بعد أسبوعين من الصمود والتحدي نجح خلالهما المتظاهرون اللبنانيون في تقديم لوحة ثورية مبهجة لفتت أنظار العالم، متمسكين بشعارهم الثابت “كلن يعني كلن”، مطالبين بـ”إسقاط النظام”، ها هي السلطات الحاكمة تتفنن هي الأخرى في كيفية إجهاض هذا الحراك الذي تتسع رقعته يومًا تلو الآخر.
البداية كانت تقليل شأن هذه التحركات الغاضبة التي خرجت من قلب العاصمة بيروت لتتمدد إلى مختلف المدن والمناطق النائية، ثم اللجوء إلى سياسة الترهيب عبر التلويح بورقة الحرب الأهلية والاستعانة بأنصار “حزب الله” وحركة أمل لمناهضة الموجات الغاضبة في الشوارع والميادين.
وأمام هذه المحاولات التي تزامنت مع المسكنات التخديرية التي قدمها رئيس الحكومة سعد الحريري سواء بمهلة الـ72 ساعة الشهيرة أم التلويح بتقديم استقالته شرط الاتفاق على شخوص الحكومة الجديدة، يبدو أن السلطات تستهدف إستراتيجية جديدة للتخويف وذلك عبر استدعاء عدد من المتظاهرين للتحقيق معهم.
خطوة أثارت حفيظة الشارع الذي وصفها بأنها “محاولة ضغط” لإجهاض الحراك الذي يقترب ساعة تلو الأخرى من تحقيق أهدافه بعدما نجح في كسر تابوهات الطائفية والمحاصصة التي كانت تلجأ إليها الحكومة والقوى الداعمة لها في السابق لمناهضة أي احتجاجات شعبية، مؤكدين بقائهم في الشارع حتى تحقيق مطالبهم.
استدعاء المتظاهرين
البداية كانت من مدينة صور “جنوب” التي يسيطر عليها “حزب الله” وحركة أمل، المناهضان للانتفاضة الحاليّة، حيث انتشر عبر مواقع التواصل بيان صادر عن “حراك صور” جاء فيه: “متابعةً للأحداث على الساحة اللبنانية ولا سيما في مدينة صور.. فوجئنا البارحة باستدعاء مخفر صور لعشرات الشباب للتحقيق، ومنهم من هو قاصر وبينهم حالات مرضية”.
وتابع البيان: “الأخطر في هذا الموضوع هو أسلوب التحقيق الغريب ذات دلالة مخيفة تظهر تدخل سياسي واضح من أحزاب السلطة وتوجيه أسئلة للموقفين عن مواقفهم على وسائل التواصل الاجتماعي. يهمّنا في الحراك أن نؤكد أن من أهداف الثورة المطلبية التي انطلقنا بها تحرير المخافر ومؤسسات الدولة من الضغوط السياسية وما يحصل هو أكبر دليل على أحقية الاستمرار في مطالبنا”.
كما أكد “لا يجوز بحجة الاعتصام والمشاركة في حقوق مطلبية استدعاء من شارك في الاعتصامات والأجدى التحقيق مع من قصّر في أداء واجبه بحماية الممتلكات العامة والخاصة من تخريب قام به بعض المندسين.. وندعو أهالي المعتقلين إلى الاعتصام معنا غدًا أمام مخفر صور (الشّواكير) عند السّاعة 10 صباحًا، معًا نحو عدالة حقيقيّة”.
البيان أكد كذلك أن “من أهداف الثورة المطلبية التي انطلقنا بها تحرير المخافر ومؤسسات الدولة من الضغوط السياسية؛ وما يحصل هو أكبر دليل على أحقية الاستمرار في مطالبنا”، وشدد على عدم شرعية “استدعاء من شارك في الاعتصامات، والأجدى التحقيق مع من قصّر في أداء واجبه بحماية الممتلكات العامة والخاصة من تخريب قام به بعض المندسين”.
