قبل أقل من شهرين على موعد الانتخابات الرئاسية في البلاد، عادت الجبهة الاجتماعية إلى الالتهاب من جديد بتنظيم عدد من الاحتجاجات والإعلان عن إضرابات تطالب بتحسين الوضعية الاجتماعية والمهنية لمئات الآلاف من العمال الذين أنهكهم ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، وذلك بعد صبر لأشهر قرروا فيها أن يكون الاهتمام الأول موجهًا لدعم الحراك الشعبي بدل انشغالاتهم المهنية.
وبعد قرابة الشهرين من الدخول الاجتماعي في الجزائر الذي يكون كل عام في سبتمبر/أيلول، ازداد الاحتقان داخل الطبقة العمالية بسبب الضبابية التي تطبع تجاوب السلطة مع مطالبهم المهنية، وكذا غموض المشهد السياسي المتميز بنية السلطة في تنظيم الانتخابات الرئاسية المقررة في 12 من ديسمبر/كانون الأول المقبل، التي تبقى مرفوضة من قبل الحراك الذي يصر على التظاهر وإطالة مدة انتفاضته التي انطلقت في فبراير الماضي.
غضب
لا يقتصر الاحتجاج الذي تعرفه الجبهة الاجتماعية في الجزائر على قطاع معين، بل مس عدة مجالات، وبدايتها كان قطاع التربية الذي يضم أكثر من 600 ألف عامل يشرفون على قرابة 10 ملايين تلميذ.
وبدأ الاحتجاج في قطاع التربية بنداء أُطلق على مواقع التواصل الاجتماعي يدعو أساتذة التعليم الابتدائي إلى الاحتجاج وتنظيم إضراب عبر المدارس، لقي استجابة واسعة، وهو ما دفع النقابات المعتمدة لدعم هذا الإضراب بتنظيم احتجاج وطني الأربعاء الماضي تحت شعار “كلنا أستاذ التعليم الابتدائي“، الذي عرف استجابة واسعة حسب نقابة الاتحاد الوطني لعمال التربية والتكوين.
عبّر المجلس الوطني المستقل لمستخدمي التدريس للقطاع ثلاثي الأطوار للتربية عن امتعاضه من الوضع الذي يعيشه قطاع التربية
وشدد الاتحاد على ضرورة “تحسين ظروف العمل في المدرسة الابتدائية والرقي بالجانب المهني والبيداغوجي للأساتذة”، محملاً وزارة التربية المسؤولية التي تعيشها المدرسة، ودعاها إلى اتخاذ إجراءات استعجالية كفيلة بالحفاظ على الاستقرار داخل المؤسسات التربوية.
وبدوره عبر المجلس الوطني المستقل لمستخدمي التدريس للقطاع ثلاثي الأطوار للتربية عن امتعاضه من الوضع الذي يعيشه قطاع التربية، وأكد تمسكه بضرورة معالجة ملفات “الأجور والقدرة الشرائية وطب العمل والخدمات الاجتماعية والتقاعد، وتحيين منحة المنطقة لولايات الجنوب، وتطبيق المرسوم 14/266”.
وفي قطاع التعليم العالي، لا يختلف الوضع كثيرًا، إذ أشار المجلس الوطني لأساتذة التعليم العالي “الكناس” إلى أن “الأستاذ الجامعي هو الوحيد في كل قطاعات الوظيف العمومي الذي لم يستفد من أي مراجعة أو زيادة في الأجر منذ عام 2008، لذلك يطالب بوجوب مراجعة النظام التعويضي والأساسي للأستاذ الجامعي الباحث، بما يكفل احترامه المتناسب مع رتبته العلمية داخل المجتمع”.
وطالب الكناس وزارة التعليم العالي بـ”مراجعة التصنيف المرتبط بمنحة المنصب النوعي، باعتماد تصنيف إضافي جديد يمس الجامعات غير المعنية بمنحة المنصب النوعي، لتحقيق التوازن والعدالة بين كل الجامعات، ووضع سياسة واضحة ومدروسة للقضاء على أزمة السكن التي يعاني منها الأستاذ الجامعي، بإدراج برامج مخصصة له مباشرة، بالإضافة إلى التنازل لصالح الأساتذة الجامعيين عن السكنات التي استفادوا منها”.
