؤية بدعم الجماعات السنية المسلحة وبعض الفاعلين الإسلاميين في المنطقة.
أما الثانية، فتؤطر سورية كدولة متعددة الطوائف والإثنيات، لكنها ترفض الهيمنة السنية المطلقة، وتطرح نموذجًا قائمًا على التوازن بين المكونات، يتبنى هذه الفكرة أفراد من الأقليات السورية وجهات دولية ترغب في استنساخ التجربة اللبنانية أو العراقية.
وتقوم الرؤية الثالثة على الانتماء الوطني المبني على المواطنة المشتركة بدلًا من الروابط العرقية أو الإثنية، مع الاعتراف بالتنوع الثقافي والديني، ورغم انتشار هذه الرؤية بين السوريين في الشتات، إلا أنها لا تجد قبولًا واسعًا داخل سورية.
ولتحقيق قبول أوسع للدولة السورية الجديدة، يرى سلطان العامر أن على الدولة تفكيك أي تأطير طائفي في خطابها الرسمي وسياساتها، والامتناع عن اعتماد مقاربات طائفية في قضايا الهوية، مثل الدستور والتعليم والشؤون الدينية، بل يجب أن تعتمد الدولة مقاربة تركز على إشراك جميع الأطراف في عملية سياسية قائمة على البرامج والأفكار، وليس على الخلفيات الطائفية أو العرقية.
كما يشدد على أهمية التعامل بحذر مع مظالم الماضي، بحيث تُوجّه المحاسبة إلى الأفراد الذين ارتكبوا الجرائم، دون أن تأخذ طابعًا انتقاميًا يستهدف طوائف بأكملها، لأن هذا قد يؤدي إلى إعادة إنتاج النزاعات الطائفية بدلًا من تحقيق العدالة، ويستشهد العامر بإعدام صدام حسين، حيث أضفت الهتافات الطائفية على الحدث طابعًا انتقاميًا، مما عزز الانقسام، بدلًا من أن يكون الإعدام فعلًا مؤسساتيًا يعكس عدالة الدولة.
تحديات بناء الهوية الوطنية السورية الجامعة
انتهج نظام الأسد سياسة مزدوجة تجاه الهويات الجزئية، فكان يهمّشها حين تشكل تهديدًا له، ويستغلها حين تخدم مصالحه، متذرعًا بشعار “الوحدة الوطنية” لإحكام قبضته على الدولة، لكن هذه الوحدة المزعومة لم تكن إلا غطاءً لإقصاء بعض المكونات وحرمانها من حقوقها الثقافية والسياسية، بينما منح امتيازات خاصة لأقليات محددة لضمان ولائها. في الوقت نفسه، استخدم بعض الفئات كأدوات داخل مؤسساته الأمنية والعسكرية، بينما أبقى مكونات أخرى خارج أي تمثيل حقيقي في الدولة، مما عمّق الانقسامات الاجتماعية وأسهم في تفتيت المجتمع لصالح استمراره في الحكم.
ومن ثم فقد اعتمد الأسد على طائفته العلوية لترسيخ حكمه، مانحًا أبناءها امتيازات واسعة في الجيش والأمن والوظائف الحكومية، لكنه زج بهم في صراعه ضد السوريين، ليجعلهم في مواجهة مباشرة مع الأغلبية، ما خلف إرثًا ثقيلًا من العداء يصعب تجاوزه. في المقابل، تعرّض الأكراد لتهميش واسع، إذ حُرم كثير منهم من الجنسية والحقوق السياسية أو من التعبير عن هويتهم الفرعية، وفي الوقت نفسه لم يتردد في استخدام بعض الفصائل الكردية المسلحة كأداة في صراعاته الإقليمية، مع تركيا.
عزّزت سنوات الحرب هذا التمزق وكشفت عن الشروخ العميقة في المجتمع، وصنعت المناهج التعليمية المختلفة في مناطق النفوذ المتعددة (سابقًا)، مناطق النظام ومناطق المعارضة ومناطق نفوذ قوات سورية الديمقراطية، هويات أكثر تباينًا.
وإلى جانب الانقسامات السياسية والطائفية، يشكّل الانهيار الاقتصادي التهديد الأكبر لأي مشروع وطني، فالمواطن الذي لا يجد قوت يومه، أو يفقد الأمل في تأمين مستقبل لعائلته، لن يعنيه أي خطاب عن الهوية الوطنية، حيث تعيش شريحة واسعة من السوريين في أدنى مستويات المعيشة نتيجة سنوات الحرب الطويلة وسياسات النظام البائد واستمرار العقوبات الغربية. وتنذر الأزمة الاقتصادية الراهنة بهشاشة المجتمع تجاه السعي للهجرة أو الولاء لدول خارجية أو حتى الانخراط في شبكات الاقتصاد غير الشرعي.
وقال أستاذ علم الاجتماع السياسي الدكتور برهان غليون: “أن المجتمع السوري لن يستقر ويتجاوز الخلافات السياسية والفكرية والدينية والطائفية إلا إذا انطلق قطار التنمية الاقتصادية وأصبح لدى الناس فرصة أن يعملوا ويحسنوا حياتهم، أن يصيروا بشرًا، هم يشعرون الآن بأنهم مهمشون ومسحوقون ماديًا وإنسانيًا، والمجتمع جُرّف كليًا ماديًا وسياسيًا، لكن استرداد الثقة للناس وإطلاق التنمية لا يأتيان وحدهما وإنما ضمن شروط سياسية واجتماعية وثقافية.
