مرّ أسبوعين تقريبًا على انتفاضة اللبنانيين بوجه الطبقة السياسية الحاكمة دون أن يتراجع زخم التظاهرات أو يتقلص حجم المطالب، بينما قدم رئيس الحكومة سعد الحريري استقالة حكومته بعد أن فشلت الورقة الإصلاحية الاقتصادية الاجتماعية التي أقرتها في إقناع المتظاهرين بالعودة إلى المنازل، لانعدام ثقتهم بتلك الطبقة في تطبيق الإصلاحات.
أسباب الانتفاضة
يعاني لبنان منذ فترة طويلة من أزمة اجتماعية واقتصادية حادة لم تجد طريقها لأي حل في ظل حالة الفساد المستشرية والمتحكمة بمفاصل الإدارة اللبنانية والمستندة إلى نظام سياسي طائفي استعصى ويستعصي على التغيير والإصلاح، فضلًا عن سياسة الزبائنية والمحاصصة التي تحكم العلاقات بين أطراف السلطة، وقد أوصل هذا الوضع لبنان إلى الوقوع تحت دين عام بلغ قرابة مئة مليار دولار أمريكي في ظل تراجع النمو وارتفاع مستوى البطالة، يضاف إليها عقوبات اقتصادية أمريكية استهدفت بشكل أساسي حزب الله، وفي بعض الأحيان محيطين به ومؤسسات اقتصادية قريبة منه.
وترافق ذلك أيضًا مع تهديدات أمريكية مستمرة ومتواصلة بمزيد من العقوبات على المصارف اللبنانية، وأمام هذا الواقع الاقتصادي المأزوم والخوف من الانهيار الاقتصادي، لجأت الحكومة إلى إقرار موازنة العام 2019 متضمنة بعض الضرائب والرسوم التي طالت الطبقة الفقيرة من أجل خفض العجز في الموازنة، كما كانت الحكومة تناقش موازنة العام 2020 وتدرس إمكانية فرض مزيد من الضرائب، وفي هذا الجو أعلن وزير الإعلام عقب جلسة الحكومة يوم الخميس 17 من أكتوبر/تشرين الأول 2019 قرارًا بفرض ضريبة 6 دولارات أمريكية على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي (واتساب) فكانت تلك “القشة التي قصمت ظهر البعير”، ودفعت الناس للخروج إلى الشارع في حركة احتجاج تخطت الانقسامات الطائفية والمذهبية والسياسية والمناطقية، ورفضت تلك الضرائب، ثم سرعان ما كبرت الحركة وكبرت معها المطالب من رفض الضرائب إلى استقالة الحكومة، ومن ثم إلى مطلب إسقاط العهد (رئيس الجمهوية) وكل الطبقة السياسية، وهو ما أدخل البلد في أتون أزمة جديدة كانت أو ربما تحولت إلى أزمة نظام ومن دون أن تلغي الأزمة الاقتصادية.
الورقة الإصلاحية
أمام الحركة الاحتجاجية التي بدأها المواطنون الغاضبون في كل لبنان، وأمام ارتفاع سقف المطالب، خرج رئيس الحكومة سعد الحريري على الناس بخطاب متلفز بعد ساعات من بداية الاحتجاج، طلب فيه من شركائه في السلطة والحكومة الموافقة على حزمة إصلاحات لإخراج البلد من الأزمة والناس من الشارع، واتهم بعض الأطراف الشريكة بالسلطة بعرقلة المسار الإصلاحي، وأعطاهم مهلة 72 ساعة للمعالجة وإلا فإنه قد يتخذ قرارًا مهمًا ملوحًا بذلك باستقالته.
كرة ثلج المطالب كانت تتدحرج وتكبر وتصر على رحيل كل الطبقة السياسية بمن فيهم رئيس الجمهورية
وبالفعل اجتمعت الحكومة ووافقت على حزمة إصلاحات اجتماعية واقتصادية متقدمة (مع تسجيل البعض ملاحظات عليها) إلا أن المتظاهرين لم يقتنعوا بهذه الورقة لانعدام ثقتهم بالطبقة السياسية والسلطة، لذا ظل الشارع مشتعلًا بالتظاهرات وقطع الطرقات والإضرابات التي شلت مختلف القطاعات في البلد.
