تتسارع وتيرة الأحداث الميدانية في المشهد السوداني بصورة متلاحقة، حيث نجح الجيش في إحراز العديد من الأهداف في مرمى ميليشيات الدعم السريع ( المدعومة إماراتيًا) واستطاع خلال الأيام الأخيرة تحرير العشرات من المواقع الاستراتيجية التي كانت تهيمن عليها عناصر محمد حمدان دقلو (حميدتي)، مُجردًا إياها من عناصر القوة التي كانت تمتلكها وتضغط بها لتغيير الموقف لصالح أجنداتها وطموحاتها السياسية.
وكانت خارطة العمليات العسكرية قد شهدت تغيرات مفاجئة بعد ما يقرب من 23 شهرًا من بدء الحرب، فقبل 8 أشهر فقط من اليوم كانت ميليشيات الدعم تسيطر على ما يقرب من 80% من المناطق السودانية، من بينها العاصمة الخرطوم بما لها من رمزية سياسية مُعتبرة، غير أن الوضع اليوم بات مختلفًا، حيث استطاع الجيش السوداني استعادة الكثير من تلك المناطق المفقودة.
وكان أخر النجاحات التي حققها الجيش، ما أعلنه الأحد 16 اذار/مارس الجاري بشأن سيطرته على العديد من المواقع الاستراتيجية وسط الخرطوم، مٌضيقًا بذلك الحصار على قوات الدعم في القصر الرئاسي وبعض المؤسسات الحكومية، كما قطع خطوط الإمداد بينها وبين بقية تمركزاته في المناطق المجاورة، وسط توقعات بقرب حسم معركة الخرطوم لصالح الجيش في غضون أيام بسيطة، وهي المعركة التي ستشكل مرحلة فاصلة في مسار تلك الحرب المندلعة منذ منتصف نيسان/أبريل 2023.
نجاحات ميدانية للجيش في الخرطوم
قال الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان في بيان له إن قوات سلاح المدرعات استطاعت في دحر ميليشيات الدعم السريع من محور نادي الأسرة بحي “الخرطوم 3” وجسر المسلمية وأبراج النيلين وموقف شروني (محطة مواصلات) وسط الخرطوم، كما نشر مقطعا مصورًا عبر منصاته على التواصل الاجتماعي لقواته وهي تنصب كمينا لعناصر من الدعم، وأظهرهم وهم يحاولون الهرب غير أنه تمكن من تحييدهم جميعًا ولم ينجُ منهم أحد.
كما سيطر على أبراج النيلين وكلية الأسنان التابعة لجامعة الخرطوم، بالإضافة إلى تحييد شارع القصر الرئاسي بالكامل والذي كانت تسيطر عليه ميليشيا الدعم، فيما قالت لجنة مقاومة الخرطوم 3 إن القوات المسلحة سيطرت أيضا على “حديقة القرشي، ونادي الأسرة، ومجمع خدمات الجمهور التابع لوزارة الداخلية، اليوم الأحد، عقب معارك ضد قوات الدعم السريع”.
وكان تركيز عمليات الجيش خلال معارك اليومين الماضيين على وسط العاصمة الخرطوم التي تضم “القصر الجمهوري ومحطة جاكسون للحافلات وشارع الجامعة بمحاذاة مجلس الوزراء” وكان الهدف واضحًا، تعقيد مهام قوات الدعم في حماية خطوط الإمداد المتبقية لديها في العاصمة وإحداث القطيعة بينها وبين خطوط الإمداد.
وسط معركة حاسمة تجري في العاصمة السودانية.. الجيش السوداني يقول إنه سيطر على مواقع عدة في #الخرطوم، واقترب من القصر الرئاسي ومقر القيادة العامة | تقرير: مصطفى ازريد#الأخبار pic.twitter.com/Dr0o5IY8Y5
— قناة الجزيرة (@AJArabic) March 17, 2025
وبهذا التقدم أصبح الجيش يسيطر على معظم مدن ولاية الخرطوم المكونة من 3 مدن رئيسية، الخرطوم بحري التي يهيمن عليها بالكامل، ومعظم أنحاء مدينة أم درمان (غربًا) والتي كانت ثقلا لوجستيًا خسره حميدتي مؤخرًا، وما يقرب من 75% من عمق مدينة الخرطوم العاصمة، إذ لم يتبق لميليشيا الدعم تواجد سوى في بعض المناطق الضئيلة في الشرق والجنوب.
