تحاول العديد من التيارات والأحزاب الدينية في العراق القفز من مركب الحكومة الغارق بموجات الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها البلاد منذ بداية أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، وتحاول أيضًا ركوب موجة الاحتجاج عبر إرسال رسائل للمحتجين أنهم معهم ومؤيدون لمطالبهم، لكن المتظاهرين يردون على ذلك بحرق مقار جميع الأحزاب، وخصوصًا في المحافظات الجنوبية التي تشهد احتجاجات عارمة، ترفع شعارات منددة بالطبقة السياسية أجمعها، وكذلك نظام الحكم.
يحاول “نون بوست” أن يستعرض في هذا التقرير مواقف التيارات والأحزاب والتحالفات من الاحتجاجات الشعبية، وكيف ينظرون إليها، وكيف ينظر إليهم المحتج الذي انتفض مطالبًا بإزاحتهم.
“الحكمة”.. أول من قفز
بالتزامن مع موجة الاحتجاجات الموسمية التي تشهدها المحافظات الجنوبية في كل صيف نتيجة تردي الخدمات وانقطاع التيار الكهربائي، تبنى تيار الحكمة الذي يتزعمه عمار الحكيم خيار المعارضة، ليكون أول تيار معارض لحكومة عادل عبد المهدي.
خيار الحكيم جاء بسبب عدم رضى تياره عن عملية تقاسم المناصب الحكومية عند تشكيل الحكومة الحاليّة، لكن تياره يمتلك 19 مقعدًا في البرلمان، بالإضافة إلى العديد من المسؤولين، سواء في الحكومات المحلية أم المركزية الذين ينتمون إليه.
ومع بروز احتجاجات أكتوبر الحاليّ يسعى الحكيم إلى التناغم معها، أملًا في ركوب موجتها وتجييرها لخدمة مصالحه السياسية وكسب كثير من المناصب، هكذا يقول المحتجون.
العبادي الحالم بالعودة
رئيس الوزراء السابق وزعيم ائتلاف النصر حيدر العبادي يُعدّ أحد أكثر المنتقدين للأداء الحكومي الحاليّ، متناسيًا حاله في عهده الذي كان يمتلك ائتلافه فيه 42 مقعدًا في البرلمان، وها هو يواصل تعبئته للشارع للتأثير عليهم، وخصوصًا المحتجين، في محاولة منه للعودة إلى الحكم.
تجدَّدَ أمل العبادي في انتزاع منصب رئاسة الوزراء من عبد المهدي عقب موجة الاحتجاجات الشعبية
العبادي الذي ذاع صيته محليًا ودوليًا عقب الحرب على داعش، يعد نفسه مخلّص العراق من الإرهاب والمساهم في انتزاع كركوك من سلطة إقليم كردستان، ويعده اليوم كثير من العراقيين أحد أبرز المستفيدين مما يحصل لحكومة عبد المهدي.
“الحكومة فقدت الأهلية بإدارة الحكم”، الحديث للعبادي الذي يتهم عبد المهدي بقمع حركة الاحتجاجات الشعبية، متناسيًا ما حصل لهم في عهده بالبصرة، حيث قَتل عددًا من المحتجين المطالبين بالإصلاح أيضًا.
تجدَّدَ أمل العبادي في انتزاع منصب رئاسة الوزراء من عبد المهدي عقب موجة الاحتجاجات الشعبية، وأخذ يغازل المتظاهرين قائلًا: “خذوا قناصيكم وجماعاتكم المسلحة وإرهابييكم وعصابات الجريمة والتزوير واتركوا لنا وطننا الحر الذي ضحى العراقيون من أجله”.
لكن تحالف الفتح ومعه كتل أخرى أجهضت أحلام العبادي، وتصر أيضًا على حرمانه من المنصب، وهو ما جعله معارضًا شرسًا لهم ولخلفه عبد المهدي، ويحاول اقتناص أي فرصة للإطاحة بهم جميعًا.
“سائرون”.. نحو المعارضة
“سائرون” المعارِضة، والمتظاهرة، والحكومة، جميع الصفات تنطبق على التحالف الذي يدعمه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، يوصف بالكتلة المتخبطة التي لا يفهمها أحد، كل ذلك نتيجة التقلبات السريعة في المواقف.
