قبل عشرين عامًا من اليوم، وبالتحديد في 1998، حين كان يجلس المستخدم أمام جهاز حاسوبه باحثًا عن أي شيء في الشبكة العنكبوتية لم يكن أمامه خيارات متعددة، فكان محرك البحث Yahoo هو العملاق المسيطر آنذاك، وكان لونه الأصفر الشهير الأكثر رواجًا على منصات الإنترنت.
في هذا الوقت كان Yahoo يعزف منفردًا على أوتار البحث، فكانت تلك الفترة العصر الذهبي له، ثم تطور بعد ذلك مضيفًا بريدًا إلكترونيًا خاصًا به @yahoo.com ليقضي سنوات عدة من العزف المنفرد في ظل خلو الساحة من المنافسة القوية من محركات البحث التي ظهرت لاحقًا.
لكن بعد عقدين على هذا العصر الذهبي بات السؤال الأكثر حضورًا: أين موقع ياهو الآن من محركات البحث الأخرى؟ غير أن الإجابة عن هذا السؤال ليست بحاجة إلى عناء تفكير أو مشقة، ويكفي القول إن استخدام هذا المحرك في البحث سيضع صاحبه محط السخرية والنكات من الجميع، كما أنه من الممكن اتهام صاحبه بأنه “من العصر الحجري”.
تساؤلات عدة فرضت نفسها مع الانحدار الكبير الذي تعرضت له الشركة العالمية على مدار السنوات الماضية، حتى باتت اليوم مجرد اسم من الماضي بعدما سقطت بشكل شبه كامل، سقوطًا رغم أنه كان بطيئًا، فقد كان مؤلمًا في الوقت ذاته، لتطي الشركة واحدة من أنصع صفحاتها في عالم محركات البحث.
15 عامًا من الريادة
حين تأسست ياهو عام 1994 كان هدفها الأساسي آنذاك أرشفة الإنترنت وصنع منصة فعالة لاستكشاف المواقع المختلفة، ربما هذا الهدف حاليًّا مضحكًا لكنه في هذا التوقيت كان أمرًا ثوريًا بحق، وسرعان ما بدأ الملايين بالتدفق إلى موقع ياهو الذي أصبح الثاني في العالم بسرعة (خلف AOL التي كانت شبه محتكرة لتزويد خدمة الإنترنت جاعلة من موقعها المكان الافتراضي لبدء التصفح).
وخلال فترة التسعينيات استطاعت الشركة التكنولوجية الناشئة فرض نفسها كموقع متكامل وحل مثالي لكل ما يخطر بالبال على الإنترنت، إذ نجحت في تلبية كل مطالب الباحثين، بداية من العلوم والأخبار ووصولاً إلى الترفيه وأخبار المشاهير والشائعات عنهم، وكان هذا المسيطر على عقلية المستخدمين في هذه الفترة.
تعزز النجاح بصورة هائلة نهاية التسعينيات حيث وصلت قيمة ياهو السوقية إلى 125 مليار دولار، وهذا ما جعلها حينها من أكبر شركات التقنية في العالم وحالة خاصة ربما في عالم الأعمال، تفوقت بذلك على شركة Apple وMicrosoft، كونها باتت شركة إنترنت بالمعنى الكامل للكلمة.
ومع بداية الألفية الجديدة ظهر على السطح لاعب جديد، ربما لم يكن بالقدر المقلق حينها بالنسبة لياهو إلا أنه من الواضح لم يكن لاعبًا سهلاً، ومع ذلك تجاهلته الشركة العملاقة وقتها، مقللة من شأنه وقدرته على إحداث أي حراك في السوق العالمية، لكن الأمور لم تكن كما تم توقعها.
استمرت الشركة في حالة ركودها الواضح مقارنة بالسرعات الجنونية لمنافسيها حتى جاءت فضيحة عام 2016 حين كُشف تسريب معلومات 500 مليون مستخدم
عام 1998 عرض كل من لاري بيج وسيرجي برين مؤسسا “غوغل” بيع خوارزمية البحث الخاصة بهما والمسماة “PageRank” على كل من ياهو ومنافستها حينها AltaVista مقابل مليون دولار أمريكي، إلا أنها رفضت الشراء لأنها لم ترد خوارزمية توفر أفضل النتائج للمستخدم، بل أرادت إبقاء المستخدمين ضمن موقع ياهو نفسه لأطول وقت ممكن.
ومع مرور الوقت وفي غضون 4 سنوات فقط، طلب مؤسسو غوغل 5 مليارات دولار قيمة لمحركهم البحثي بدلاً من مليون دولار عام 1998، وبعد مفاوضات استمرت لعدة أشهر فشل الأمر تمامًا ولم تتم الصفقة على الإطلاق، فليس من المعقول أن تشتري ياهو شركة مقابل 5000 ضعف السعر المطلوب سابقًا.