وسط هذه التحديات التي تواجه المجتمعات السورية تصبح الهويات الفرعية أكثر جاذبية. إذ يغيب الشعور بالدولة كضامن للأمان والحقوق، وحينها يبحث الأفراد عن حماية في الطائفة أو العشيرة أو القومية، فالهوية الوطنية لا تُفرض بالشعارات، بل تُبنى من خلال دولة عادلة يشعر جميع مواطنيها بأنهم جزء منها لا مجرد سكان فيها، وإذا لم تتحقق هذه المعادلة، فسيظل مفهوم “الوطن” عند كثيرين مجرّد انتماء جغرافي لا أكثر.
سُبل تعزيز الهوية الوطنية السورية
يتطلب تعزيز الهوية العليا في سورية الجديدة اعتماد استراتيجيات شاملة تعالج آثار الصراع وتبني عقدًا اجتماعيًا جديدًا، وتؤكّد الدراسات أن العدالة الانتقالية ضرورية لرأب الانقسامات وبناء الثقة بين مكوّنات المجتمع السوري، فهي تضمن محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وإقرار حقوق الضحايا وتوفر ضمانات لعدم تكرار الانتهاكات، مما يساعد على تحقيق المصالحة الوطنية بدل ترسيخ الأحقاد.
إلى جانب ذلك، يعدّ إصلاح النظام التعليمي أولوية لإعادة صياغة الهوية الوطنية، بما يُعلي من شأن وقيمة الهوية السورية الجامعة وتعليم الجيل الأصغر أن هوياتنا الفرعية تعمل جميعها من أجل هدف مشترك، وأن هذا التنوع هو تنوع ثراء وليس تنوع منافسة وصراع وإقصاء، وهذا يتطلب أن تضمن المناهج الدراسية تعريفًا واعترافًا بجميع فئات الشعب ومن ثم توجيه طاقاتهم نحو بناء دولة حديثة.
وتعد تجربة بناء الجمهورية التركية الحديثة من التجارب المهمة التي لعب فيها التعليم دورًا محوريًا في عملية بناء هوية عُليا، إذ قام مصطفى كمال أتاتورك بسلسلة من الإصلاحات الجذرية في مجال التعليم، ففرض مناهج وطنية تعزز الانتماء القومي بما تتضمنه من شعارات ومبادئ تُعلي من قيمة “التركي” وأعاد صياغة الهوية الثقافية التركية على أسس قومية. إلا أنه وأثناء سعيه لتعزيز هذه الهوية الموحدة، أقصى الهويات الفرعية، وحُرمت قطاعات واسعة من المجتمع من التعبير الثقافي والاجتماعي عن نفسها، ما تسبب بحالة من عدم الاستقرار تظهر بين الحين والآخر ولا تزال تؤثر على المشهد التركي حتى اليوم.
وفيما يتعلق بدور هيكلة الدولة في بناء الشعور بالهوية الموحّدة، ترى السياسية والأكاديمية الراحلة بسمة قضماني أن توسيع اللامركزية هو مدخل مهم لتمكين المجتمعات المحلية مع الحفاظ على الوحدة الوطنية. وتشير في مقالها “مسار آمن نحو اللامركزية الديمقراطية في سورية” إلى أن الأبحاث توصي باعتماد نظام حكم محلي منتخب يمنح صلاحيات أوسع للإدارات المحلية، بالتوازي مع ضمانات دستورية قوية لحقوق جميع المكونات على المستوى المركزي، فكلما توفرت ضمانات مركزية تكفل المساواة وتحمي التنوع، ازداد شعور الفئات المختلفة بالأمان والانتماء للوطن الواحد وتراجع ميلها لأي نزعات انفصالية.
وأخيرًا، فإن إطلاق عملية شاملة لإعادة الإعمار المادي والاقتصادي سيسهم أيضًا في ترسيخ الهوية الوطنية الجامعة، فالتوزيع العادل لمشاريع الإعمار عبر المناطق كافة وإعادة المهجرين إلى ديارهم وتعويض المتضررين سيعزز الشعور بالمصير المشترك للسوريين في دولتهم الجديدة، ويتراجع شعورهم المستمر بالتهديد والذي يدفعهم للاحتماء خلف هوياتهم الفرعية، حيث يعمل تحسين مستوى المعيشة وتقليل التفاوت الاقتصادي على تقليص النزاعات الاجتماعية والعرقية، مما يحد من دوافع الصراع ويعزز الشعور بالانتماء الوطني.
كما يؤدي خلق فرص العمل إلى تعزيز شعور الأفراد بأنهم جزء من مجتمع تكافلي قائم على العدالة الاقتصادية، وهكذا يصبح الاقتصاد عاملًا في إعادة بناء العقد الاجتماعي من خلال ترسيخ الثقة بين الدولة والمجتمع، وتعزيز سياسات اقتصادية شاملة تضمن دمج جميع المكونات.
اليوم، ونحن نحيي ذكرى مرور 14 عامًا على انطلاق الثورة السورية، بأجواء من الفرح بالخلاص أخيرًا من نظام الأسد، نجد تركة ثقيلة خلفتها لنا عقود من الاستبداد، حيث جرّم النظام البائد الحديث عن الطائفة أو العرق أو الهوية الدينية أو الاثنية في البلاد، ولكنه كرّس الممارسات الطائفية في كل مناحي الحياة وبنى عليها سلطته. اليوم نرى بلدًا جريحًا ومجتمعًا منقسمًا، نواجه فيه كسوريين مهمة عميقة في إعادة بناء هوية وطنية جامعة، قادرة على احتضان الجميع وتقبل الاختلاف والتنوع بدلًا من الفرقة والانقسام، كلمة السر فيها هي بناء الثقة فيما بيننا وبقدرتنا على بناء وطن جديد.