لأول مرة بعد احتلال العراق عام 2003، يخرج العراقيون للتظاهر دون رموز ولا شعارات طائفية، في تعبير جليّ يؤكد فيه العراقيون أن النظام السياسي الطائفي لم يأت لهم بخير وأرجعهم سنوات إلى الوراء، ولاحت في الأفق لأول مرة فرصة للخلاص من الطائفية التي فرضها الاحتلال الأمريكي ورسخها من بعده الاحتلال الإيراني، وتمسك بها موالوهم ممن يمسكون بالسلطة الآن.
جاءت هذه النزعة غير الطائفية من شباب لا يتجاوز أغلبهم العقد الثاني من عمرهم، عمليًا لا تصريحًا، لأنها لم تخطر على بالهم ولم يفهموها كما فهمها أباؤهم ومن سبقهم بالعمر، فهؤلاء الشباب لم يرثوا العقد الطائفية من أبائهم، ولم يمل عليهم أئمة السوء سمومهم، ولدينا ثقة بأن هذا الحراك إذا استطاع هدم أركان هذا النظام الطائفي، فإن له القدرة على بناء مستقبل لعراق جديد لا مكان فيه للطائفية ولا مكان فيه لولاءٍ غير الولاء للوطن.
ومع ذلك فإن هذا الفهم الذي وصل إليه غالبية شباب المكون الشيعي، ما زالت مكونات أخرى تنظر إليه بشيء من الريبة وعدم الوثوق بالنوايا الحقيقية لتطلعاتهم وخططهم لمستقبل العراق، وأقول الحق إن لتلك المكونات عذرًا في ذلك، فمكون كبير مثل المكون العربي السني الذي لاقى ما لاقاه من الأحزاب والمليشيات الشيعية الطائفية، كيف له أن يثق بحراك جاء من نفس ذلك المكون؟ والبعض منهم يقول لقد اعتصمنا لأكثر من سنة في الساحات بشكل سلمي فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أن أبناء المكون الشيعي لم يحركوا ساكنًا لنصرتنا، وتفرد بنا طائفيو العصر بقيادة نوري المالكي ليذيق أبناء السنَّة الويل والعذاب، ثم استكمل مسيرته حيدر العبادي ليهدم مدنهم ويشرد أبناءهم.
لكن الذي فات أهل السنَّة معرفته والتفكير به الآن، أن هناك تغيرات كبيرة طرأت على عقلية الشباب في المكون الشيعي ربما نذكر أهمها أن الذين يتظاهرون الآن كانوا في ذلك الحين أطفالاً لا حول لهم ولا قوة ولا إمكانية لهم لتقدير الأمور كما يقدرونها اليوم، ومن كان منهم كبيرًا، فقد خدع بشعارات أحزابهم ومليشياتهم الطائفية، ثم وجد نفسه بعد ذلك تعرض لخدعة كبيرة واستُغل وقتل منهم من قتل، ومع ذلك لم تتغير حياته وما زال يرى نفسه يتعرض للسرقة على أيدي من يمسكون بالنظام، وهو يعيش في فقرٍ مدقع، فتيقن أن مشكلته ليست مع أهل السنَّة كما كان يصور له الطائفيون، إنما مع النظام الذي يستغله باسم المذهب والولاء للمرجعيات.
تزايد أعداد المتظاهرين في #ساحة_التحرير بالعاصمة بغداد على الرغم من الاستخدام الكثيف للغاز المسيل للدموع#العراق_ينتقض #نازل_اخذ_حقي pic.twitter.com/pn8lLJY0Qy
— نون بوست (@NoonPost) October 27, 2019
والأهم من بين تلك التغيرات، أن الشاب الشيعي اليوم، بان له زيف تلك الأحزاب والمليشيات، بل وحتى زيف المرجعيات الدينية، فكفر بها وهاجم مقراتها ووجه انتقاداته لمرجعياته بشكل علني لم يسبق أن قام بها شيعي من قبل، ونحن على مقربة من انقضاء الشهر على بدء الشرارة الأولى لهذه التظاهرات لم نسمع شعارًا طائفيًا واحدًا ولا إساءة واحدة لأي مكون عراقي.
لنكن أكثر صراحة مع أنفسنا وننقد أنفسنا لكي نستطيع تلمس الطريق الصحيح الذي يوصلنا إلى المواطنة الحقة وإعادة بناء هذا الوطن بعد أن مزقته تلك الأحزاب والمليشيات. العرب السنَّة في بداية الاحتلال آثروا عدم المشاركة في العملية السياسية بعد الاحتلال، رغم مناشدات العارفين لجمهورهم بضرورة المشاركة، ليس لأنها عملية سياسية مثالية، إنما منعًا لاستئثار الأحزاب الموالية لإيران على السلطة بالتحالف مع الأحزاب القومية الكردية، لكنهم أصروا على عدم المشاركة فخسرنا جميعًا خسارة فادحة ندفع ثمنها إلى اليوم. لا أريد أن يُفهم من قولي أنني ضد خيار مقاومة الاحتلال الأمريكي، لأن ذلك الخيار كان صحيحًا وحقًا شرعيًا لكل شعب يقع تحت الاحتلال، لكن كان يجب أن يترافق مع عدم ترك الدولة العراقية ليبتلعها أذناب إيران تمامًا، فالأحزاب الشيعية ابتلعت الدولة العراقية ليس شطارة منها، إنما بسبب سوء تقدير الكثير من الخيرين العراقيين حينها وتركهم الدولة لهم.