بداية السقوط
في بداية الألفية وقعت كارثة عرفت باسم “فقاعة دوت كوم” أو “فقاعة الإنترنت”، أثرت بشكل كبير على قطاع الإنترنت والتقنية، حيث انهارت مئات الشركات وتضررت معظم البقية بشكل كبير جدًا، كان على رأسها شركة ياهو التي خسرت أكثر من 90% من قيمتها السوقية خلال أشهر فقط، ومع أنها تجاوزت المحنة دون أن تنهار، فقد كان تعافي الشركة من هذا الحدث بطيئًا جدًا وغير مكتمل، فمع أن الشركة عادت للصعود في قيمتها السوقية مطلع الألفية، فقد كان نموها أصغر بوضوح من الشركات التقنية الأخرى التي حققت نموًا أكبر بمراحل.
ومع بداية 2008 يمكن القول إن الشركة بدأت تتعافى مجددًا، وهنا تلقت واحدًا من أهم عروض الشراء في تاريخها: 44 مليار دولار من مايكروسوفت، لكن وعلى الرغم من كون العرض سخيًا للغاية مقابل قيمة الشركة حينها، فقد قوبل بالرفض واستمرت الشركة في محاولات إنعاش عملها من خلال تغييرات متتالية في الإدارة وشراء حصة كبيرة من متجر Alibaba الصيني.
مع بداية 2007 تغيرت الخريطة بشكل كبير وذلك بعد دخول لاعبين جدد مثل يوتيوب وغوغل وفيسبوك
في 2012 سعت الشركة لإنعاش نشاطها وحضورها السوقي مرة أخرى فاشترت منصة Tumblr مقابل 1.1 مليار دولار بالإضافة إلى الاستحواذ على أكثر من 50 شركة جديدة وناشئة في مسعى لعكس المسار السلبي لعائدات الشركة، لكن يبدو أن محاولات الإنقاذ لم تؤت ثمارها بالشكل المطلوب.
واستمرت الشركة في حالة ركودها الواضح مقارنة بالسرعات الجنونية لمنافسيها حتى جاءت فضيحة عام 2016 حين كُشف تسريب معلومات 500 مليون مستخدم في واحدة من أكبر التسريبات في التاريخ، وعلى إثره بيعت الشركة لصالح شركة الاتصالات الأمريكية الكبرى Verizon مقابل قرابة 4.5 مليار دولار، ومع أن هذا المبلغ كبير جدًا لشركة عادية، فهو صغير للغاية لشركة كانت من الأكبر في العالم التقني طوال الشطر الأول من وجودها.
أباطرة جدد
في مقطع فيديو على قناة يوتيوب حمل اسم “البيانات جميلة” (Data is Beautiful)، أظهر بالإحصاء والتحليل كيف حدث هذا الزوال للشركة العملاقة وكيف سيطرت غوغل ويوتيوب على الإنترنت من خلال شريط رسومات بيانية مدته ثماني دقائق يصور أكثر مواقع الويب زيارة على مدار 24 عامًا تقريبًا، استنادًا إلى حركة المرور الشهرية لتلك المواقع بدءًا من يناير/كانون الثاني 1996.
الفيديو أوضح أنه مع دخول عام 2001 كانت ياهو قد بدأت بالتفوق على أمريكا أونلاين بالزيارات الشهرية، لتبدأ الأخيرة بالتراجع الحاد، ثم أصبحت ياهو وكأنها الإمبراطورية الرومانية للإنترنت، حيث سيطرت ببوابة الويب الخاصة بها وبريدها الإلكتروني ومجموعات المستخدمين لمدة نصف العقد، إلى أن اقتحمت غوغل البوابات وأصبحت أكثر المواقع زيارة منذ منتصف عام 2006.
ومع بداية 2007 تغيرت الخريطة بشكل كبير وذلك بعد دخول لاعبين جدد مثل يوتيوب وغوغل وفيسبوك، وسرعان ما تم السيطرة من هذا الثلاثي على سوق الإنترنت في العالم، ورغم أن هذه المواقع ظلت في المقدمة في 2019 فإن قوتها النسبية تغيرت.
فقد بدأت حصة فيسبوك على الإنترنت تنخفض منذ منتصف عام 2014 مع تقدم غوغل إلى الأمام، وانخفضت أعدادها المطلقة من نحو 28 مليار زيارة شهرية في أواخر 2017 إلى ما يزيد على 23 مليارًا في أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، أما عدد زيارات غوغل فإنه يزيد بثلاثة أضعاف عن فيسبوك، ونحو 4.5 ضعف إذا أخذنا بالاعتبار موقع يوتيوب التابع لها.
وهكذا فقدت ياهو ثقلها العالمي مخلفة وراءها إرثًا كبيرًا من التاريخ الناصع في مجال الإنترنت، مؤكدة أن البقاء بين الكبار يحتاج لمنافسة شرسة وتجديد مستمر، والركون للإمكانات وحده ليس ضمانًا كافيًا للبقاء على نفس الوتيرة.