في ضوء تلك التطورات بات الجيش السوداني على بعد 2 كم متر فقط من القصر الجمهوري والوزارات السيادية في شارع النيل، ولم يتبقى لقوات الدعم سوى بعض القناصة التي تنتشر في محيط القصر وفوق جدرانه، وفي حال استمرار القوات المسلحة السودانية على هذا المنوال، فإن الأمر قد يٌحسم خلال الأيام القليلة المقبلة، مما سيدفع بقوات حميدتي لمغادرة الخرطوم نحو مناطق سيطرتها في دارفور.
رمزية سياسية تُعيد تشكيل قواعد المعادلة
حرصت ميليشيا الدعم السريع منذ اليوم الأول للانقلاب على الجيش السوداني على إحكام السيطرة على الخرطوم والقصر الرئاسي، لما لذلك من رمزية سياسية محورية، تضفي من خلالها الشرعية على تواجدها، وتمنحها ثقلا ما كان لها أن تأخذه دون السيطرة على مركز إدارة الدولة ممثلة في القصر الحاكم والعاصمة الرسمية للبلاد.
وعلى مدار أشهر الحرب الممتدة كان حميدتي يدافع عن العاصمة بكل ما أوتي من قوة، حيث سخر لها معظم الإمكانيات والعتاد، ونجح بالفعل في إبقاءها تحت سيطرته لأكثر من 22 شهرًا، بفضل الدعم الذي يتلقاه من بعض القوى الخارجية وعلى رأسها الإمارات، التي يعتبرها البعض السبب الرئيسي في إبقاء ميليشا الدعم صامدة في الميدان حتى اليوم، وهو ما دفع الجيش السوداني لتقديم شكوى دولية ضدها بسبب الدور الذي تلعبه لإشعال الموقف في السودان.
وبعد اقتراب تحرير الخرطوم من قبضة الدعم فإن معادلة التوازن ستتغير بطبيعة الحال، وستتبدل الوضعية التي استمرت لأشهر طويلة، إذ سيكون للجيش اليد الطولى في المشهد بصفته اللاعب الأكثر سيطرة واستحواذا، فيما يتوقع أن ينزوي حميدتي وميليشياته نحو دارفور، التي منها ربما يحاول إعادة ترتيب أوراقه مرة أخرى، على أمل استعادة بعض نفوذه المتراجع، وعليه جاءت خطوة تشكيل الحكومة الموازية من العاصمة الكينية، كخطوة تعكس المأزق الميداني الذي تعاني منه قوات الدعم الباحثة عن أي شرعية تبقيها على طاولة المفاوضات بشأن مستقبل البلاد.
حميدتي يهدد الجيش السوداني: "لن نخرج" من الخرطوم#خمسينة_اقتصاد#خمسينة_اقتصاد_plus
#مصر #الدولار #EGYPT#السودان#حميدتي pic.twitter.com/yyoZXTeSwT— خمسينة اقتصاد (@5AMSENAEKTSAD) March 16, 2025
ومما يعزز من مأزق ميليشا الدعم، النجاحات التي يحققها الجيش في المناطق الأخرى بعيدًا عن العاصمة، حيث أعلن في الساعات الأخيرة سيطرته على منطقة أبو عريف المهمة في ولاية سنار (جنوب شرق) بعد معارك مع الدعم كبدها فيها خسائر فادحة، ودفع عناصر للهروب، لتنضم سنار إلى بقية المناطق التي خسرتها قوات حميدتي لصالح الجيش والتي تضم ولايات الخرطوم والجزيرة والنيل الأبيض وشمال كردفان والنيل الأزرق.