هذا الواقع دفع رئيس الجمهورية ميشال عون، للخروج إلى الناس بكلمة مسجلة اعترف فيها بالأزمة الاقتصادية وحمّل الأطراف الشريكة له في السلطة المسؤولية عن الإخفاق في الاصلاح، ودعا المتظاهرين للخروج من الطرقات واختيار من يمثلهم للدخول في حوار للخروج من الأزمة، كما أبدى انفتاحًا على أي تعديل أو تغيير وزاري يحل الأزمة. لكن كرة ثلج المطالب كانت تتدحرج وتكبر وتصر على رحيل كل الطبقة السياسية بمن فيهم رئيس الجمهورية، ما حدا بأمين عام حزب الله، حسن نصر الله، إلى الدخول على الخط، وإعلان تأييد المطالب الاقتصادية الاجتماعية من ناحية، إلا أنه أرخى بظلال من الشك على الحراك الشعبي لناحية التمويل والتنظيم والاستغلال، وأبدى رفضه دخول البلد في حالة فراغ أو فوضى، كما رفض إسقاط العهدة أو تغيير الحكومة أو إجراء انتخابات نيابية مبكرة، وتخوف من مشروع سياسي يستهدف حزب الله بشكل أساسي يختبئ خلف المطالب الاجتماعية والاقتصادية المحقة، وهذا ما أدخل لبنان حالة جديدة باتت الخشية فيها كبيرة من انزلاق البلد إلى مربع مجهول.
مآلات الانتفاضة
في ظل المطالب السياسية ودخول عوامل الاستثمار السياسي الداخلي والخارجي من ناحية، والهواجس والقلق من ناحية ثانية، واستقالة الحكومة من ناحية ثالثة يمكن رسم المآلات والتصورات التالية لانتفاضة اللبنانيين:
– الذهاب إلى تسوية تقدم إصلاحات سياسية تقنع المتظاهرين بالخروج من الساحات وتعطي فرصة جديدة لالتقاط الأنفاس، حتى في ظل استقالة الحكومة لأن من صلاحيات رئيس الجمهورية أن يقبل أو يرفض الاستقالة، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرئيس قبل قرابة عامين رفض استقالة الحريري التي أعلنها تحت الضغط من الرياض في تشرين من العام 2017.
وأساس هذه التسوية يكون عبر تغيير حكومي أو تعديل حكومي يطال الوجوه التي تعتبر مستفزة في الحكومة، وربما بات هذا متاحًا إذا توافقت القوى السياسية عليه، خاصة في ظل الفوضى التي كادت تنزلق بالبلد نحو المجهول يوم الثلاثاء، ولكن دون هذا التصور عقبات يأتي في مقدمتها مصير وزير الخارجية رئيس التيار الوطني الحر صهر الرئيس، جبران باسيل، وهو يعتبر من أكثر الوجوه المستفزة في الحكومة بالنسبة للمتظاهرين، حيث يرفض رئيس الجمهورية وحتى حزب الله خروج باسيل من الحكومة إلا أن النقاش لم يُقفل بعد على هذا التصور وقد يكون هو الأكثر واقعية والأقل كلفة على البلد، خاصة بعد استقالة الحريري وصعوبة الاتفاق على حكومة مصغرة أو صاحبة اختصاص.
– أن تتمسك السلطة بموقفها وترفض تقديم أي تنازل سياسي بالتزامن مع انعدام الثقة بها، ويتمسك المتظاهرون بالساحات دون تراجع أيضًا وهنا تراهن السلطة على تعب المتظاهرين وتراجعهم، بينما يراهن المتظاهرون على اتساع دائرة المشاركين بحمل مطالبهم، خاصة بعد تقديم الحريري استقالة الحكومة، إذ يعتبر المتظاهرون أنهم حققوا نصرًا وإنجازًا بذلك، وهذا التصور قد يفضي إلى صدام بين الطرفين، كما حصل في فوضى يوم الثلاثاء عندما هجم شباب من مناصري بعض الأحزاب المساندة للسلطة على المتظاهرين، مع ما يعنيه ذلك من إعادة إنتاج الانقسام في لبنان، والدخول في حالة فوضى ومجهول لا يعرف أي طرف كيف يتم الخروج منه ولا كيفية المشهد بعده.
– أن تخضع السلطة بعد استقالة الحكومة بتكر السبحة ويتم عزل أو إقالة النظام بشكل عام، وهذا يدخل البلد في حالة فراغ سيليها صراع من أشكال متعددة لبناء نظام جديد أو حتى حكومة جديدة وهي تحمل مخاطر عالية على مجمل المشهد اللبناني.
يبقى أن العامل الرئيسي الذي بات يحرك المشهد حاليًّا هو الهواجس التي طرحها حزب الله بشأن خلفية الجهات التي تمول وتحرك الانتفاضة، ما جعل هذه الانتفاضة بين سندان المطالب المحقة ومطرقة الفراغ القاتل على أمل أن يخرج من هذا المشهد حل يرضي الجميع ويحفظ لبنان.