قليلًا إلى الوراء، حيث الأيام الأولى لتشكيل الحكومة، إذ شُكلت حكومة عبد المهدي بتفاهم بين تحالفي الفتح وسائرون، لكن الأخير اليوم يعارضها، وقرر نوابه الـ54 اللجوء إلى خيار الاعتصام في البرلمان في خطوة لإعلان البراءة رسميًا من حكومة عبد المهدي والتخلي عنه، لكن خيار المعارضة لم يشمل سحب الأشخاص الممثلين في الحكومة، فاكتفى بأعضاء البرلمان.
يتمتع التيار الصدري بشعبية كبيرة جدًا، وقاد احتجاجات عديدة، غير أن كثيرًا من العراقيين يخشون من تصدره هذه الاحتجاجات، لأنها غير محسوبة على أي جهة سياسية أو دينية، انعكس ذلك على فقدان التيار جزءًا كبيرًا من شعبيته عبر مشاركة أنصاره في الاحتجاجات الحاليّة خالعين ثوب التيار.
الفتح يمهل الحكومة!
الأحزاب التي تدعم عبد المهدي، ومنها الفتح، ترى أنّ أطرافًا سياسية تسعى لإسقاط الحكومة من بوابة التظاهرات، بعيدًا عن شعارات الإصلاح.
“الفتح” أحد قطبي تشكيل الحكومة مع “سائرون”، الذي يبدو أنه انضمّ إلى سياسة القفز من المركب، يُعدُّ ثاني أكبر كتلة نيابية، إذ يمتلك 48 مقعدًا، حيث يمهل الحكومة التي شكلها أيامًا معدودة أيضًا، لتنفيذ مطالب المتظاهرين.
تحالف الفتح الذي يضم غالبية الفصائل المسلحة يقول إنه يقف مع المطالب المشروعة للمتظاهرين، ويطالب الحكومة بإطلاق حزمة إصلاحات واقعية وجريئة بتوقيتات زمنية محددة تلبي متطلباتهم، لكن العديد من قادته يتهمون جهات خارجية ومنها واشنطن، بدعم حركة الاحتجاجات الشعبية، في مسعى لشيطنتها وتجريدها من عفويتها وإعطاء مبرر لقمعها.
غضب يحرق الأحزاب
صبَّ المتظاهرون جام غضبهم على الأحزاب الدينية ومقارّها في جنوب العراق، وذلك بعد سنوات من الفشل في تقديم الخدمات لهم، وعقب مقتل عدد من المتظاهرين بنيران مسلحين ينتمون إلى تلك الأحزاب، وعلى إثر ذلك أحرق المحتجون عددًا من المقارّ الحزبية.
وأصبحت الكثير من المدن الجنوبية في العراق، التي كانت يومًا ما معقلاً لتلك الأحزاب، خالية من المقار الحزبية، وكلف ذلك المتظاهرين ثمنًا باهظًا، حيث سقط كثيرون منهم بنيران حمايات تلك المباني، وخلف ذلك أيضًا موجة غضب جديدة بالنسبة إليهم، فيما ردت الفصائل المسلحة عليهم وتوعدت بـ”الثأر” ممن قادوا الهجمات الليلية على مقارهم.
لا خطوط حمراء
تحاول العديد من التيارات السياسية والدينية في العراق ركوب موجة التظاهرات، كما حصل في مناسبات سابقة، وتخشى أخرى أن تُفسد حركة الاحتجاج الشعبي توظيفها السياسي للدين، فيما تفقد أخرى القدرة على التحكم في مسار التظاهرات، وعقب كل ذلك، وبعد سنوات، تجرّع في أثنائها العراقيون صنوفًا من المعاناة، أدرك هذا الشعب أنه كان جسرًا لأكثر من عقد ونصف عبرت عليه الأحزاب الدينية وحققت أهدافها الخاصة مستغلة ثوب الدين.
“باسم الدين سرقونا الحرامية” هو الشعار الذي يردده المحتجون اليوم، وهو الذي يبين أيضًا مدى تمرد الجيل الحاليّ على ما يسمى “الخطوط الحمراء” التي كانت المرجعيات تكبله به على مدى أكثر من 16 عامًا.