وفي محاولة للتشبث بالأمل المتضائل أكد قائد قوات الدعم (حميدتي) في تسجيل مصور له، مرتديًا زيه العسكري، أن قواته لن تخرج من العاصمة الخرطوم أو من القصر الرئاسي الذي تسيطر عليه منذ اندلاع الحرب، وأنه مستمر في المعركة وقادر على إلحاق الخسائر في صفوف الجيش، وهي التصريحات المعتادة مع كل خسارة تتلقاها الميليشات خلال الآونة الأخيرة، وسط احتمالية التصعيد العشوائي بهدف إحداث الفوضى وخلط كافة الأوراق.
تغير استراتيجية الجيش
يُرجع محللون وعسكريون النجاحات التي حققها الجيش السوداني على حساب الدعم السريع خلال الأشهر الستة الأخيرة تحديدًا إلى إعادة النظر في الخطط التي كان تعتمد عليها المؤسسة العسكرية الوطنية والتي كانت تتخذ من الدفاع استراتيجية ثابتة، وهو ما كان يُغري ميليشا حميدتي لتكثيف هجومها خاصة بعد الدعم الكبير الذي تتلقاه من حلفاؤها في الخارج، حيث بدأ الجيش في اللجوء لاستراتيجيات الهجوم المفتوح وهو ما أربك حسابات الدعم وأفقده توازنه في غضون فترة قصيرة وجرده من الكثير من مكتسباته التي حققها منذ بداية المعركة.
ويذهب المحلل العسكري، والضابط السابق في صفوف الجيش السوداني، مصعب فقير، إلى أن انتصارات الجيش الحالية، نتاج تخطيط وعمل مدروس ومحكم، مضيفًا في حديث سابق لـ “نون بوست” أن “انتصارات الجيش بدأت بإفشال محاولة الانقلاب على السلطة ومحاولة اغتيال قائد القوات المسلحة، عبد الفتاح البرهان، يوم 15 أبريل/ نيسان، ومن ثم انتقلت للمحافظة على مقرات الجيش الرئيسة في العاصمة والحيلولة دون سقوطها، مرورًا بمرحلة استنزاف المليشيا وكسر قوتها الصلبة على أسوار هذه المقار، وصولًا إلى مرحلة الانفتاح والهجوم الذي نشاهده اليوم”
ويرى الضابط السوداني ” أنَّ الجيش يمارس عملية خنق لهذه القوات، وتقليص مساحة تحركها يوميًا عبر عدة متحركات وأرتال عسكرية، تعمل بتنسيق تام لاستعادة السيطرة الميدانية على ما تبقى من الخرطوم والجزيرة، وإكمال السيطرة على وسط البلاد”، وهو ما بدا يتحقق فعليًا خلال الأيام الأخيرة حيث قطع خطوط الإمداد بين عناصر الدعم المتمركزة في القصر الجمهوري وفي بعض مناطق وجنوب الخرطوم، ومحاولة عزلها عن نقاط قوتها الأساسية في محيط العاصمة بعد دحرها وإجبارها على اللجوء إلى دارفور.
في ضوء المعطيات السابقة تذهب الأمور باتجاه حسم الجيش -إذا ما سار المشهد الميداني على ذات المنوال- لمعركة الخرطوم والقصر الرئاسي بنهاية الشهر الجاري، وتضييق الخناق على الدعم السريع، وعزلها في بقعتها الضيقة في دارفور، غير أن طبيعة الساحة السودانية الرخوة، حيث الانقسامات وتشتت القوى، وتعدد اللاعبين على المسرح، وتباين الأجندات الخارجية الباحثة عن موضع قدم لها، قد تٌبقي على الباب مفتوحًا أمام كافة الاحتمالات والسيناريوهات، المفاجئة والمتوقعة، وفي ظل حالة الفوضى تلك فليس هناك من مضمون على الإطلاق.