ولا يعد الوضع المتشنج الذي تعيشه الطبقة الشغيلة في قطاعي التربية والتعليم العالي خاصًا بهم فقط، بل إن الصورة الغاضبة مرسومة في مختلف المجالات بدءًا بالصحة والطاقة والتجارة والصناعة وغيرها، خاصة مع تقلص فرص العمل وارتفاع الأسعار الذي صاحبه انخفاض قيمة العملة الوطنية (الدينار) مقابل العملات الأجنبية وكذا صعوبة وضوح المشهد السياسي والاقتصادي في البلاد.
حتى القضاء
لم يتوقف الاحتقان الذي تعرفه الطبقة الشغيلة عند عمال القطاعات المعروفة باحتجاجاتها المتكررة، بل لأول مرة طال سلك القضاء عقب تنظيم النقابة الوطنية إضرابًا وطنيًا تعدت نسبة المشاركة فيه 90%، حسب رئيس النقابة يسعد مبروك.
يبدو أن الشعبية التي يملكها الوزير بلقاسم زغماتي لدى المواطنين، كونه عرف سابقًا بخصومته مع نظام الرئيس بوتفليقة لم تكف في كبح جماح نقابة القضاة الغاضبة
وجاء الإضراب المفتوح للقضاة عقب حركة التغيير السنوية للقضاة التي أقرها المجلس الأعلى للقضاء الخميس الماضي، ومست أكثر من 3 آلاف قاض.
وتدعو النقابة وزارة العدل إلى “الشروع فورًا في مراجعة النصوص القانونية الحاليّة التي تكرس هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، وتجميد نتائج الحركة السنوية إلى غاية إعادة دراستها بصورة قانونية وموضوعية من طرف المجلس الأعلى للقضاء بعد استرجاعه صلاحياته المسلوبة كاملة غير منقوصة، وبإشراك النقابة الوطنية للقضاة، والفصل في المطالب المهنية والاجتماعية التي سبق تقديمها يومي 26 جوان و21 سبتمبر من السنة الجارية”.
وطالبت النقابة وزير العدل بلقاسم زغماتي الكفّ عن تعامله “المتعالي” مع القضاة لأنهم “ليسوا قطيعًا يُساق بهذه المهانة، والادعاء بتطهير القضاء وتصنيف قضاته بصورة مشينة، ينطوي على نرجسية مَرَضية يتعيّن علاجها”، وحاولت الوزارة تهدئة الأوضاع بدعوتها القضاة الذين قد يعتبرون أنفسهم متضررين من الحركة السنوية التي أقرها المجلس الأعلى للقضاء في دورته الأولى العادية إلى تقديم طعونهم التي ستعرض في الدورة العادية الثانية التي ستنعقد في الأسبوع الثالث من شهر نوفمبر/تشرين الثاني.
ويبدو أن الشعبية التي يملكها الوزير بلقاسم زغماتي لدى المواطنين، كونه عرف سابقًا بخصومته مع نظام الرئيس بوتفليقة لم تكف في كبح جماح نقابة القضاة الغاضبة، خاصة أنها لقيت دعمًا من بعض أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، لكن السؤال الذي يُطرح بشأن احتجاج القضاة على تدخل الوزارة هو: لماذا جاء تحركهم بعد التغييرات التي أقرها بلقاسم زغماتي، ولم تكن احتجاجًا على حبس بعض ناشطي الحراك وشخصيات سياسية؟ الأمر الذي جعل البعض يشكك في خلفيات هذا الإضراب وحصره في مصالح شخصية لا علاقة لها بضرورة تحرير العدالة ومنحها الاستقلالية الكاملة.
استمرار
غير أن العودة إلى المطالبة بمعالجة المشاكل المهنية والاجتماعية للعمال لا يعني أن النقابات تخلت عن دعمها للحراك الشعبي الذي أعلنت انضمامها له منذ بدايته بل كانت أحد صناعه، فلا أحد ينسى أن من أهم الأسباب التي عجلت برحيل نظام بوتفليقة هي التحاق القضاة بالحراك ومشاركتهم في مظاهرات ومسيرات مع المحامين، مثلهم مثل مختلف النقابات الأخرى.