دلالات✌? بيان صادر عن حراك صور متابعةً للأحداث على الساحة اللبنانية ولا سيما في مدينة صور فوجئنا البارحة باستدعاء مخفر…
Posted by Dalal Abou Haydar on Monday, October 28, 2019
بعد الاعتداءات والتخوين ومحاولات الترهيب، برزت في مدينة صور، جنوب لبنان، أخيرًا سياسة جديدة لقمع المشاركين في التظاهرات الشعبية التي عمّت المدينة كما مختلف المناطق اللبنانية منذ 17 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، وتمثّلت باستدعاء وتوقيف عدد من المتظاهرين، وسط عدم استبعاد مطلعين على الأمر أن يكون ذلك مرتبطًا بإرادة سياسية في المنطقة بهدف تخويف المتظاهرين وردع غيرهم عن مواصلة الاحتجاج، علمًا بأن المدينة تابعة لسيطرة الحزبين الرئيسيين في الجنوب “حزب الله” و”حركة أمل”.
هذه الإجراءات في إطار “الترهيب لحثّ الناس على عدم النزول للشارع والمشاركة في التظاهرات، وهي إجراءات عودتنا عليها الأجهزة الأمنية”.. ناشط لبناني
الأمر ذاته أكدته “لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين”، في بيان اليوم أمس الإثنين، حين أشارت إلى أنه “منذ (الأحد) نتلقى عشرات الاتصالات للتبليغ عن استدعاءات بالجملة لمتظاهرين ومعتصمين في منطقة صور الجنوبية، وذلك على خلفية مشاركتهم في التحركات الشعبية وتعبيرهم عن آرائهم في الساحات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي”، وقد وثقت اللجنة 14 حالة من ضمنهم قاصرون.
وفي الإطار ذاته أشارت جمعية “إعلاميون ضد العنف” أن “القوى الأمنية اللبنانية استدعت منذ ساعات عشرات المواطنين للتحقيق معهم (17 موقوفًا لحد الآن) في مخفر صور الشواكير، ومنهم من هو قاصر بعمر 16 سنة”، مضيفة في بيان لها “هؤلاء الموقوفون شاركوا في الحراك الشعبي، وأوقفوا بذريعة حادثة حرق استراحة صور، حيث جرى استدعاء من شارك في الاعتصامات وإقفال الطرقات ووضع بوستات سياسية على الحسابات الشخصية التابعة لهم، كما الذين شاركوا في اعتصامات منطقة صور”.
وأدانت الجمعية هذه التوقيفات التي تمس حرية التعبير والاعتصام، محملة السلطات اللبنانية مسؤولية سلامة الناشطين، داعيةً إلى إطلاق سراحهم فورًا، كما دعت الأجهزة الأمنية والقضائية إلى احترام حرية التعبير، المصانة بالقانون اللبناني.
#ثورة_لبنان مستمرة .. من الشارع مش طالعين حتى اسقاط النظام
Posted by Beirut City on Monday, October 28, 2019
إستراتيجية جديدة للترهيب
المحامية ديالا شحادة ألمحت إلى وجود بُعد سياسي في هذه الخطوة، لافتة في تصريحات صحفية لها أن تلك الاستدعاءات لم تحصل إلى حد الآن إلا في مدينة صور، وترى في ذلك “محاولة للجم الناس عن التظاهر وحصر عددهم”، متسائلةً “إذا كان الشخص ارتكب جرمًا معينًا، لا سيما الشدة مع قوى الأمن، فلماذا لم يتم توقيفه فورًا، واستُدعي الآن”، وتعتبر أن “هناك استغلالاً للسلطة وللقضاء من أجل تخويف الناس”.
وعن الأسئلة التي وجهت للمستدعين أوضح الناشط في الحراك في مدينة صور، رائد عطايا، أن الأسئلة التي وجهت لهم خلال التحقيق معهم، كانت تتعلق بمنشورات لهم عبر حساباتهم بمواقع التواصل الاجتماعي، بشأن مشاركتهم في الاحتجاجات وحرق الإطارات وقطع الطرقات وشتم زعماء سياسيين ولا سيما رئيس مجلس النواب نبيه بري، وذلك بحسب ما أخبر ذووهم”.