إن عدم مشاركة العرب السنَّة في التظاهرات الحاليّة، التي من المؤكد أنها ستسفر عن شيء كبير، يمتد طيف نتائجها بين خيارات عديدة، يكون أعلاها إسقاط النظام واستبداله بنظام آخر جديد، بمساعدة فاعلين سياسيين دوليين أو في أدنى حالاتها، سيتم إحداث تغييرات كبرى في هذا النظام الحاليّ، وعدم مشاركة الجهود التي ستؤدي إلى هذا التغيير سوف تحرم السنَّة، ولا يكون لهم نصيب فيها، وسيكون العرب السنَّة قد خسروا في بداية الاحتلال ويخسرون مرة ثانية في الوقت الذي يبدأ هدم مخرجات الاحتلال، وهو لعمري خسرانٍ عظيم.
إن هذا النظام إذا استقر الحال له، سيبدأ استئناف مشروعه الطائفي المدعوم إيرانيًا في إحداث التغير الديمغرافي على أهل السنَّة والاستيلاء على أوقاف السنَّة وقتل شبابهم بحجة الإرهاب
وحينما تنظر إلى رأي بعض مثقفي السنَّة وهم يعددون الويلات التي سيلقونها إذا شاركوا في التظاهرات الحاليّة، من اتهام لهم بالدعشنة والإرهاب وغيرها من التهم الجاهزة، يتبادر إلى ذهني سؤال: ماذا سيحدث يا ترى في حال لم نشارك بالتظاهرات، وفشلت في الوصول إلى أهدافها في وضع حدٍ لهذا النظام؟
إن هذا النظام إذا استقر الحال له، سيبدأ استئناف مشروعه الطائفي المدعوم إيرانيًا في إحداث التغير الديمغرافي على أهل السنَّة والاستيلاء على أوقاف السنَّة وقتل شبابهم بحجة الإرهاب وتهجير المتبقي منهم، حتى تمر علينا بضع سنوات، نبدأ بالحديث عن الأقلية السنية الموجودة في العراق بنفس الطريقة التي نتكلم بها عن أي أقلية عراقية مثل الأقلية التركمانية أو الأقلية المسيحية. فهل يا ترى هذا البديل الذي ينتظره السنَّة من وقوفهم السلبي من الحراك الحاليّ؟ نحن بهذا نساعد بشكل غير مباشر، هذا النظام الطائفي للبقاء جاثمًا على صدورنا ونمد بحياته وحياة النظام الإيراني من ورائه.
لكي لا يفوتنا القطار وتتجاوزنا الأجيال
الشيء المؤسف حقًا، أن هناك توجهًا طائفيًا عند بعض مثقفي السنَّة، لا يقل في تطرفه عن التطرف الطائفي الشيعي، رغم أن هذا ليس من عقيدتهم، وأنا أتفهم ذلك، وأعرف أنه ناتج عن المعاناة التي واجهها المكون السني طيلة الـ16 سنة الماضية، لكني أخشى ما أخشاه إذا بقيَ السنَّة على هذه العقلية الطائفية الموجوعة من إجرام المليشيات بحقهم، أن تتجاوزنا الأجيال القادمة، لأن الشباب الحاليّ لا يفكر بنفس الطريقة، ولم يرثوا العقد الطائفية من أبائهم، وسوف تتجاوزنا أحلامهم وطموحاتهم بغدٍ جديد، فالشباب الحاليّ – شئنا أم أبينا – سيفرضون على العراق واقعًا جديد يتجاوزنا ويتجاوز عقدنا ويتجاوز كل من يفكر بطريقة مشابهة لنا.
أدرك أن هذا الكلام سيكون ثقيلًا على البعض، ولكن لا بد من مصارحة قاسية مع أنفسنا لكي نعلم أين نحن ومع من نتعامل، ولكي لا يتجاوزنا الزمن ونصبح جزءًا من التاريخ فقط.
اليوم مزاج الشارع العراقي الشبابي هو مزاج وطني، بدأ رويدًا رويدًا يتجاوز مرض التقسيم الطائفي الذي ابتلينا به، ومن واجبنا كنخبة واعية تشجيعه على ذلك، لا أن نقف منه بموقف المرتاب في نواياه. وفي كل الأحوال فإن وجود الشيعة في العراق، هو واقع حال لا بد للسنَّة من التعامل الواعي معه كمكون أصيل من المكونات العراقية، ليس باستطاعتنا إلغاؤهم، وعلى الشيعة أن يعوا بأن لا إمكانية لإلغاء السنَّة من العراق مهما فعلوا، ومبدأ التعايش معًا مع الحفاظ على هوية كل مكون الدينية والعقائدية هو الخيار المتاح لنا، وإلَّا فإن التنحي جانبًا عن ما يحدث بالعراق من أحداث تاريخية والاكتفاء بانتظار النتائج ونحن واقفون على التل، فحتمًا سنكون أول من يدفع الثمن لاحقًا.
الانتفاضة العراقية اليوم فرصة حقيقية لصهر المكونات العراقية جميعها في الحاضنة الوطنية العراقية، وغلق موضوع الطائفية الذي طالما اعتاشت عليه الأحزاب الطائفية، وهي فرصة للكفر بكل مقدسات هذا النظام الفاسد من مرجعيات ومليشيات وقادة طائفيين، وفرصة لأن التظاهرات تزامنت بوقت فيه شبه صراع بين إيران من جهة والولايات المتحدة والدول العربية من جهة أخرى، وتزامنت أيضًا مع نجاح تركيا بغلق موضوع إنشاء دولة كردية دعمها الساسة الكرد العراقيين بكل قوتهم منوا أنفسهم بإنشائها والانفصال عن العراق وتمزيق وحدته، هي فرصة لإعادة اللحمة الوطنية العراقية، وبناء العراق من جديد، حرًا مستقلًا غير تابعٍ لأحد.