وأكدت كونفدرالية النقابات الجزائرية التي تضم تنظيمات عمالية من مختلف القطاعات أنها متمسكة بمواصلة “دعم الحراك الشعبي السلمي والعمل على تقويته إلى غاية تحقيق مطالبه المشروعة”، والمطالبة بـ”رحيل حكومة الوزير الأول نور الدين بدوي وتشكيلته غير الشرعية، مع رفض استغلال الظروف الحاليّة لتمرير مشاريع وإصدار قرارات وقوانين مصيرية ترهن مستقبل الأجيال وتمس بالسيادة الوطنية، على غرار قانون المحروقات وقانوني العمل والتقاعد”.
ولا تختلف مطالب النقابات في شقها السياسي عما يُنادى به في مسيرات الجمعة، فهي ما زالت تصر على “الإفراج الفوري عن معتقلي الرأي ونشطاء الحراك الشعبي السلمي مع إدانة جملة المتابعات التعسفية التي طالتهم، والتنديد بالتضييق الممنهج على الفضاء العمومي وحرية التظاهر والتنقل وغلق منافذ العاصمة”.
ولا يشكل تمسك النقابات بدعم الحراك الشعبي أمرًا جديدًا في الجزائر، لأن الطبقة العاملة كانت السباقة لتنظيم احتجاجات ضد السياسات المختلفة حتى في عز قوة نظام بوتفليقة، إلا أن التضييق والاختراق الذي مسها خلال فترة حكمه جعلها رغم صمودها غير قادرة اليوم أن تكون عاملاً فاعلاً بمستوى ما قام به اتحاد الشغل في تونس بعد ثورة الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي.
امتحان
لا يشكل غليان الجبهة الاجتماعية مشكلة اقتصادية للسلطة الحاليّة في البلاد فقط، بل إن توقيته يمثل إحراجًا حقيقيًا أيضًا لها قد تطال تبعاته الانتخابات الرئاسية المقررة في 12 من ديسمبر/كانون الأول المقبل.
ويقارب حجم الطبقة العاملة المنتمية للقطاع الحكومي نحو مليوني عامل أو يزيد، ما يعني أن غضبها من قرارات الحكومة قد يدفعها إلى الانخراط بجدية أكبر في الحراك المطالب بمقاطعة هذا الاستحقاق الانتخابي، ما يعني عدم مشاركة نحو مليون ناخب في يوم الاقتراع، وهو ما يعاكس أهداف السلطة الباحثة عن أكبر انضمام شعبي لهذا الموعد السياسي.
في حال استمر غضب الجبهة الاجتماعية سيفسد لا محال العرس الانتخابي، بالنظر إلى أن القضاة معنيون بمراقبة عملية الاقتراع من بدايتها إلى نهايتها
والسبت الماضي انتهت فترة إيداع ملفات الراغبين في الترشح للرئاسيات، الذين بلغ عددهم 22، سترد السلطة الوطنية للانتخابات على طلبات خوضهم المعترك الانتخابي بعد أسبوع من تاريخ آجال إيداع الترشيحات.
وفي حال استمر غضب الجبهة الاجتماعية سيفسد لا محال “العرس الانتخابي”، بالنظر إلى أن القضاة معنيون بمراقبة عملية الاقتراع من بدايتها إلى نهايتها، وأي حكم صادر منها بمقاطعة هذا الموعد قد يؤدي إلى التشكيك في نزاهتها وشفافيتها.
كما أن باقي الفئات العمالية الأخرى معنية أيضًا بالسير الحسن للانتخابات لأنها من ستتولى التأطير والمراقبة، خاصة العاملين في قطاع التعليم المعنيين بتنظيم الانتخابات، كون عملية الاقتراع ستجري في أقسام المدارس إضافة إلى أن الكثير منهم سيكونون معنيون بالعمل يوم الاقتراع لتيسير العملية الانتخابية.
ومع اقتراب الموعد المنتظر في ديسمبر/كانون الأول المقبل يومًا بعد يوم، يزداد امتحان السلطة الحاليّة صعوبة بشأن النجاح فيه، فهي مطالبة من جهة بامتصاص غضب الجبهة الاجتماعية وفي هذا الظرف الاقتصادي المتقشف، وكذا هزم الرافضين للمشاركة في هذا الاستحقاق من جهة أخرى بجعل أكبر عدد من الجزائريين يؤدون واجب الانتخاب رغم دعوات المشاركين في المظاهرات المنادين بتأجيل الرئاسيات حتى رحيل جميع رموز النظام السابق.