رغم هطول أمطار كثيفة في أرجاء البلاد، واصل الغاضبون مسيراتهم لا سيما في ساحتي رياض الصلح والشهداء وسط بيروت
الناشط اللبناني يضع هذه الإجراءات في إطار “الترهيب لحث الناس على عدم النزول للشارع والمشاركة في التظاهرات، وهي إجراءات عودتنا عليها الأجهزة الأمنية”، وفق تعبيره، ويؤكد أن هذه الخطوة “سياسية بامتياز، وضغط من قوى الأمر الواقع في المدينة، ولكنها لن تثنينا عن مواصلة تحركاتنا”.
فيما ذهب آخرون على منصات السوشيال ميديا إلى أن الهدف الرئيسي من هذه الخطوة توصيل رسالة تحذير للمتظاهرين في المدن الأخرى بملاحقتهم حال أصروا على مواصلة حراكهم، لافتين إلى أن هذا الأسلوب معروف منذ سنوات طويلة لدى السلطة الحاكمة أيًا كانت هويتها.
نشطاء كشفوا أن مثل هذه الأساليب الترهيبية ما عادت تنطلي على الشعب اللبناني الذي فطن أخيرًا لحجم الكارثة، ونجح في إسقاط القناع عن جميع الوجوه دون استثناء، لافتين إلى أن تلك الوسائل التي تلجأ إليها السلطات للتخويف تزيد من وحدة الصف الثوري وتعمق مفهوم المشاركة تحت علم لبنان فقط، وهو المكتسب الأكبر الذي خرج به اللبنانيون من حراكهم حتى الآن.
سلاسل بشرية بطول لبنان بأكملها ..عااااش.. ربي ينصركم ✊?❤ pic.twitter.com/HcmkPnWbpt
— ? Shimaa Sami El_sherif ? (@__Insan) October 27, 2019
مستمرون.. لن نخاف
وردًا على إستراتيجيات الترهيب والتخويف واصل المتظاهرون حراكهم الثوري لليوم الـ13 على التوالي، حيث عمدوا إلى قطع الطرقات الرئيسية المحيطة ببيروت، فضلاً عن الطرقات الحيوية في المناطق الأخرى، بجانب استمرار غلق المصارف وتعليق الدراسة ببعض الأماكن.
ورغم هطول أمطار كثيفة في أرجاء البلاد، واصل المحتجون مسيراتهم لا سيما في ساحتي رياض الصلح والشهداء وسط بيروت، وساحة النور في مدينة طرابلس (شمال)، ومدن صيدا وصور (جنوب) وبعلبك في البقاع، كما واصل البعض الاعتصام في مدن عدة حتى الليل.
Our Revolution ♥️??♥️#لبنان__ينتفض pic.twitter.com/9SjxAOxTb5
— L ??❤️ (@LebaneseCrafter) October 28, 2019
وكما تتفنن السلطة ومؤيدوها في أساليب إجهاض الانتفاضة، يبدع اللبنانيون كذلك في مظاهر حراكهم، منها تنظيم آلاف المتظاهرين سلسلة بشرية امتدت على أجزاء واسعة من الخط الساحلي لمدينة طرابلس مرورًا بالعاصمة بيروت وصولاً إلى مدينة صور في الجنوب، وذلك على طول 170 كيلومترًا.
حيث اصطف المتظاهرون في مدن طرابلس وجبيل وجونية وساحل المتن والكورنيش البحري في بيروت ومدينة صيدا وعلى كورنيش مدينة صور، في محاولة لتوصيل رسالة واحدة للجميع تتمحور حول التأكيد على وحدة اللبنانيين وتواصل مناطقهم الجغرافية، بعيدًا عن الاصطفافات السياسية والحزبية والطائفية.